Skip to main content

منظمات المجتمع المدني في العراق وأثرها في التحولات الديمقراطية

 المقدمة:

منظمات المجتمع المدني ضرورة حضارية  تؤشر تقدم الشعوب ونهضتها وتقدمها , وتعتني الدول بموضوعة تأسيسها ودعمها من خلال سن القوانين والانظمة والتشريعات التي تساعدها في بناء هيكلها الاداري .

ولم تكن ولادة منظمات المجتمع المدني العراقي ولادة طبيعية وسهلة رغم تاريخ نشأة هذه المنظمات الذي يعود لبدايات القرن الماضي . لقد شهدت الفترة التي أعقبت احداث عام 2003 تأسيس المئات من منظمات المجتمع المدني في عموم العراق مع عدم فعالية بعضها  . ولا يخفى على احد الدور الكبير الذي لعبته المنظمات الدولية التي عملت في العراق بعد التغيير من تقديم يد العون والمساعدة لإعداد كبيرة من المنظمات تمثلت بالتدريب وإعداد كوادر المنظمات في دورات داخل وخارج البلد وتمويل البرامج والأنشطة التي ساهمت  بشكل ملحوظ في بناء هذه المنظمات. لقد استطاعت منظمات المجتمع المدني وخلال فترة زمنية قصيرة من لعب أدورا مهمة وأساسية  شملت تقديم المساعدات الإنسانية لضحايا الحرب واعمال العنف وتوفير الدعم القانوني للفئات المهمشة والمستضعفة ونشر وترسيخ مبادئ السلام والتعايش السلمي وثقافة حقوق الإنسان والمساواة في النوع الاجتماعي وتمكين المرأة ومكافحة الفساد ومراقبة الانتخابات البرلمانية ومجالس الحافظات  وغيرها الكثير من المواضيع. لكن ورغم هذه الأدوار المهمة واجهت العديد من منظمات المجتمع المدني العراقي الكثير من المشاكل والتحديات والمصاعب  نتيجة للوضع السياسي والأمني الذي تمر به البلاد وانحسار مصادر التمويل النزيه الذي يشكل عصب الحياة لهذه المنظمات,والفساد المالي الذي نخر مصداقية بعضها. 

يقول هايمن" Hyman في كتابه (التـنشئة السياسية) : أن عملية تعلم الفرد المعايير الاجتماعية عن طريق مؤسسات المجتمع المختلفة هي ضرورة قصوى تقضيها أساسيات العمل السياسي الواعي والهادف ,لأن التـنشئة السياسية هي جزء من التنشئة الاجتماعية والتي من خلالها يكتسب الفرد الاتجاهات والقيم السائدة في المجتمع, كما تعتبر التنشئة السياسية والوعي الديمقراطي وسيلة لتصحيح الثقافة السياسية المنحرفة في المجتمع، وخلق ثقافة مدنية جديدة ومتحضرة للعبور بالمجتمع من حالة التخلف والجهل  إلى التقدم والحرية والتعلم.

والأنظمة السياسية الديمقراطية والدكتاتورية تحاول ان تؤثر في التنشئة السياسية والديمقراطية للفرد من خلال استهداف أفكاره عن طريق غرس معلومات وقيم وممارسات يستطيع من خلالها تكوين مواقفه واتجاهاته الفكرية  التي تؤثر في سلوكه السياسي. وهذا السلوك يلعب دورا في فاعلية الفرد السياسية في المجتمع, لذلك تلجأ الانظمة السياسية الحاكمة الى خلق قيم وأيدولوجيات مقبولة ومشروعة لها في عيون شعوبها.

وبما إن التنشئة السياسية والديمقراطية هي عملية تأهيلية وتعليمية وتثقيفية وتربوية يخضع لها الفرد من أجل تفعيل دوره في المجتمع, لذا ينبغي أن تتحمل مسؤولية التنشئة السياسية والديمقراطية للفرد مؤسسات المجتمع المدني, لكونها مؤسسات مستقلة. وبذلك تملك القدرة على التفاعل الايجابي في التعاطي مع مفهوم التنشئة السياسية كمادة تثقيفية بعيدا عن الاغراض المسبقة, من خلال الدور الذي تتقلده داخل إطار المجتمع وعلاقتها بالدولة.

وهي مدعوة أكثر من غيرها في عملية التنشئة السياسية والديمقراطية على وجه الخصوص, من خلال تأهيل وتثقيف الفرد باعتباره كائناً سياسياً مؤثراً في المجتمع ضمن معطى سياسي معين, ويأتي ذلك نتيجة التطور والتحول السياسي للمجتمع وطبيعة نظامه السياسي السائد ومعاييره الفكرية ومرونته الديمقراطية والانفتاح محلياً وإقليمياً وعالميا.(1)  لذلك تعتبر هذه المهمة أساسية في عمل منظمات المجتمع المدني لأنها تخلق وعي حقوقي لحقوق الانسان والمجتمع,  و بالرغم من الاعداد الهائلة من منظمات المجتمع المدني التي تأسست بعد التغيير عام 2003 فإن مؤشرات تأثيرها في المجتمع والدولة ظلّت مبهمة  وضعيفة، فضلا عن غيابها عن ساحة العمل الفعلي الميداني التوعوي. وهناك اليوم اسئلة عديدة برزت عمّا قامت به هذه المنظمات من اعمال ساهمت بصورة ولو جزئية في ان تقدم للمجتمع فوائد معنوية او مادية.(2)

أن بناء منظمات المجتمع المدني في العراق تطور بشكل بطيء جدا مع تأريخ نشأتها الطويل ,فكانت هناك للأحزاب والتيارات تجمعات وواجهات لكل شرائح المجتمع العمال والفلاحين والطلبة والمهن الاخرى, لكن تكمن مشكلتها في التسلط و الالتزام الايدلوجي الذي عطلها عن حرية الحركة, مع ذلك كان لها دور في ثورات وانتفاضات وتظاهرات المرحلة.

لذلك حتى تنجح المطلوب المزيد من  الدور التثقيفي والاعلامي لتأخذ دورها الفعال في تبني مصالح وحقوق الناس بغض النظر عن قبول الحكومات او الاحزاب الداعمة لها والشفافية لبرامجها وتوجهاتها السياسية.

لكن حتى نفهم دورها لابد من تحديد ماهية مصطلح المجتمع المدني, "ان مفهوم المجتمع المدني، كما هو حال الديمقراطية ليست مصطلحاً علمياً يمكن بالتالي تعريفه بصورة منهجية ، بل هو مجرد تعبير لغوي وحتى في هذه الحالة يكتنفه الكثير من الغموض من حيث شموليته وشروطه ومتطلباته واهدافه ووظائفه الشاملة وغير المحددة. وبالنتيجة فهو قابل لتفسيرات مختلفة حسب وجهة نظر الباحث وارتباطه الفكرية والفئوية والطبقية) (3)

ويتجه البعض لتعريفه على أنه "المجتمع الذي يمارس فيه الحكم على أساس أغلبية سياسية حزبية، وتحترم فيه حقوق المواطن السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية في حدها الادنى على الاقل.(4)

ويتحدد المفهوم الاصطلاحي لمنظمات المجتمع المدني من خلال  مصطلح (المجتمع المدني) يشير الى انه عبارة عن مجموعة من البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية التي تنظم في اطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع ويحدث ذلك بصورة ديناميكية مستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة. (5)

  وهناك من يعرف المجتمع المدني بكونه "مجموعة من البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تنتظم في اطارها شبكة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات والهياكل الاجتماعية المختلفة في المجتمع، وتنشأ هذه المؤسسات بشكل طوعي واختياري بمعزل عن الدولة أي (المجتمع السياسي) لتحد من انفرادية الاخير بالسلطة.(6)

وتتسع المفاهيم وتختلف الوظائف طبقا للأهداف السياسية والتكوينات الايدلوجية...فيعرفه المفكر كارل ماركس

"(البنية التحتية التي تحدد معالم البنية الفوقية ، وبعبارة اخرى ان المجتمع المدني هو ميدان لصراع الطبقات)(7)

ولمفهوم المجتمع المدنيCivil society تأريـخ طويل. نضج في الغرب على يد الفيلسوف أرسطو طاليس والذي دعا إلى تكوين مجتمع سياسي(البرلمان) تسود فيه حرية التعبير عن الرأي و يقوم بتشريع القوانين لحماية العدالة والمساواة إلا أن المشاركة تقتصر في هذا المجتمع السياسي على مجموعة من النخب في المجتمع دون إعطاء الحق للمرآة و العمال. وامتدادا لنفس الفكرة التي تدعو إلى ضرورة المجتمع السياسي ساهم جون لوك "John Lock " في القرن السابع عشر إلى قيام حركة داخل المجتمع السياسي ذات سلطة تنفيذية و صلاحيات لمعالجة الخلافات وتنظيم حالة الفوضى وإيجاد حلول للنزعات التي يمكن أن تنشأ. ظلت مفاهيم المجتمع المدني عائمة إلى أن جاء هيجل " Hegel " في القرن التاسع عشر حيث ادرج المجتمع المدني ما بين مؤسسات الدولة (ذات السلطة) و المجتمع التجاري-الاقتصادي (القائم على أساس الربح) سعيا منه لرفع قدرة المجتمع على التنظيم و التوازن. وعلى نفس خطي هيجل سعى المفكر الاشتراكي غرامشي (1891-1937 Antonio Gramsci) إلى تطوير هذا المفهوم من خلال زج المثقف العضوي في عملية تشكيل الرأي و رفع المستوى الثقافي. في ذلك كانت دعوة ضرورة تكوين منظمات اجتماعية و مهنية نقابية و تعددية حزبية لهدف اجتماعي صريح يضع البناء الفوقي في حالة غير متنافرة مع البناء التحتي و إيجاد طريقة للتفاعل الحيوي المستمر بينهما. وكتب المفكر الإيطالي روبرت بوتنام "Robert Putnam"كلما تواجدت مؤسسات المجتمع المدني وأدت دورها كلما كانت الديمقراطية أقوى و اكثر فعالية"(8)

... ويتفق اغلب المهتمين والمختصين والعاملين والمتطوعين بنشاطات وفعاليات واعمال وثقافة المجتمع المدني على ان اهم اركانه ومكوناته الاساسية تشمل :

1- النقابات والتنظيمات المهنية

2- المؤسسات الدينية  

3- المنظمات والنشاطات الاجتماعية والعائلية

4- المنظمات الشعبية والجماهيرية  

5- الاندية الاجتماعية والرياضية ومراكز الشباب  

6- الاتحادات العمالية والمهنية  

7- منظمات الشعوب الاصيلة.

والمجتمع المدني هو موضوع حيوي ومواكب للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحصل في المجتمع مما يتطلب تنسيق الجهود وتوحيدها(9) للقيام بالأنشطة الرئيسية لها مثل :

- تقديم المساعدات الانسانية ومشاريع الاغاثة .

- مناصرة قضايا حقوق الانسان والتوعية بها .

- عمليات تأهيل المناطق السكنية واعادة توطين المجموعات البشرية فيها .

- الاعمال الخيرية.

- الانشطة التعليمية والصحية والثقافية .

- عمليات حماية البيئة .

- الاعمار الاقتصادي والتنمية .

- الترويج للممارسات الديمقراطية .

- تطوير المجتمع المدني .

- الترويج للمساواة بين الجنسين .

- القيام بأي نشاط آخر غير ربحي يخدم المصلحة العامة . 10)

ولغرض تسليط الضوء على هذا الموضوع الحيوي سنتناوله من خلال مبحثين

المبحث الاول: تاريخ منظمات المجتمع المدني في العراق.

المبحث الثاني: التحولات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني.

المبحث الاول: تاريخ منظمات المجتمع المدني في العراق

العراق بلد الحضارة والعلم والتقدم الذي امتد وجوده الاف السنين, نظم فعالياته المختلفة بشكل منظم من خلال وضع اسس وقواعد تحكم اعمالها ومنها منظمات المجتمع المدني التي كان لها الدور البارز في الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في كل المراحل, وحتى يمكن ان نثبت فهم واضح للتطور التاريخي لها لابد ان نتناولها على اساس المراحل التاريخية والطبيعة السياسية لكل مرحله بموضوعية وحياد.

الفرع الاول: من عام 1921-1958  

تطورت مكونات المجتمع المدني الحديث في العـراق منذ إصلاحات مدحـت بـاشـا (1872)، وتواصلت في العهد الملكي (1921-1958)، بوتيرة متسارعة. وكانت في الواقع عملية تحديث لمجتمع زراعي انتقل من أشكال التنظيم لقرابيه التقليدية، كالقبائل والعشائر، وبيوتات الأشراف والأعيان، والأصناف الحرفية، إلى مجتمع يعتمد معايير الثروة والتعليم الحديث، من دون أن يفقد ماضيه التقليدي بالمرة. فهو مجتمع انتقالي، تتجاور فيه الطبقات الحديثة، مع الفئات التقليدية، وتقع بين الاثنتين فئات وسيطة تحمل شيئا من هذا وذاك. ترعرعت طبقة من التجار والصناعيين والمصرفيين والمقاولين في قطاع خاص، على أساس اقتصاد السوق، وباتت قوة مجتمعية يحسب لها حساب. كما نشأت، قبلها، طبقة قوية من كبار ملاك الأرض.

وأدت عمليات التحديث، أيضا، إلى نشوء طبقات وسطى تعتمد بالأساس التعليم الحديث، مثلما تعتمد على الملكية ورأس المال في جانب.

وتبلورت طبقات عاملة في الصناعات الحديثة، وطبقة فلاحية معدمة في الأرياف. بإزاء نشوء الثروة الاجتماعية كمجال مستقل نسبياً، نمت أيضا اتحادات وجمعيات وحركات اجتماعية، تعبر عن هذه المصالح، وتذوِد عنها، ضاغطة على المجال السياسي. وبموازاة ذلك أيضاً، ازدهرت بشكل نسبي صحافة ومجال معلوماتي غير حكومي.(11).كان لتسلط الاقطاع وامتلاكه لكل وسائل الانتاج دور في موضوعة الحقوق المدنية التي امتلكوها بقوة, لذلك كان الظلم والاستبداد, والاشارات التاريخية سجلت تعسفهم والضيم الذي كان يعاني منه الانسان البسيط في مناطق جنوب العراق ووسطه وشماله.

وكانت اول اشاره رسمية وقانونية لشرعية تشكيل منظمات المجتمع المدني جاءت في القانون الأساسي العراقي لسنة 1925م فقد جاء في المادة الثانية عشر (أن للعراقيين حرية أبداء الرأي والنشر والاجتماع وتأليف الجمعيات والانضمام إليها ضمن حدود القانون) وهذه أول بادرة إلى تكوين منظمات مجتمع مدني, ومثلما كانت حقبة الضعف العثماني حقبة ازدهار للعمل السياسي، كانت بداية الاحتلال مناسبة لتشكيل تنظيمات سياسية جديدة، سرية وعلنية، وأعيد الاعتبار للحياة المدنية بعد ما انحسر ظل الدولة العثمانية عن العراق(13) وعند تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام ١٩٢١م واعلان النظام الملكي في العراق تأسست العديد من المنظمات في تلك الفترة سواء كانت طلابية ام نسائية ام نقابية الى وجود العديد من الجمعيات الخيرية والثقافية التي كانت تمارس نشاطها وفعالياتها وصدرت عدة قوانين تنظم عملها مثل قانون الجمعيات الذي صدر في العهد العثماني ثم صدر قانون عام ١٩٢٢وقانون ١٩٥٤ وقانون١٩٥٥..(12) وفي العقود المبكرة من العهد الملكي في العشرينات والثلاثينات -كانت العناصر المختلفة لطبقة ملاك الاراضي المسيطرة اجتماعياً -المشايخ والأغوات العشائرية و(السادة) العشائريون والحضريون، وفي الاربعينات والخمسينات رصدت هذه العناصر صفوفها مبنية مصالحها المشتركة في المواضيع الهامة كالضرائب والمناصب والدفاع عن النظام الاجتماعي الذين يجنون الفائدة.(13)

إن الجمعيات والمؤسسات في تلك الفترة كانت خاضعة بشكل أو بآخر الى سلطة ورقابة الدولة ثم اصبحت تدريجياً امتداداً طبيعياً لمؤسسات السلطة السياسية 14),وفي فترة الثلاثينيات حيث كثرت الانقلابات العسكرية وتنامي الدور الوطني للحركات السياسية والصراع الحاصل بين الحكومة ومعارضتها , لم تحقق هذه الجمعيات او المؤسسات نجاحات حقيقية سواء في المجالات الثقافية او الاجتماعية كما إن النظام الذي كان يسيطر على مقاليد الحكم لم يكن نظاماً ديمقراطياً بل كان نظاماً ملكياً لم يفتح المجال لنشوء وتطور مجتمع مدني حقيقي في تلك الفترة  (15)  أننا نرى أن هذه المرحلة شهدت بدايات حقيقيه للنقابات والجمعيات أكدت وجودها من خلال بروزها على مسرح الحياة السياسية ونضالها من اجل الجماهير ومن أبرز النقابات في تلك الفترة نقابة عمال السكايرة ونقابة النفط  واتحادات الطلاب والفلاحين والمعلمين والمهن الاخرى التي ساهمت في الكثير من الانتفاضات الشعبية .

الفرع الثاني :العهد الجمهوري لغاية عام 2003م شهدت عدم الاستقرار السياسي الذي تمثل بالاغتيالات السياسية والانقلابات الفاشلة المتعددة، وثلاثة تغيرات ناجحة أدت الى تغييرات في النظام. وأعاقت بشكل كبير تنمية المجتمع المدني خلال هذه المرحلة . ان مصطلح العهد الجمهوري مضلل في الواقع. حيث هيمنت السياسة العسكرية على العراق طوال هذه الفترة، وقد تم تقديم القليل القليل في مجال تطوير المؤسسات الديمقراطية أو استعادة المجتمع المدني العراقي.

خلال المرحلة الجمهورية السابقة، تمكنت بعض المنظمات الوطنية القوية الحفاظ على مستوى معقول من الأحادية والاستقلال في وضعها وعملياتها ، مثل جمعية الهلال الأحمر العراقية  وعدد من الجمعيات الثقافية والتعليمية. (16)ويبدوا أن فرصة منظمات المجتمع المدني بالانتعاش والتطور اصيبت بالشلل النسبي نتيجة  تدخل الدولة واحزاب السلطة على هيكليتها وتسير أعمالها حيث تم تجير نشاطاتها لهم, ورغم أن الفترة الجمهورية اقتصرت من الناحية القانونية على منظمات المجتمع المدني المهنية، إلا أنها بقيت ضعيفة ومشلولة أمام سلطة تنفيذية طاغية، هذا باستثناء بعض المحاولات لإثبات وجودها كما في الاضرابات النقابية في بغداد (عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قاسم) الذي شهد محاولة فاشلة (١٩٦٠) لإحياء منظمات المجتمع المدني في استمرار غياب الدستور الدائم، وكذلك المحاولات المحدودة التي ابدتها بعض المنظمات المهنية لتأكيد استقلالها في اجراءاتها الانتخابية (عهد العارفين) (17),ونرى ان منظمات المجتمع كانت بحاجه لقوانين تشريعية يتضمنها دستور دائم للبلاد تتضمن عبارات واضحه تؤكد اولا استقلاليتها ورفض وصاية وهيمنة الدولة والاحزاب ثانيا ان هذه المنظمات كانت بحاجة لكوادر قيادية واعية تفهم اساليب وطرق العمل في هذه المنظمات وثالثا كان من المكمن التحري عن هذه المنظمات ومعرفة مصادر تمويلها لغرض سلامة عملها, رابعا ان الحروب الكثيرة التي مرت على العراق خلال هذه الفترة وانشغال المجتمع بالعسكرة اضعف لحد كبير نشاطها وفعالياتها التعبوية التي يفترض ان تصب في خدمة الانسان وتطلعاته المشروعة نحو الحياة المستقرة والأمنه.

الفرع الثالث: ما بعد 2003

مع كثرة وتعدد منظمات المجتمع المدني وتنوع نشاطاتها ألا انها لم تقم  بدورها بشكل فعال في ازالة مخلفات نتاج سنين طويلة من المعاناة التي عاشها الانسان العراقي خلال المراحل السابقة, حيث كان هدف الكثير من هذه التجمعات هو الربح المادي على حساب النشاط النوعي ,ومع الاهتمام الكبير من قبل السلطات ألا اننا لم نلحظ فعلها الانساني على الارض.  ومن أبرز ما تم تحقيقيه في هذا المجال هو  (استحداث وزارة بإسم وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني، وذلك ضمن التشكيلة الحكومية الاولى بعد انتقال السيادة من سلطة الائتلاف المؤقتة الى العراقيين في الثلاثين من شهر حزيران ٢٠٠٤).(18)حيث كان للوزارة دور بارز ومهم ومتابع وتطور نشاطها بشكل ملفت للنظر في فترة تسلم السيد  المهندس علاء الصافي الوزير السابق لها حيث تحققت الكثير من الانجازات المهمة والاساسية لتثبيت أساسيات عملها. إن التحولات الأخيرة في المجتمع العراقي قد تركزت اثارها على صورة المشهد العراقي عموما وافرزت اوضاعاً جديدة شملت جميع مفاصل الحياة العامة ولقد كان تأثير هذه المتغيرات واضحاً وجلياً على المستويات المدنية (احزاب، واتحادات وجمعيات خيرية وانسانية).. وعلى الرغم من أن الكثير منها حديث العهد، ومازال في طور البداية، فإنه بشكل او بآخر نواة طبيعية لمتتاليات مجتمع مدني طوعي قادم في العراق (وسيكون له دور فاعل بلا ادنى شك في الحياة السياسية والديمقراطية في العراق)"(19) وبالرغم من وجود أكثر من مؤسسة حكومية تعنى بشؤون مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في العراق كانت تعتبر وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني هي المؤسسة الحكومية الأساسية التي تُعنى بنشر ثقافة المجتمع المدني في العراق، وتعمل على تنظيم وتنسيق نشاطات مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات المجتمع المدني بشكل مباشر أو بواسطة مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية من أجل رسم برامج وخطط للتوظيف الأمثل لمؤسسات المجتمع المدني، ورفد أنشطتها بحيث تسهم في تعزيز برامج التنمية الشاملة في البلاد.

    وتلعب وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني دورا في تسريع إجراءات لجنة قرار رقم (3) الصادر عن مجلس الحكم 2004 وهو القرار الذي ينظم عمل الاتحادات والنقابات والجمعيات المهنية حيث تم إطلاق أرصدة المنظمات غير الحكومية التي شُملت بالقرار(خطأ) لتشابه الأسماء، مضافا إلى إطلاق جزئي لأرصدة بعض الاتحادات والنقابات المشمولة بنص القرار إلى حين استكمال الإجراءات القانونية التي نص عليها القرار رقم (3). 

    وتقوم المؤسسات الحكومية الاتحادية والمحلية بدعم برامج مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية العاملة لدعم خطة فرض القانون والمصالحة الوطنية، ومكافحة الفساد الإداري، وتقديم الدعم الفني لها عن طريق إنشاء ورش عمل ، ودورات تدريبية ، وكذلك إشراكها في كل الندوات والمؤتمرات التي تقيمها مجالس المحافظات ولها علاقة بالمجتمع المدني، وعقد ندوات وورش للبحث عن طرق بديلة عن برنامج المجتمع المدني لتقديم المنح إلى المنظمات، والمباشرة بمشروع تدريب المنظمات على كتابة المشاريع وتقديم مشاريع لاستحصال دعم المنحة الدولية، ودعم وإسناد المنظمات الفاعلة وتوجيهها وإرشادها وإيجاد الفرص لتقديم المنح لها عن طريق التحرك على الجهات المانحة وتعريفهم لهم بهدف بناء القدرات التواصلية بين هذه المؤسسات، وفتح قنوات اتصال لمؤسسات المجتمع المدني ذات النشاط الواسع والمفيد بمؤسسات الدولة الرسمية كلما لزم الأمر, طبعا نتحدث عن فعالية الوزارة سابقا قبل قرار الغائها, لأنها كانت منسق فاعل لمعظم الفعاليات المدنية حيث يعطيها الشرعية القانونية ضمن الدستور.

وبعد حل الوزارة شكلت دائرة المنظمات غير الحكومية في الامانة العامة لمجلس الوزراء...والتي تصدت لعمل منظمات المجتمع المدني, ودائرة المنظمات غير الحكومية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء

هي إحدى الدوائر التابعة للأمانة العامة لمجلس الــوزراء والـمعنية بشؤون تسجـــيل المنظمــات غـير الحكـــوميــة (NGOs )، تأسست  في وزارة التخطيط مركز تسجيل المنظمات غير الحكومية عام 2003 ثم انفصلت إلى مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية بالأمر (16) عام 2005 ،وبعدها تغير عنوانها الى دائرة المنظمات غير الحكومية بالأمر (122) سنة 2008 في أمانة مجلس الوزراء .

مهامها :                   

تتولى مهمة الاشراف والمتابعة على عمل المنظمات غير الحكومية بمجاليها الاداري والفني ، واصدار القرارات الفنية الخاصة بالمنظمات بموجب القانون رقم 12 لسنة 2010 ، وتتضمن هذه المهام ايضاً اعداد الخطط والبرامج لتطوير عمل الدائرة وملاكها لتقديم افضل الخدمات للحكومة والمجتمع على حد سواء ، ولذلك تعتبر الجهة المخولة بالإشراف على تسجيل المنظمات غير الحكومية ( المحلية وفروع المنظمات الاجنبية ) واتخاذ الاجراءات الكفيلة بتنسيق انشطتها والقيام بالتحقق المالي لسجلاتها لإعطائها الشرعية لممارسة انشطتها داخل العراق ..كما تعتبر جهة منسقة للعلاقة بين الدولة من جهة وبين المنظمات غير الحكومية والتي تقدم خدماتها للمجتمع عن طريق الدراسات والابحاث والخدمات الاجتماعية الاخرى من جهة اخرى ، وكذلك تقوم بمتابعة انشطة المنظمات غير الحكومية بغية التحقيق من امتثالها لبنود القانون رقم 12 لسنة 2010 ، وتقوم بالنشاطات واعداد التقارير الدورية لها من خلال حضور الندوات واللقاءات التي تقيمها تلك المنظمات واتخاذ الاجراءات القانونية بحق المنظمات غير الحكومية عند خرقها لأي بند من بنود القانون وتتعلق بالتعليق والالغاء. 

وتتضمن مسؤوليات هذه الدائرة ما يأتي : ـ 

1. الاشراف على تأسيس منظمات غير حكومية وتسجيلها ضمن قاعدة بيانات الدائرة واعطائها رقم تسجيل خاص والذي يعتبر الرقم التعريفي لتلك المنظمات والتي يتيح لها ممارسة انشطتها داخل العراق .

2. التأكد من استيفاء الطلبات المقدمة للنواحي الشكلية والقانونية والمالية المطلوبة لتسجيل تلك المنظمات والقوانين التي ستصدرها لاحقاً والمنظمة لعمل المنظمات غير الحكومية .

3. تزويد المنظمات المحلية والاجنبية بكتب رسمية تمنحها شرعية مزاولة مهامها في العراق .

4. متابعة انشطة المنظمات من خلال الاشراف على اعداد الدراسات والبحوث المقدمة.

5. التنسيق مع الجهات الامنية داخل العراق بهدف متابعة تحركات وانشطة تلك المنظمات والتأكد من سلوكها في الاتجاه الصحيح .

6. اعلام الجهات المختلفة بقانونية تسجيل المنظمات وذلك من خلال الرجوع إلى قاعدة البيانات المعدة من قبل الدائرة والتي تحوي كافة بيانات المنظمة او اي معلومات اخرى تخصها .

7. تدقيق الحسابات المالية للمنظمات بشكل مباشر والتحقق من مصادر التمويل وشرعيتها وكذلك مبالغ التمويل ومقارنة تلك المبالغ مع الانشطة المقدمة من قبل تلك المنظمات والتحقق من قانونيتها وموضوعيتها والتأكد من مراجعة كافة الحسابات من قبل مكاتب المحاسبين القانونيين المجازين قبل تقديمها للدائرة بالشكل النهائي .

8. الاطلاع على التقارير الدورية المقدمة من قبل المراكز التنسيقية في المحافظات حول انشطة المنظمات التي تقع ضمن الرقع الجغرافية لتلك المراكز .

9. تحديث قاعدة البيانات الخاصة بالمنظمات غير الحكومية من خلال ادخال كافة المتغيرات التي تحدث .

10 .اتخاذ الاجراءات اللازمة بحق المنظمات التي تخالف شروط التسجيل او امتناعها عن تقديم الحسابات المالية او اي مستمسكات او تقارير تطلب من قبل الدائرة اثناء عملية التدقيق على انشطة تلك المنظمات. (20)

 

نشاطات وفعاليات مؤسسات المجتمع المدني

     تساهم مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية بالعديد من النشاطات السياسية العامة، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية، والإعلامية، والقانونية.. ففي مجال دعم العملية السياسية والتحول السلمي للسلطة تعمل مؤسسات المجتمع المدني على تثقيف المواطنين على الحقوق السياسية كالتصويت والانتخاب والترشيح للمناصب السياسية، والتعريف بالمفاهيم الدستورية والانتخابية والحقوق العامة، وتوضيح علاقة المواطن بالدولة وكيفية التعبير عن حقوقه وواجباته، وشرح دور ومهام السلطات الثلاثة في الدولة، وتتبنى  ثقافة نبذ العنف ومركزية الرأي.

     وتواصل مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في العراق ضغطها على المؤسسات الحكومية لاسيما مجلس النواب والمفوضية العليا للانتخابات المستقلة نحو ضرورة تغيير النظام الانتخابي ذي "القائمة المغلقة" إلى القائمة المفتوحة , وحصلت على نتائج طيبة سعيا للوصول إلى حقوق مدنية ومواطنة عادلة ومتساوية بعيدة عن الانتماءات العرقية والدينية، وبمشاركة فعلية للنساء.

   وفي المجال الإعلامي، تواصل مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية مطالبها المشروعة من خلال وسائل الإعلام المتاحة لتخصيص مساحات إعلامية للتعريف بمؤسسات المجتمع المدني، وضرورة إنشاء إذاعة وصحيفة توعية الشعب بدور مؤسسات المجتمع المدني ومساهمتها في بناء هذه المؤسسات، وتشريع قانون يضمن حماية الصحفيين، وتوجيه الإعلام حول تثقيف علمي مفهوم  والمساواة وإشراك المرأة في صنع القرار،  والدعوة إلى توجيه الإعلام إلى كيفية إعادة بناء روح المواطنة.

   وفي المجال القانوني والقضائي تسعى مؤسسات المجتمع المدني إلى مراقبة حسن تطبيق القوانين التشريعات والإجراءات المختلفة في الدوائر القضائية ومفاصلها، وتوجه الإعلام نحو بيان المزايا والعيوب التي تعتري التشريعات العراقية مع وضع التشريعات البديلة أو تعديلها، وإعداد برامج قانونية تبث عبر وسائل الإعلام تعمل على تثقيف المواطن قانونياً.

   وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي تهتم معظم المنظمات غير الحكومية بالعائلات النازحة وتساعدها على إيجاد مأوى وتقدم لها الطعام والغاز المخصص للطبخ. كما تمنح أطفالها دعماً نفسياً ورعاية لمرحلة ما قبل الولادة. ويتظاهر بعض منظمات المجتمع المدني ضد الإرهاب والمطالبة بتوفير فرص العمل للعاطلين وتحسين مواد البطاقة التموينية، وتشارك الجمعيات النسوية بالعديد من المشاريع المدنية والاجتماعية وتعمل على انشاء دور لرعاية الأيتام والمسنين ومجمعات سكنية، وتقديم مساعدات تقنية وأجهزة لمراكز تدريب النساء والمدارس والجامعات. 

     هذا ناهيك عن تدريب أخصائيين حول قضايا اساسية في العراق وإقامة ورش عمل لعدد من الناشطين في المجال الاجتماعي والإعلامي في التوعية حول قضايا الديمقراطية والمدنية في العراق، والعنف ضد المرأة، بالإضافة إلى تقنيات التأثير وتحسين العمل الجماعي، وذلك من خلال التدريب المكثف الذي يساعد المتدربين على فهم العقبات السياسية والعقبات الاجتماعية التي تحول دون تحقيق المساواة  في العالم العربي.(21)

ونرى أن  عودة وزارة الدولة لشؤن المجتمع المدني  في الوقت الراهن ضرورة ملحة لممارسة دورها الرقابي والحكومي وتشخيص المنظمات الوهمية التي زاد انتشارها في العراق, وضرورة دعم المنظمات المدنية الفاعلة ماديا ومعنويا, من خلال حجم فعالياتها وعطائها في المجتمع.

المبحث الثاني: التحولات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني

شهدت السنوات الاخيرة وتحديدا منذ بداية تسعينات القرن العشرين تصاعد " حمى الديمقراطية ". وامتدت لبدايات القرن الواحد والعشرين الذي شهد تحولات سياسية هائلة في كل انحاء العالم وبالخصوص في المنطقة العربية التي سميت اصطلاحا بثورات الربيع العربي الذي بدئت بتونس ومصر وليبيا ولاتزال في سوريا لم يحسم أمرها,ولمنظمات المجتمع المدني الدور المتقدم لها من خلال النقابات والاتحادات المهنية الاخرى, ويتعين التأكيد على أن التركيز على دور مؤسسات المجتمع المدني قد لفت الانتباه الى جانب هام لإشكالية الديمقراطية وإن الديمقراطية لا تنحصر في بعض الممارسات السياسية مثل التعددية الحزبية، وتنظيم الحكم طبقا لمبادئ دستورية تضمن فصل السلطات عن بعضها البعض واختيار الحكام من خلال انتخابات غير مزيفة .... الخ. فالممارسة الديمقراطية الصحيحة في السياسة تفترض دمقرطة المجتمع. ودون هذه الصيغة لا تضرب الديمقراطية جذورا في أرضية المجتمع فتظل شكلية وسطحية دون أن تكتسب شرعية غير قابلة للانقلاب(22).

لكن ما هي الديمقراطية ؟. يتعين، إذن، أن نحدد في البدء مفهوم الديمقراطية. بداية لا بد من القول أن الديمقراطية كمفهوم هو بطبيعته اشكالي. انها مفهوم متعدد الدلالات. ولكن الديمقراطية، بتعريفها البسيط تعني سلطة الشعب. جوهر الديمقراطية، إذن، حكم الناس بالناس لصالح الناس. وقد بقي هذا الجوهر صحيحا منذ العهد الاغريقي القديم حتى يومنا هذا، بالرغم من ظهور الخلاف في المدينة اليونانية القديمة حول مفهوم الشعب. ولأن الديمقراطية حقيقة سياسية فإنها تعني مجموعة من المؤسسات والاليات لتنظيم الحكم، بما يضمن أن يكون هذا الحكم بواسطة الشعب ومن أجله(23). 

ونستطيع، إذن، أن نطور هذه الاطروحة بالقول بأن الديمقراطية هي طريقة الحياة واسلوب الحكم الذي يقوم على أساس قيام السلطة على ارادة الشعب، وممارسة الشعب حريته، وحقه في اختيار السلطة التي تحكمه، بطريقة يقبلها، وضمان حقوقه الاساسية السياسية والاجتماعية في المساواة وحرية التعبير والتنظيم والعمل والمشاركة في صياغة الحياة السياسية والاجتماعية.(24) إن الدور الحيوي للمجتمع المدني في تعزيز التطور الديمقراطي وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية  ، ينبع من طبيعة المجتمع المدني وما تقوم به مؤسساته من أدوار ووظائف في المجتمع  ، لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية .

وعند تحليل البعد البنيوي لدور مؤسسات المجتمع المدني في سياق العملية الديمقراطية ، يمكن تأشير ثلاثة مستويات :

الأول: هو دور تربوي ثقافي عبر استكمال حلقات وفرص التنشئة السياسية ذات المضمون الديمقراطي للمواطنين . والتدريب العملي على الأسس الديمقراطية في الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدني .

الثاني : هو دور تعبوي يتحقق من خلال توسيع آفاق المشاركة السياسية ورفد المجتمع بكوادر وقيادات سياسية واعدة .

الثالث : هو دور الرقابة والنقد والضغط على الحكومة اذا ما تجاوزت حدود مشروعيتها الدستورية .

فعلى المستوى الأول ، لابد من التسليم بفرضية مفادها "أن البناء الديمقراطي لا يأتي إلا من خلال التنشئة السياسية السليمة التي تعتمد قيم الديمقراطية مرتكزا أساسيا لها(25) ".

وهناك صلة وثيقة بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي، فالديمقراطية كما هو معروف مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته التي تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع في المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة، وهذا هو نفس الأساس المعياري للمجتمع المدني حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدني من أهم قنوات المشاركة الشعبية. ورغم أنها لا تمارس نشاطا سياسيا مباشرًا وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية إلا أن أعضاءها أكثر قطاعات المجتمع استعدادا للانخراط في الأنشطة الديمقراطية السياسية، وبالإضافة لهذا فإن الادارة السلمية للصراع والمنافسة هي جوهر مفهوم المجتمع المدني. 

ويمر العراق حاليًا بعمليتين مترابطتين، ونعني بهما: بناء أسس المجتمع المدني والتحول نحو الديمقراطية على الرغم من المخاطر والتحديات التي تواجه هاتين العمليتين. والصلة بين العمليتين قوية، بل أنهما أقرب إلى أن تكونا عملية واحدة من حيث الجوهر، ففي الوقت الذى تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدني التي تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة في الحكم. 

وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدني في تعزيز التطور الديمقراطي وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ينبع من طبيعة المجتمع المدني وما تقوم به منظماته من دور ووظائف في المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع وهى من ثم أفضل إطار للقيام بدورها كمدارس للتنشئة الديمقراطية والتدريب العملي على الممارسة الديمقراطية. (26)

أن اتساع استخدام مصطلح المجتمع المدني يضعنا امام اشكالية العلاقة بينه وبين الديموقراطية ، فهل يصنع المجتمع المدني الديموقراطية على اساس ان المنظمات غير الحكومية التي يتكون منها ستكون وسيطا بين المواطن والدولة ؟ ام ان الديموقراطية هي الشرط والاساس السياسي لوجود المجتمع المدني وتطوره وتقدمه نحو التغيرات الديمقراطية الحقيقية.

ان دور منظمات المجتمع المدني  هو تفعيل وتنظيم مشاركة المواطنين في تقرير مصيرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر بحياتهم ، اضافة الى دورها في نشر الثقافة الديمقراطية بشكلها الصحيح وايجاد المبادرة الذاتية وتأكيد ارادة المواطنين في الفعل التاريخي ، الى جانب الاسهام الفاعل في تحقيق التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, والثقافية ،وتقوم بدو مهم في عملية التحولات الديمقراطية سواء كان ذلك من خلال الاعداد والتمهيد لهذا التحول وتوفير البيئة الاجتماعية والثقافية له او الاسهام في احداث هذا التحول، كما تقوم بأدوار أساسية وذات مضامين ديموقراطية كتعزيز المشاركة السياسية وتجميع وتنمية المصالح وتدريب القيادات على تعزيز القيم الديموقراطية واشاعة الثقافة المدنية واختراق وربط المجاميع المختلفة والاسهام في المشاريع التنموية وتوسيع مجالات التعاون العلمي اما الديموقراطية التي تعتبر الاطار الذي يمارس فيه الفرد حقوقه في المواطنة ومنها حقه في انشاء او المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني اضافة الى ان المفاهيم والمبادئ الديموقراطية تقتضي  تعزيز مشاركة التنظيمات العصرية في صنع القرار ومنها تنظيمات المجتمع المدني  لتعبر عن تنوعاتها القومية والدينية  والسياسية اضافة الى اهدافها ومصالحها كونها منظومات اجتماعية وليست سياسية .

وهنا تبدو واضحة الصلة بين المجتمع المدني والتحول الديموقراطي ، فالديموقراطية هي مجموعة من القواعد والاسس لإدارة  العلاقات بين الجماعات المختلفة او المتنافسة او المصالح المتضاربة بصورة سلمية ، وبذلك يكون اساس معايير المجتمع المدني هو اساسا لمعايير الديموقراطية والعكس صحيح ايضا .

ان مؤسسات المجتمع المدني لا يمكن ان تنمو وتتطور وتقوم بدورها الا في ظل نظام ديموقراطي وبالمقابل لا يمكن قيام نظام ديموقراطي من دون وجود ومشاركة مؤسسات المجتمع المدني كونها قنوات للمشاركة السياسية تتكامل بها العملية الديموقراطية.(27).

ونرى أن هناك دور باهت لمنظمات المجتمع المدني في تعزيز التحولات الديمقراطية من خلال العمل بمبدأ الفرضية هذا هو الواقع الذي يفترض ان تساهم وبقوة في عملية تغيره نحو الافضل, ونلاحظ ذلك من خلال المتابعة الشكلية في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجالس المحافظات التي تشكل عنصرا اساسيا في بناء الدولة العصرية والمجتمع المدني المزدهر.

 

الخاتمة

منظمات المجتمع المدني بعملها الصميمي المنظم تشكل حلقة اساسية في عملية التحولات الديمقراطية في أي بلد, وخاصة في البلدان التي تعيش حالة التغير الاساسي في الدساتير والانظمة, وينبع هذا من خلال تواجدها المباشر مع المجتمعات وتمثيلها له, أن عميلة التغير الديمقراطي تحتاج لمجهود مثابر وصحيح للحصول على نتائج إيجابية مؤثره, لكن بشرط توفر عناصر القوة الفاعلة والنهج الصحيح والقيادات المتفهمة الواعية البعيدة عن كل التأثيرات السياسية والفكرية المتطرفة, أن منظمات المجتمع المدني في العراق بالرغم من دورها المحسوس لكن لاتزال في بداية الطريق لكن تحتاج البدايات الصحيحة لتشكل قاعدة للانطلاق نحو العمل الفعال وخاصة في التحولات الديمقراطية, أن اهم اركان عمل منظمات المجتمع المدني هو توفر الغطاء المالي والقانوني لعملها بشكل واضح ومحدد من قبل الدولة والمنظمات الدولية والهيئة العامة لها التي تقوم برسم خارطة الطريق لقياداتها الادارية بدون وصاية الدولة وتدخلها حيث تتولى الهيئة العامة وضع الخطط الاستراتيجية وبرامج عمل واضحة ومدروسة واولويات المشاريع والسياسة المالية واجراء الانتخابات اضافة الى تقيم كفاءة الاداء ومراجعة ما يتحقق من اهداف وانجازات ومبادئ وتحديد السلبيات والاخطاء والنواقص وكشفها بشكل شجاع وصريح وديمقراطي امام الهيئات العامة لمعالجتها وتجاوزها ...

كذلك يمكن لمنظمات المجتمع المدني ان تقيم اداءها بفعالية اكثر من خلال التعرف والاستطلاع على رأي المستفيدين من مشاريعها وخدماتها واعمالها وانشطتها عن طريق استمارة استبيان خاصة تعدها كل منظماته تحتوي على كافة المؤشرات والبيانات الاحصائية المطلوبة والمعلومات الاخرى ثم يتولى قسم مختص في الدراسات او الاحصاء تحليلها بطريقة علمية ومحايدة ونزيهة وكشف نتائجها امام الهيئة العامة بشكل ديمقراطي لتعزيز شفافية هذه ا