Skip to main content

الجامعة العربية والأزمة العراقية

 

منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ظلّت جامعة الدول العربية متردّدة إزاء علاقتها مع بغداد، خصوصاً وأنها ضعفت منذ احتلال القوات العراقية للكويت العام 1990 وما بعدها، وعلى الرغم من مبادرتها بفتح ممثلية وقبلها استضافة اجتماع يمثّل التجمعات السياسية العراقية بمبادرة من عمرو موسى الأمين العام السابق، لكن اهتمام الجامعة لم يكن ينسجم مع حجم العراق ودوره، واستمرّ الحال حتى بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، وإن طرأ تطوّر على هذا الصعيد، لاسيّما بعقد القمة العربية في بغداد العام 2012، لكن المسألة لم تخرج من كونها تقليد بروتوكولي مرّ على نحو خاطف وسرعان ما خفت.

لقد انفجرت الأزمة العراقية اليوم، وعاد العراق مجدداً في دائرة الضوء، لكن اهتمام جامعة الدول العربية به لا يزال محدوداً، ناهيكم عن أن تحركها إزاء الأزمة الراهنة والموقف من داعش ودولة الخلافة الإسلامية، لم يكن بالمستوى المطلوب، فهل تدرك ماذا يعني استيلاء قوات الدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش" على الموصل وتكريت والأنبار وتمدّدها نحو مناطق في محافظة كركوك وديالى وتهديدها بالتوجه صوب بغداد؟ الأمر له علاقة بمستقبل الدولة العراقية كلها، خصوصاً وقد ترافق هذا التصدّع مع احتدام الموقف بين بغداد وأربيل بشأن كركوك والمناطق المتنازع عليها، إضافة إلى النفط. 

هيمنة داعش على مناطق واسعة من العراق وإعلانها دولة الخلافة الإسلامية، وتسمية أبو بكر البغدادي، خليفة للمسلمين واجب الطاعة، وظهوره العلني يوم الجمعة 4 تموز (يوليو) 2014 لتأدية الصلاة وإلقاء خطبة الجمعة في الجامع الكبير في الموصل، والموكب الكبير الذي رافقه وهو قادم ومغادر وإيقاف خطوط الهاتف النقال، طيلة مدّة وجوده في الجامع، لفت الانتباه إليه عربياً وإقليمياً ودولياً، بل أعاد الاهتمام إلى هذا البلد المحوري في الشرق الأوسط، وأحد مؤسسي جامعة الدول العربية في 22 آذار (مارس) 1945.

وبقدر الاهتمام العربي والإقليمي والدولي، بالأزمة العراقية، فإن اهتمام جامعة الدول العربية لم يكن يوازيه أو يناظره، يكفي أن نقول إن " إسرائيل"، رغم تورطها بالعدوان على غزة في عملية " الجرف الصامد"، فإنها لم تنسَ إرسال عدّة رسائل للإعراب عن ارتياحها لما يحصل في العراق وفي ضعف الدولة العراقية، المهدّدة بالتقسيم، بل إنها دعت صراحة إلى ذلك، حتى وإن غلّفت الأمر بحرصها الزائف على حقوق الشعب الكردي في تقرير المصير وإقامة الدولة الكردية، وهو كلام حق يراد به باطل.

فلو حرصت " إسرائيل" على حقوق الشعوب لكانت أول من بادر للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس وإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم طبقاً للقرار 194 لعام 1948، وهو ما يمثّل الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التي يعترف بها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لكن نفاق "إسرائيل" يقصد شيئاً آخر، ألا وهو تفكيك العراق وأي بلد عربي يمكن أن يشكّل اليوم أو غداً أو بعد عقود من الزمان " عقبة" أمام مشروعها الامبراطوري القاضي بإقامة "دولة من النيل إلى الفرات" .

وإذا كان العالم قد انشغل بالأزمة العراقية الراهنة، ابتداءً من واشنطن التي أرسلت 300 مستشاراً وإيران التي أعلنت استعدادها للدفاع عن الأماكن المقدسة وأبدت مرونة بشأن تفاهم أمريكي – إيراني بخصوص العراق، وتركيا التي تقف داعش على حدودها وهي تقيم علاقات خاصة مع إقليم كردستان حيث تتشابك مصالحها النفطية والاقتصادية، ودول الخليج، ولاسيّما المملكة العربية السعودية التي أدرجت داعش على لائحة المنظمات الإرهابية وتابعت تطورات الأزمة الراهنة بغض النظر عن علاقتها السلبية مع بغداد، ودعت إلى حكومة عراقية جامعة، وحتى سوريا التي تعاني من حرب أهلية واقتتال، لم توفّر التنسيق مع بغداد كما يبدو من التعاون بخصوص قصف بعض مواقف الإرهابيين على الحدود، إضافة إلى تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن خطر التفكك والانقسام، وإرسال وزير خارجيته سامح شكري لزيارة سريعة إلى بغداد في رسالة إلى موقف القاهرة المؤيد لبغداد، ولكن أين موقف جامعة الدول العربية التي لا تزال تنتقي عبارات التنديد بحذر شديد؟

لعلّ جامعة الدول العربية لا تدرك حقيقة خطورة الموقف حتى الآن، ذلك إن الفشل في العراق وانقسامه سينعكس على جميع البلدان العربية، نظراً للدور المحوري للعراق، مثل مصر ومثل سوريا؟ ألم تؤثر الأزمة السورية على عموم دول المنطقة؟ وفي الوقت الذي كانت معاناة الشعوب العربية تتعاظم وتتضاعف بشأن التجاوز على حقوقها وحرياتها كانت جامعة الدول العربية تتذرع بميثاقها الذي يحرّم التدخل بالشؤون الداخلية ويؤكد على احترام السيادة، ولا يتناول من بعيد أو قريب مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان، تلك التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة 7 مرات، وبما أن الدول العربية جميعها أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وبعضها مؤسساً فيها كما هو العراق، كان ينبغي تعديل ميثاق جامعة الدول العربية ليستجيب للتطور الدولي على هذا الصعيد ولينسجم مع قواعد القانون الدولي المعاصر، ولاسيّما القانون الدولي لحقوق الإنسان ولميثاق الأمم المتحدة.

لقد تقدّمت أكثر من دولة لتعديل ميثاق جامعة الدول العربية، وذلك على مدى عقود من الزمان، وانعقدت ندوات أكاديمية وبحثية بعضها لمركز بحثي ريادي ورصين وهو مركز دراسات الوحدة العربية الذي نظم ندوتين بخصوص جامعة الدول العربية الأولى في اليمن في العام 1989 وبعنوان  “جامعة الدول العربية: الواقع والطموح”  والثانية في بيروت في العام 2003 والموسومة " من أجل إصلاح جامعة الدول العربية"، لكن جامعة الدول العربية ظلّت بميثاقها الحديدي ونظام التصويت قائمة وكأنها جزء من تراث الماضي، في حين يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية لإعادة النظر بالميثاق ليستجيب للتطور الدولي. 

وحتى الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي تقرّر إبرامه بعد طلب من الأمم المتحدة بإنشاء لجان دائمة، عشية مؤتمر طهران الأول لحقوق الإنسان العام 1968، وتم الشروع عملياً بتشكيل لجنة لغرض إعداده، إلاّ أن اللجنة ومعها جامعة الدول العربية كانت تنام وتستيقظ لمدة 23 عاماً حتى أنجزت  الميثاق في العام 1994، وذلك بعد مؤتمر فيينا العالمي العام 1993، وهو المؤتمر الذي دعا من خلال وثيقته المهمة إلى الامتثال للمعايير الدولية لحقوق الإنسان والعمل على بلورتها من خلال برامج وفعاليات لإدماجها في النسيج الوطني عبر تشريعات ومناهج وهيئات.

لكن ما تم الاتفاق عليه لم يدخل حيّز التنفيذ بسبب تحفظات لعدد من الدول العربية، وأعيد بحث موضوع الميثاق بمبادرات ساهم فيها المجتمع المدني العربي، حتى أقرّ في العام 2004 ودخل حيّز التنفيذ في 15 آذار (مارس) 2008، لكنه بقي بحاجة إلى تفعيل وتطوير، وبإعادة النظر بميثاق جامعة الدول العربية أساساً.

كلّما حدثت أزمة عربية سياسية جرى الحديث عن أزمة الجامعة، وكان الأمر حاداً وصارخاً، بشأن دورها إزاء الأزمة السورية، وبتبنيّها وانخراطها في مشروع دولي كان في جزء من حيثياته فرض حصار على سوريا، وهو دور وموقف تجاوز ميثاقها كثيراً، فكيف يمكن الموافقة على الحصار وإضعاف الدولة التي لا بدّ من مطالبتها باحترام حقوق الإنسان ووقف القمع ضد الأنشطة والفاعليات المدنية والسلمية وللسكان المدنيين الأبرياء، والأمر مثله يتطلّب ضد أي انتهاك لوحدة الدولة وضد أي خرق من جانب جماعات مسلحة لحقوق الإنسان وتحت أي عنوان، لتقسيمها أو تفكيكها.

خلال هجوم داعش اكتفت جامعة الدول العربية في العراق بموقف دبلوماسي حين حذرت من خطورة تفاقم الأوضاع الأمنية في العراق، مؤكدة أنها تتابع بقلق بالغ هذه التطورات وتجري اتصالات مع مختلف الأطراف، وكان عليها اتخاذ موقف حازم إزاء إعلان تنظيم داعش " الدولة الإسلامية للعراق والشام" الخلافة واختيار أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين، واجب الطاعة، وأن تطالب جميع الدول الأعضاء اتخاذ الموقف ذاته، وأن تدعو مجلس الجامعة للاجتماع على مستوى وزراء الخارجية العرب، وعدم الاكتفاء بالعبارات الروتينية حول خطورة الموقف وإصدار تحذيرات والقلق إزاء تطورات الأوضاع.

وعليها أن تعلن وقوفها إلى جانب بقاء الدولة العراقية موحّدة  مثلما تطالبها بإقامة حكومة شراكة جامعة وحلّ المشكلات بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة وبالتوافق، ومن واجبها أن تطالب الجميع بضرورة التوصل إلى اتفاقيات في إطار الوحدة الوطنية، بغض النظر عن الرئيس والمرؤوس والمركز والإقليم، آخذة بنظر الاعتبار الاستحقاقات الدستورية أيضاً.

ومن الضروري بذل جهد عربي موحد تكون جامعة الدول العربية رائدة ومنسّقة فيه بخصوص التعاون للقضاء على الإرهاب لأن خطره لا يخص العراق وحده، بل أن شروره ستمتد إلى دول المنطقة جميعها، وعلى جامعة الدول العربية التنسيق مع الأمم المتحدة ودول مجلس الأمن الدولي بخصوص تهيئة مستلزمات مكافحة الإرهاب في المنطقة، بالتعاون والتنسيق على جميع الصعد.

لقد عجزت الجامعة حتى الآن من تنظيم اجتماع عاجل لوزراء خارجية الدول العربية لمناقشة الأزمة ومخاطرها والسبل العملية لمواجهتها. وكانت القمة العربية لعام 2012 المنعقدة في بغداد قد اتخذت قراراً بحظر الترويج الإعلامي للمجموعات المتطرّفة والإرهابية وهو مدخل بحاجة إلى تفعيل وتطوير. وعلى جامعة الدول العربية أيضاً وبالتعاون مع مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة العمل على توفير المساعدة للعوائل المهجّرة والنازحة بسبب استيلاء داعش على الموصل والأنبار وتكريت وقضاء طوز خورماتو في كركوك ومناطق عراقية أخرى، وتقدّر هذه بمئات الآلاف.

ولم يكن اجتماع المندوبين الذي صدر عنه موقف عمومي اتسم بالدعوة إلى حفظ الاستقرار ووحدة الصف العراقي ميدانياً وسياسياً والقضاء على الإرهاب ونبذ العنف والطائفية، سوى كلمات مواساة ومجاملة، في حين أن ما ينتظر من جامعة الدول العربية شيئاً آخر، وإلاّ لماذا هي جامعة الدول العربية؟. 


Al-Jazeera Net 20/07/2014