Skip to main content

المفكّر وحيداً .. لكنه جامع!

 

حين تنظّم الجامعة الأمريكية في بيروت مؤتمراً أكاديمياً على مدى يومين لعالم اجتماع عراقي، فلأنها تدرك ماذا يعني علم الاجتماع في العراق، وإشكاليات المجتمع العراقي ومشكلاته، تلك التي حاول الدكتور علي الوردي أن يجتهد في بحثها على مدى نحو أربعة عقود من الزمان، ليقدّم عصارة فكره في مجموعة من الكتب والأبحاث والدراسات التي أثارت جدلاً واسعاً منذ مطلع الخمسينيات، بدأ ولم ينقطع، خصوصاً وقد عالج مواضيع مثيرة، وقضايا حسّاسة، بل خطيرة، سواءً بمواصفات تلك الأيام أو حتى في أيامنا الحالية. فما الذي جعل علي الوردي يحظى بمثل هذا الاهتمام والشهرة والاختلاف والجدل والنقد، كما لم يحظ غيره من علماء الاجتماع أو المفكرين العراقيين والعرب المعاصرين؟

  لعلّ ذلك يعود لأسباب عديدة، منها أولاً، شجاعته اللامتناهية في التعبير عن وجهات نظره واجتهاداته،  وفي الدفاع عنها دون اكتراث حتى لو خالفه الجميع أو خالفهم في التفرّد أو التمايز.  وثانياً،  استعداده ورغبته لإثارة الجدل والنقاش واستدراج أوساط مختلفة للاشتباك معه أو للاشتباك معها، الأمر الذي وفّر له ساحة واسعة للتعبير وللنشر انطلاقاً من سجالات له ومعه حول قضايا اختلافية، حاول هو أن يفككها ليسعى لإعادة تركيبها وفقاً لمنهج انثروبولوجي وبأدوات سسيولوجية ومعطيات تاريخية، وظّفها جميعها بطريقة بارعة لدعم تحليلاته واستنتاجاته، والمسألة الثالثة هي انتاجه الغزير وقلمه السيّال، الذي لم يدع شاردة أو واردة في التاريخ العراقي، ولاسيّما المعاصر دون أن يسلّط الضوء عليها من زاوية علم الاجتماع وسسيولوجيا المعرفة، مؤلّفاً ذلك ببحث يتداخل فيه الاجتماعي بالتاريخي والسياسي بالنفسي،  في إطار الاستفادة من التراث،  وإخضاعه للتحليل  بأدوات منهجية للمدرسة الاجتماعية الحديثة وأساليبها الجديدة.

 لم يتوجّه الوردي إلى الخاصة أو ما نطلق عليهم  «النخبة»، بل كتب بلغة مبسّطة، لكنها من «السهل المُمْتنع» لعموم القرّاء والطلبة والمهتمين والمثقفين

 وكان القلم سلاحه المفضّل ومصدر قوته الأكيد، به يكافح وينافح للدفاع عن وجهات نظره واجتهاداته،  بخصوص الطبيعة البشرية وخصائص المجتمع العراقي، والصراع بين البداوة والحضارة، والتناشز الاجتماعي،  وازدواجية الشخصية،  التي كانت المرتكزات الأساسية في منظومته الاستدلالية، التي حاول تعميقها بجهد نظري وعملي حدّ الكدح اليومي، لتأكيد استنتاجاته ولردّ الانتقادات التي حاولت النيل من أطروحاته.

 واجهه رجال الدين المعممون والإسلامويون والطائفيون وذيولهم من الفريقين ورؤساء العشائر،  واليسار واليمين من الماركسيين والقوميين، والتقدميين والمحافظين، في الآن ذاته،  وبقدر ما كان ضد توظيف الدين وانتقد الوعظ والواعظين،  فقد كان في الوقت نفسه ضد نظريات الحتمية التاريخية للصراع الطبقي،  مثلما هو ضد نظريات الاستعلاء القومي، والانحيازات المسبقة،  ذات «العصبيات» القبلية بألوانها المختلفة. 

 ولم يكن ذلك يسيراً على شخص أعزل مثل الوردي أن يواجه كل هؤلاء الخصوم، وذلك العدد الهائل والمتنوّع من الاتجاهات والمدارس الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية،  لولا فضاء التسامح للدولة والمجتمع معاً،  وأجواء الحرية النسبية، ولاسيّما حرّية البحث العلمي التي ظلّت علامة بارزة للجامعات العراقية في سنوات الخمسينيات والستينيات ولغاية أواسط السبعينيات، لكنها أخذت بالتدريج تتجه نحو الفكر الشمولي الواحدي الإطلاقي،  وزاد الأمر تعقيداً بعد احتلال العراق العام 2003 حيث تفشّت نزعات الهيمنة ومحاولات الاستتباع، وساد التكفير بدلاً من التفكير، في ظل ضغوط من خارج الجامعات امتدّت إلى داخلها، حيث انتشرت مظاهر الانقسام الطائفي والإثني.

 ولو عاش علي الوردي أو مارس عمله في السنوات المتأخرة، ما تمكّن من إلقاء محاضراته أو نشر كتبه أو إحداث هذا التأثير الذي أحدثه،  لأن سيف التأثيم ومن ثم التحريم ووصولاً إلى التجريم كان سيلاحقه أو يطاله،  لاسيّما وقد بحث في قضايا شائكة وتناول مسائل عقدية ودسّ أنفه حسب البعض في كل ما هو مختلف عليه، بل كان بعض ذلك سبباً في احترابات لا عقلانية لقرون من الزمان،  ولا زالت تغذّي عقول البعض، بل تقصف المجتمع،  بسيل من الأفكار والخزعبلات،  لكنها أقرب إلى المدفعية الثقيلة،  حيث قطع الأعناق وجزّ الرقاب والتكفير وفرض الرأي الواحد والصوت الواحد والذوق الواحد وإملاء الإرادة ومحاولات الهيمنة بوسائل مختلفة وتحت دعاوى ومزاعم متنوعة. 

 ولو لم تكن الأجواء مناسبة، بل ورحبة على ضبابيتها، والهوامش مسموحة على شحّتها، لما كان بالإمكان أن تقرع الحجة بالحجة ويدافع عن الرأي بالرأي، ويواجه المنطق بالمنطق، ولكنّا قد حُرمنا من الاطلاع على أفكار وإبداع عالم كبير، شغلت أسئلته حياتنا الفكرية والثقافية، وانعكست معانيها ودلالاتها على المجتمع، وظلّت تشغل المعنيين والدارسين من مختلف الاتجاهات، سواءً من موقع التأييد أو من موقع التنديد، سلباً وإيجاباً. 

 ولعلّ بعض ما تناوله الوردي واعتبرناه من الماضي، أطلّ برأسه مجدداً، لاسيّما ما هو مضمر باستبطان بين البداوة والحضارة في مرحلة انتقال لا تزال تشوبها الكثير من المنعرجات والعقبات في دروب وعرة وتواجه الكثير من التحدّيات القديمة والجديدة، لاسيّما العصبية القبلية بثوبها المذهبي، وتلك إحدى مباحث الوردي وأسئلته بشأن «اللاشعور» الجماعي، خصوصاً ما ظهر بعد احتلال العراق في العام 2003، الأمر الذي أعاد الحاجة إلى قراءة علي الوردي وأطروحاته بخصوص المجتمع العراقي، لا باعتبارها معالجات لأوضاع الحاضر، بل لكونها توفّر مادة مفيدة لدراسة مشكلات المجتمع العراقي التاريخية، من وجهة نظر أحد كبار السسيولوجيين العراقيين، خصوصاً بعد انقطاع لسنوات غير قليلة عن توفّر كتبه لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، وما مرّ به المجتمع العراقي من حروب وحصار وارتفاع الموجة الطائفية التي تكرّست بالاحتلال. 

  لم يتوجّه الوردي إلى الخاصة أو ما نطلق عليهم  «النخبة»، بل كتب بلغة مبسّطة، لكنها من «السهل المُمْتنع» لعموم القرّاء والطلبة والمهتمين والمثقفين، ومن جميع الفئات والاتجاهات، سواءً من تأثروا به أو تتلمذوا على يده، أو خالفوه، وقد أثار جدلاً ونقاشاً هادئاً وصاخباً في الوقت نفسه، بعضه في قاعات الدرس وبعضه الآخر على صفحات الصحف، وفي كتبه المنشورة بطباعتها البسيطة، إضافة إلى خلايا الأحزاب السرّية واجتماعات الأحزاب العلنية والجمعيات والاتحادات والنقابات، والمقاهي البغدادية بشكل خاص، في مقهى الشابندر والبلدية ومقهى خليل وعارف آغا والزهاوي والبرلمان والبرازيلية والخيام في الستينيات وغيرها.

 لم يكن خطابه تبشيرياً عقيدياً، يقينياً دعوياً، بل كان تنويرياً، جدلياً، تساؤلياً، أي أنه لم ينطلق من يقينيات أو مسلمات أو إيمانيات جاهزة، بقدر ما كان يقوم على الشك والفرضيات والعقل، وصولاً إلى استنتاجات وحسب هابرماز « لا بديل للعقل سوى العقل نفسه». وربّما ساعده فضاء الجامعة والكثافة الحوارية التي كانت تمتاز بها تلك الفترة الساخنة من حياة العراق، خصوصاً لدى النخب، حتى وإن كان المستهدف هم العامة وليس الخاصة، لكن قدرة النخب على الحوار والجدل، لاسيّما في الحقل الأكاديمي، ساهمت في وصول الرسائل التي أراد علي الوردي إيصالها، ونجح على نحو باهر، منطلقاً من ذاته، كمؤسسة، لوحده: أكاديمية وإعلامية هائلة، يتسابق الخصوم قبل المريدين على اقتناء أبحاثه ودراسته، لما تثيره من شهيّة في السجال والحوار والجدل، ولمّا تتضمنها من معلومات قيّمة وإعادة قراءات للتاريخ بلغة سسيولوجية جديدة، مصحوبة بجرأة في الاجتهاد منحها لنفسه غير مكترث بما يقال، خصوصاً إزاء الفرد أو المجتمع أو السلطة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.    كانت صراحة الوردي ونزاهته وصرامة البحث العلمي لديه تشكّل منظومة قيمية منحته نوعاً من الحصانة السياسية، على الرغم من أن فترته شهدت صراعاً سياسياً حاداً في العراق، وبقي هو على مسافة من الجميع، دون أن يخفّض سقف اجتهاداته، لذلك حظي حتى وإن على مضض باحترام الفرقاء والمختلفين، مع بعض التوجّسات، لاسيّما من أصحاب الآيديولوجيات المتصارعة، في السلطة أو القريبين منها أو خارجها.

 ويعتبر كتابه  «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» أحد أهم انجازاته العلمية، بل من أهم انجازات علم الاجتماع والتاريخ السياسي الاجتماعي (العراقي والعربي)، حيث ضخّ فيه مفهوماته السسيولوجية التاريخية، السياثقافية في إطار فكري وهارموني لتاريخ المجتمع العراقي بعد سنوات طويلة من الدرس والتمحيص بحثاً عن الحقيقة.

 الاحتفال بمئوية الوردي، التلميذ اللامع لأستاذه عبد الرحمن بن خلدون ومقدمته الشهيرة،  إنما هو احتفال بعلم الاجتماع العربي، الذي عاش قروناً وربما سيمتد لقرون أخرى.


 باحث ومفكر عربي

جريدة اليوم السعودية ، 14/3/2014