Skip to main content

البحرين: إضاءات على طريق الوحدة الوطنية والتغيير والعدالة!

 

مقدمة لكتاب عبد النبي العكري 

(الربيع العربي ومستقبل التحولات- دار الكنوز الأدبية، بيروت ، 2013)

بقلم- الدكتور عبد الحسين شعبان *

* أكاديمي ومفكر عراقي، وهو خبير دولي في ميدان حقوق الإنسان،

 له أكثر من 50 كتاباً في قضايا الفكر والسياسة والثقافة والمعرفة، 

                                        وفي الإسلام والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.

لم يتصوّر أحد أن مجموعة الفيسبوك التي أطلقت على نفسها " ثورة البحرين" ودعت البحرنيين إلى التظاهر والاحتجاج في 14 شباط (فبراير) 2011 ستستمر لما يزيد عن عامين من الزمان، متفاعلة مع بيئة محلية وأخرى خليجية وثالثة عربية ورابعة إقليمية وخامسة دولية.

ولعلّ تلك العوامل بحكم الثورة العلمية- التقنية وثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال والمواصلات، أصبحت مؤثرة لدرجة كبيرة، خصوصاً لعنصر الشباب المتطلّع إلى الإصلاح والتغيير مواكبة للتطورين العربي والدولي على هذا الصعيد، قد يكون من باب الفانتازيا أو الخيال الجامح لو تصورنا قبل ثلاثة عقود من الزمان أن ما حدث يمكن أن يحدث، ولو قال أحدهم من باب الافتراض ذلك، فهناك من سيتصدى له بالقول: أيعقل أن نداءً على هذا القدر من البساطة والتلقائية يمكن أن يُحدث ما أحدثه ذلك النداء السحري،الاّ إذا كنّا أمام فيلم من أفلام هوليود؟.

اليوم نستطيع القول أن ثمة تراكمات كانت قد حصلت على نحو بطيء وتدريجي، سواء كانت منظورة أو غير منظورة، وهي ساهمت في إيصال الوضع إلى ما وصل إليه، وذلك منذ الانفراج السياسي الإيجابي الذي حصل في البحرين في مطلع الألفية الثالثة، والذي تتوّج بسلسلة من الخطوات الانفتاحية وإشاعة أجواء من الحوار والتفاهم الوطني، لا سيّما في ظل إطلاق الحريات والترخيص لمنظمات وهيئات اجتماعية ومدنية للعمل القانوني والشرعي وإعادة المُبعدين وإطلاق سراح المعتقلين وإطفاء الكثير من التعقيبات القانونية لمحاكم أمن الدولة وغيرها، تلك التي هيأت الأجواء لتحويل البحرين من إمارة إلى مملكة في إطار تأييد شعبي.

وكان من المفترض تهيئة أرضية مناسبة لحزمة جديدة من المنجزات لصالح عموم السكان ومساواتهم وتوسيع دائرة الحرّيات وتحسين مستوى المعيشة وتعزيز المواطنة المتكافئة والتامة في ظل التطور الحاصل في ميدان التنمية البشرية الشاملة والمستدامة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية.

وإذا كان الحراك الشعبي قد بدأ سلمياً ومدنياً في "دوار اللؤلؤة" فكان ينبغي التعامل معه بالوسيلة ذاتها وبالصبر وطول النفس وفتح حوار مجتمعي شامل وتلبية بعض المطالب سريعاً، على أمل دراسة المطالب ذات الطبيعة الدستورية لإقرارها في إطار عقد سياسي اجتماعي جديد قد تتطلبه البلاد في مراجعة ما حصل من تقدم وتراجع، ولتعزيز ميثاق العمل الوطني الذي تم الاستفتاء عليه، والذي حظي بتأييد 98.4 من المقترعين البحرينيين، وذلك برفده بعناصر جديدة تساوقاً مع التطورات العربية والعالمية، وخصوصاً باتجاه الانتقال والتحوّل إلى ملكية دستورية في إطار مشروع إصلاحي شامل، كان يمكن للدولة المساهمة فيه على نحو فعّال بالتعاون مع الفاعليات والأنشطة السياسية والمجتمع المدني، وهو الأمر الذي لم يحصل للأسف الشديد.

ولعلّ اختيار المتظاهرين يوم 14 شباط (فبراير) يحمل أكثر من مغزى وأكثر من دلالة، فهو اليوم الذي تم فيه الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني في العام 2001، وهو اليوم الذي صدر فيه الدستور الجديد في العام 2002، الذي كرّست أحكامه السلطات الأساسية بيد ملك البلاد، وتلكم لعمري مغزيان لهما أثر كبير على شكل الحراك ومضمونه، وهو بحد ذاته رسالة يمكن قراءتها بحسن نية من جانب الدولة، ومفرداتها تعني أن هاتين المناسبتين الدستوريتين تشكّلان أساساً إيجابياً يريد المتظاهرون الاستناد إليه في مطاليبهم الدستورية الجديدة.

مثلما يمكن قراءتها سلبياً من جانب المتظاهرين إذ تشكل هاتين المناسبتين المهمتين فرصة للمراجعة والاصلاح وقطع الشوط طويلاً وإن كان مضنياً باتجاه التغيير وتوسيع دائرة الحريات واختيار الشعب لممثليه الذين يريدهم يتمتعون بصلاحيات اختيار الحكومة ومساءلتها في إطار الوحدة الوطنية المنشودة، ناهيكم عن تحقيق التوازن في المواقع الأساسية في الدولة وهيئاتها. 

ولعل هذا ما قرأته الدولة طبقاً للاحتجاجات القائمة، وهكذا يصبح اختيار يوم 14 شباط (فبراير) يعني فيما يعنيه الاعتراض على الشرعية القائمة، سواء شرعية الميثاق أو شرعية الدستور أو لنقل الطلب بإعادة النظر بهما لاستكمال المسار الأول نحو الديمقراطية الذي بدأ بالانفراج الذي تحقق أواخر الألفية الثانية.

من ناحية ثانية فإن هذا الاعتراض يأتي في موجة ما سمّي بالربيع العربي الذي كان قد حقق انتصاراً في تونس وانتقل منها إلى مصر وهو الدولة الإقليمية العربية الكبرى، التي تخلخلت فيها الشرعية القديمة، وسارت باتجاه التغيير، وابتدأت التململات الأولى في ليبيا بعد ذلك بثلاثة أيام، الأمر الذي أعطى للتحرك الشعبي زخماً وأملاً، لا سيما وأن المشروع الإصلاحي الموعود وصل، حسب بعض القوى السياسية، إلى طريق مسدود، أو أن عقبات جدّية اعترضت طريقه وحالت دون وصوله إلى ما هو منتظر منه منذ العام 2006، بحيث اندفعت قوى وتجمعات سياسية ودينية ومدنية وشبابية إلى الاحتجاج والتواصل فيما بينها لبلورة مطالب جديدة وهذه شكّلت التربة الخصبة للتحرك الشعبي.

ولا شك أن تفاعلات إقليمية وعربية ودولية تجاوزت ساحة التحرك الشعبي البحريني، وكانت حاضرة، بما لها من أبعاد واسعة للصراع والاستقطاب، الأمر الذي أدى إلى حالة من الاستنفار الخليجي والإقليمي. وكانت حكومة البحرين ومعها مجلس التعاون الخليجي قد فكّرت بخطة استباقية، وخوفاً من أن تتطور الأمور فتتحول إلى مجابهة لا يمكن وقفها، فتدخّلت في 16 نيسان (ابريل) 2011 دون انتظار، وبذلك حسمت الصراع أولياً باتجاه ترسيخ دعائم الحكم القائم، على الرغم من أن مشكلة التغيير وإشكاليته تبقى قائمة ومطلباً شعبياً، إنْ لم يتم حلّه سلمياً، فإن الحل العنفي أو العسكري أو الأمني أو حتى الاقتصادي سوف لا يكون قادراً على إطفاء جذوة التغيير، وحتى لو نجح لحين، لكنه لن يستطيع الاستمرار والرسوخ دون توفّر قناعة شعبية لتأييده وضمان استمراره، ومثل هذه القناعة، لم تتوفر حتى الآن.

الكتاب الذي بين أيدينا للكاتب والناشط الحقوقي الأستاذ عبد النبي العكري، وهو أحد أعمدة المجتمع المدني البحريني، بل والعربي أيضاً، وله مساهمات متميزة وواسعة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان، وراكم تجربة غزيرة في الميادين الفكرية والثقافية والحقوقية، فهو خبير وممارس وناقد للتحوّل الديمقراطي ولخطط وبرامج التغيير، ولذلك فإن سعة إطلاعه ومعرفته، دفعته لتقديم قراءات متوازنة ومعتدلة ونقدية في الآن ذاته لمسيرة الربيع العربي، ولا سيما في دول الخليج العربي وخصوصاً في البحرين.

ينطلق العكري في توصيفه لحركة الاحتجاج البحرينية وردود الفعل إزاءها والتداخلات الإقليمية التي اشتبكت فيها، دون أن ينسى التقييمات الحقوقية، وخصوصاً للجنة محمود شريف البسيوني، التي أكّدت على مشروعية بعض المطالب، وانتقدت العنف الذي تسبّب في مواجهتها، ولكنه يزيد عليها من تجربته العملية باستعراض الخلفية الفكرية للصراع، ففي حين هناك من يريد أن يعطيه صبغة طائفية- إقليمية، بإنسابه إلى الشيعة وإيران من خلفهم، هناك من يحاول أن يعطيه طابعاً سياسياً يتعلق بأزمة الحكم، وباعتقادي أن ذلك لا يستبعد الجوانب الطائفية والإقليمية من دائرة الصراع، وهو ما ذهب إليه عبد النبي العكري حتى وإن كان هناك من يحاول استبعاد وجودها الفعلي أو العملي، لكن تأثيراتها السياسية والمعنوية، تظل قوية في ظل الاستقطاب الطائفي والمذهبي في المنطقة، ناهيكم عن الصراع السياسي الإقليمي، بجانبه الخليجي أو العربي.

وإذا كان الهدف من البحث هو إيجاد مخرج لحل سياسي للأزمة القائمة، فإن ذلك يتطلب جهداً من جميع الأطراف وبوسائل سلمية، مدنية لتحقيق الحلّ المنشود ضمن توازن القوى السائد، وذلك يتطلب البحث بواقعية عن حل بحريني خارج نطاق الاستنفار الطائفي، وبقدر ما تذهب إيران وقوى شيعية في لبنان، ولا سيما حزب الله، إضافة إلى حماسة بعض القوى الشيعية في العراق، في دعم الحراك الشعبي، فإن قوى سنّية تستفز، بل وتستنفر إزاء مثل هذا الحراك الذي قد يهدد الوحدة الوطنية حسب منظورها، بل الوحدة الخليجية ويفتح الباب على مصراعيه لتدخل إيراني، وهو ما أدى إلى توحيد الأسرة الحاكمة خوفاً من احتمالات قد لا تحمد عقباها، ومعها دول الخليج ولا سيّما المملكة العربية السعودية، ودولة الامارات التي أرسلت " قوات درع الجزيرة"، لحسم الأمر عسكرياً وأمنياً.

وثمة مفارقة مقابلة لمثل هذه المفارقة، فالقوى التي تدعم الحراك الشعبي في البحرين وتتهم حكومة البحرين ومجلس التعاون الخليجي بأشد أنواع التهم، هي ذاتها التي وقفت ضد الحراك الشعبي في سوريا، حتى قبل أن يتحوّل إلى الخيار العنفي، والعكس صحيح أيضاً فإن القوى التي تدافع عن النظام في البحرين، تقف مع الحراك الشعبي السوري، وتقدّم له الدعم والمساعدة المادية بما فيها العسكرية، والمعنوية، وهي مفارقة أخرى للصراع الطائفي في المنطقة.

لقد أكّدت أحداث البحرين، إضافة إلى دول الربيع العربي، سواءً التي تحقّق فيها التغيير أو تلك التي لم يتحقق، أن التغيير أصبح اضطراراً وليس اختياراً فحسب، للنخب والفاعليات الفكرية والسياسية، لا سيّما الحاكمة ، خصوصاً بعد احتدام المشهد السياسي، لأن ذلك جزء من قانون اجتماعي للتطور التاريخي، تنضج ظروفه إذا ما اتّحدت العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية، في لحظة حرّة، وهو ما نطلق عليه " اللحظة الثورية" حين تندفع مجاميع بشرية، لا تحدّها حدود، غير هيّابة بما سيواجهها، ولا تطلب سوى كرامتها وحريتها، سعياً وراء عدالة ومساواة، حينها تكون أمام انهدامأو انثلام كامل أو جزئي لشرعية قائمة أو تعديل لها، على أمل قيام شرعية جديدة أو توليفها بما يؤدي إلى توسيع قاعدة الحكم الاجتماعية. 

وقد التقط ملك المغرب محمد السادس الإشارات الأولى لهذا القانون فسارع لاحتواء عملية التغيير، حيث شرع باستيعابها، بل محاولة قيادتها وشكّل لجنة أساسها من المعارضة لإعداد دستور جديد، وهو ما كان قد فعله والده الحسن الثاني في العام 1996 عندما شعر بأن وقت التغيير قد حان، عارضاً رئاسة الوزارة على المعارض الأول " عبد الرحمن اليوسفي"، فاتحاً الطريق أمام إصلاحات ديمقراطية وحرّيات واسعة للتعبير، فاسحاً في المجال للأحزاب والمؤسسات الخاصة بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان للنشاط والعمل العلني الشرعي والقانوني، مطلقاً باب النقد، بل مشجّعاً عليه.

وأعتقد أن استمرار الوضع على ما هو عليه من التوتر وعدم الثقة والتباعد بين قمة الهرم وقاعدته غير ممكنة، فضلاً عن انعكاساته السلبية على جميع الميادين، ولهذا لا بدّ من تسوية تاريخية في إطار النظام الملكي بتأكيد استمراره كصيغة مقبولة وتاريخية، إذ ليس هناك من يطرح نقيضها حتى الآن من قوى المعارضة، مع تأكيد دستوريته أي تقييده بقواعد دستورية تحدّ من السلطات الممنوحة للملك، بحيث يستطيع الشعب من خلال البرلمان اختيار حكومته، وتأكيد مبادئ المساواة والمواطنة الكاملة، مع افساح في المجال لتعديلات دستورية من شأنها أخذ هذه الصيغة بنظر الاعتبار.

لقد حقّقت مملكة البحرين خطوات مهمة منذ العهد الجديد في العام 1999، لا سيّما فيما يتعلق بالإصلاح وبعض الإجراءات الديمقراطية والتسامح بين الأديان والمذاهب، إضافة إلى وجود برلمان ومجلس وشورى ومنظمات مجتمعية ومدنية وصحافة، كما انجزت قفزات مهمة في التنمية ودخلت المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، وانفتحت عربياً وإقليمياً، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر بسلسلة الإجراءات التي اتخذتها منذ العام 2006، والتي أدّت إلى قلق في العديد من الأوساط التي نظرت باعتزاز إلى سيرته وإعلاناته منذ العام 1999، بما فيها منظمات وهيئات حقوقية كانت تنظر باهتمام وتأييد إلى تجربته، ولعلّ ذلك ما ذهب إليه تقرير بسيوني، الذي التقطته العديد من الجمعيات واللجان والشخصيات الحقوقية، وأقدمت على تشكيل المرصد البحريني لحقوق الإنسان لحقوق الإنسان، كمظلّة واسعة للتعبير عن وجهة المجتمع المدني البحريني.

وقد توجّه المجتمع الدولي لمخاطبة حكومة البحرين لتنفيذ توصيات بسيوني والتي تم تضمينها في توصيات مجلس حقوق الانسان، بحيث اكتسبت بُعداً شرعياً دولياً كمرجعية قانونية، وبالتالي لم تعد إلتزاماً بحرينياً، بقدر ما أصبحت إلتزاما دولياً.

وكانت السيدة نافي بيلاي المفوضة السامية لحقوق الانسان وتبعها السيد بان كي مون، قد عبّرت عن القلق بشأن أوضاع حقوق الإنسان في البحرين، لا سيّما إزاء التعامل مع المعتقلين وخصوصاً نبيل رجب وعبد الهادي الخواجة.

إن الربيع البحريني الذي يتحدث عنه الباحث عبد النبي العكري، إنما هو تساوق مع التغييرات العربية، مع تأكيد أن الإصلاحات والتغييرات المنشودة هدفها معالجة الاختلالات والتراجعات التي حصلت في مسيرة البحرين، خصوصاً وأن الحال وصل إلى طريق مسدود، فلا الحكومة قادرة على إطفاء جذوة الحركة الشعبية الاحتجاجية السلمية، ولا المعارضة قادرة على فرض، كامل ما تريد على الحكومة، الأمر الذي يحتاج إلى حوار عقلاني، معرفي، بهدف التوصل إلى توافق لتلبية مطالب المعارضة واستعادة هيبة الدولة، ومعالجة ما لحق بها من آثار سلبية، وحشد الطاقات كاملة باتجاه التنمية المستدامة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً وقانونياً.