Skip to main content

اصغوا إلى ما يجري عراقيا

 

هل يمكن أن نذهب بعيدًا لنقول إن العراقيين أسسوا لنظام إغاثة يتميز ببعض التفرد في نشاطاته الميدانية الإنسانية الوطنية؟ بل هل يمكن أن نضيف إلى ذلك أنه قد تم التفوق عراقيًّا على ما درجت فيه منظمات إغاثة ذات تاريخ عريق عالميًّا؟
لسنا بصدد تقديم عرض للأنشطة الميدانية التي عادة ما تقوم بها منظمات إغاثة، ومقارنة ذلك بالسبق العراقي التطوعي القائم على المبادرة، ولكن يكفينا أن نقف عند حدود بعض العينات والمشاهد، لكي يكون التوصيف دقيقًا وعلى وفق معلومات موثقة توفرت بفعل الوجع العراقي نتيجة الإملاءات المسلحة وثقافة التهديد والقتل والملاحقة بالرصاص والسيوف! وارتفاع مناسيب النزعة الحصصية لتصل إلى الحصص المناطقية.
لقد تعودنا عرقيًّا مع الأسف أن نصغي لهذه الإملاءات ونتشرب بضجيجها، في حين هناك منطقة معتمة أو معتم عليها بما اختص به العراقيون من قيم المروءة والنخوة والتضامن والتكاتف والتواصل بينهم، ولكي نكون على بينة من ذلك تحضرني هنا نخوة مواطن عراقي اسمه صبري، أنا هنا لا أقصد صبري الذي كان يعمل محاسبًا في ميناء البصرة قبل أكثر من 80 عامًا، كان موضع ثقة الجميع لأمانته ودقة إحصائياته، ولأن الجميع في الميناء كانوا ينتظروا إطلالته الشهرية بالمزيد من الثقة ليوزع المرتبات على العاملين هناك، كان يحرص باستمرار أن يحصل أصحاب الدرجات الوظيفية الصغيرة على رواتبهم قبل الآخرين، ولم يخرق في شهر من الشهور هذه القاعدة، الأمر الذي جعله رمزًا من رموز المدينة، وكان رواد مقاهي البصرة يتداولون الكثير من مآثره حتى قيل آنذاك في البصرة معلمان، شط العرب وصبري محاسب الميناء وتحت تأثير هذه الرمزية انفرد بأغنية تراثية شهيرة (الله يخلي صبري صندوق أمين البصرة) إي الله يحفظ صبري.
أنا أتحدث عن صبري الثاني الذي ما زال يمارس وظيفة مختار قرية باندوايا إحدى قرى محافظة نينوى، لقد ذاعت شهرته في الأيام القليلة الماضية لأنه لم يترك فسحة في القرية إلا وجعلها مأوى للنازحين من الموصل بعد اجتياحها من قبل المسلحين، وقد تجاوز في كرمه كل مفردات حسن الضيافة، كان حريصًا هو وسكان قريته أن يتقاسموا الخبز والماء والدواء مع النازحين.
لم يلتق فضائية تلفازية، أو صحيفة، أو إذاعة، أو موقعًا إخباريًّا إلكترونيًّا، ليتحدث معهم بمفاخرة عما حققه، وحسب معلوماتي المتواضعة أنه لم يتلق دروسًا في أساليب الإغاثة اللازمة لنازحين يحكمهم الخوف بل والهلع بسبب ما جرى في الموصل وبعض ضواحيها، وتحضرني هنا شهادات الكثير من المتابعين الذين أجمعوا أن المختار صبري ابتكر وسائل إغاثة وقدم نموذجًا للاقتداء، ولذلك تنافس معه مخاتير آخرون في أساليب الإغاثة بعد أن ذاع صيته هناك.
ما يهمنا من نموذج صبري مختار قرية باندوايا أن العراق لا يمكن أن يخلو في يوم من الأيام من عراقيين يقدمون الدروس في التضحية والأثرة والتضامن والسمو، كما أن العراق بهذا النموذج المرهف وبنماذج أخرى هو في حقيقة الأمر خزين لا ينبض من المروءات والنخوة وشرف التضامن، وإلا كيف لنا أن نتصور أن العراق مع كل ما مر عليه من احتلالات، وضغائن، وخصومات، وقتل على الهوية، وأكل حقوق، وإساءة للتاريخ، والاعتداء على قيم السلام، أقول كيف لهذا البلد أن يصمد وأن يتجاوز كل هذه الويلات في معادلة تشبه معادلة الموت والحياة لطائر العنقاء.

الدرس من صبري ومن صبريين آخرين لا يستغربه العراقيون البسطاء والفقراء، لأن هذه البيئة الوطنية ولادة بأمثالهم، بل يحتاجه سياسيون عراقيون ما زالوا لا يجيدون سوى الخطوات في دائرة مصالحهم الشخصية الضيقة، وأجزم أن هناك صراعًا واضحًا بين الطرفين، أي بين الأغلبية وتجار البضاعة السياسية، وأجزم أيضًا أن النصر لن يكون إلا حليف الشرفاء.