Skip to main content

بغداد عاصمة الثقافة العربية

 
لعلّ الأصل في أن تكون للثقافة عاصمة سنوية، هو مبادرة مشتركة لوزيري الثقافة في اليونان وفرنسا، ففي العام 1985 اتفقت وزيرة الثقافة اليونانية الممثلة ملينيا ميركوري مع وزير الثقافة الفرنسي المفكر جاك لانغ على تبنّي هذه الفكرة وإخراجها إلى حيّز التنفيذ، وكان الغرض منها نسج خيوط التقارب ومدّ بساط التواصل بين المدن والعواصم الأوروبية، ذات الثقافة المتنوّعة والتعددية، في إطار هدف تعزيز العلاقات وتطويرها والتعريف بتاريخ الأمم والشعوب وثقافاتها، والعمل على تعميق المشتركات الأوروبية، لا سيما في القيم الثقافية والروحية والجمالية ذات الأبعاد الإنسانية .
ومنذ أن انطلقت تلك المبادرة، حتى بدأت منظمات وجهات دولية وإقليمية على تبنّيها، فأصبح هناك أكثر من مناسبة لأكثر من مدينة، وعنها تم استحداث ذلك عربياً وإسلامياً، فتارة يتم اختيار عاصمة للثقافة العربية وأخرى للثقافة الإسلامية، وهكذا، إضافة إلى مناسبات أخرى لعواصم أو مدن تقام فيها فعاليات ثقافية وفنية، لتعبّر عن رغبتها في أن يكون لها شأن في ثقافة الأمم أو الشعوب أو البلدان .
وبالطبع، فإن القرارات التي يتم اتخاذها بكون هذه العاصمة أو تلك هي عاصمة للثقافة لا يعني أنها ستتحوّل بين يوم وليلة إلى مركز للثقافة، فهناك فرق بين عاصمة وأخرى، تبعاً لإرثها الثقافي وتطورها الحضاري وتاريخها الثقافي . وقد جاء اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية لهذا العام ليثير الكثير من الجدل والنقاش، فهل بغداد مؤهلة حقاً لتحتضن المثقفين العرب؟ وهل مثل هذا الاختيار رغبة سياسية في تقليص العزلة والتهميش الذي عاشته بغداد خلال السنوات العشر الماضية من الاحتلال، أي منذ العام 2003 ولحد الآن، فضلاً عن الإشكاليات التي لاتزال تعصف بفضائها الثقافي قبل غيره، مثل المحاصصة الطائفية والإثنية، والفساد المالي والإداري، واستشراء الإرهاب والعنف وغير ذلك من الظواهر الخطرة، فضلاًعن شحّ الخدمات ولا سيّما الكهرباء والماء الصافي والتعليم والصحة، وغيرها؟
ولكن، كيف لبغداد أن تستعيد هوّيتها الثقافية التاريخية دون مشاركة عربية، ودون عودة بغداد إلى حاضنتها العربية، وعودة العرب إلى العراق بكل تنوّعه العربي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني، وبكل امتداداته الدينية وتعدّد مذاهبه وفقهائه في السابق والحاضر؟ وإذا كان الحدث قد اكتسب طابعاً سياسياً، فكيف السبيل خلال هذا العام ليتحوّل الحدث إلى بعد ثقافي، يتعلق بالعمران والجمال والأدب والفن بكل فروعه وحركة النشر والترجمة وكل صنوف الإبداع والمعرفة؟
لعلّ المسألة الأولى تتعلق بكيفية الاحتفاء بكبار المثقفين والمبدعين العراقيين وتكريمهم والاستماع إليهم والتعاطي معهم من موقع الاتفاق أو الاختلاف، فوظيفة المثقف الأولى هي النقد الذي لا ينبغي أن يضيق به صدر المسؤولين، وهو الأمر الذي يتطلب تجسير الفجوة وتقليص الهوّة بين المثقف وبين صاحب القرار، ولأن المثقف حساس بطبعه ولا يريد توظيف أدواته الإبداعية لمصلحة السياسي، فلا بدّ أن يكون مجال الرأي واسعاً خارج نطاق الطوائفيات، والتحزّبات والانحيازات المسبقة، مذهبياً وإثنياً وسياسياً وجهوياً وعشائرياً وغير ذلك، لأن المثقف الحقيقي هو من يكون عابراً لهذه الانتماءات الضيقة دون أن يعني الترفّع عليها، فالهوّية الفرعية ينبغي أن تُصان وتحترم، ويمكن أن تتفاعل مع الهوّية الوطنية العامة الجامعة، على أساس الحرية والمساواة والعدالة ومبادئ المشاركة، وتلكم هي مفردات المواطنة السليمة .
إن الثراء الثقافي العراقي والتنوّع الحضاري والمعرفي وتعدّد المدارس الفكرية والثقافية والدينية، يمكن أن يكون عامل توحيد في إطار ثقافة عراقية موحدة وليست واحدة، متعدّدة الانتماءات والمشارب، ولكنها موحّدة التوجّه والأهداف، ذات أبعاد إنسانية تقوم على تمجيد قيم الحرية والجمال والعمران والسلام، وتعتمد الحوار وسيلة سليمة للتفاعل والتواصل وهو الأمر الذي ينبغي لصاحب القرار إدراكه والتعامل معه، بغضّ النظر عن التوجّه السياسي والانتماء الآيديولوجي والانحدار القومي أو الديني أو غير ذلك، ففي نهاية المطاف لا يمكن حصر الثقافة والمثقفين ضمن قالب أو تطويع أقلامهم أو ريشهم أو قصائدهم أو مسرحهم أو أفلامهم أو منحوتاتهم أو مقطوعاتهم الموسيقية أو غير ذلك من وسائل الإبداع، لأن الفن والأدب والثقافة مثل كل شيء في الحياة تعددّي، بل هي تعددية بامتياز بطبعها، والفنان والأديب والكاتب له خصوصيته التي ينبغي احترامها ولا يمكن تدجينه أو ترويضه في هذا القالب السياسي أو هذا الإطار التحالفي أو ذاك، لأن خياره الأساسي هو الحرية، وإن حصل تطويع المثقف فلحين قصيرة فقط.
وعلينا الاعتراف بأن الكثير من الأدباء والكتاب الذين اختاروا المنفى القسري منذ أواخر السبعينات مازالوا فيه، لا سيّما أنه قد تعرّضت البلاد لاحتلال غاشم وانفلت العنف إلى درجة مريعة، وأن الكثير من المثقفين الذين اختاروا المنفى اضطراراً في وقت لاحق، خصوصاً في شدّة الحصار الاقتصادي، مازالوا في الخارج، بل إن فريقاً آخر من المثقفين من وجد طريقه إلى المنفى بفعل الاحتلال والتطهير المذهبي والإثني لاحقاً، فضلاً عن عمليات الاغتيال التي تعرّض لها الأكاديميون والمثقفون من شتّى الاتجاهات .
ليس من الضروري أن يعود كل هؤلاء، فلكل ظروفه بغض النظر عن مواقفهم الفكرية والسياسية، خصوصاً وقد عرف العراق خلال ما يزيد عن ثلاثين عاماً ثقافة واحدية إطلاقية، أطبقت بالتدريج على جميع مفاصل المجتمع والدولة، وتركت تأثيراتها اللاحقة على مجمل حركة الثقافة والمثقف، سواء عبر ردّ فعل أو عبر استمرارها وتواصلها بأشكال مختلفة. وإذا كان نظام الاستبداد قد انتهى فإن الاستبدادية كثقافة لا تزال سائدة، بل إنها ابتدعت أساليب جديدة، من داخل الحكم ومن خارجه، خصوصاً في ظل أعمال العنف والتكفير والارهاب والاستقطاب الطائفي.
لقد عانى المثقفون العراقيون على مرّ العهود من القمع والاضطهاد وكانوا باستمرار رأس حربة ضد الاستعمار ومشاريعه واتفاقاته، وضد الأنظمة الاستبدادية، ولحق الأذى بالمثقف اليساري والديمقراطي والقومي العربي والكردي والإسلامي، تحت مبررات مختلفة دون أن يعني أن المثقف في السابق والحاضر لم يحاول أن ينفخ في صورة الحاكم ويزيّن خطابه الأيديولوجي ويبرّر قمعه البوليسي، بل وحروبه ومغامراته، بمن فيهم من حاول الاصطفاف في الخنادق الطائفية والمذهبية، سواءً بشكل معلن أو غير معلن، وتحت واجهات استشارية أو تعاقدية، بل إن بعضهم أرسل رسائل الشكر إلى جورج دبليو بوش الذي قاد الحرب على العراق  .
ثلاث رسائل أساسية كانت وراء اعتبار بغداد عاصمة الثقافة العربية، الرسالة الأولى أن بغداد على الرغم من الاحتلال والخراب والإرهاب والعنف، تسعى إلى استعادة دورها التاريخي بحيث تكون منارة للثقافة، ليس في سابق عهدها أيام المنصور والرشيد والمأمون، بل حين كان الزهاوي والرصافي والجواهري ومصطفى جواد، وعلي جواد الطاهر، والأب أنستاس الكرملي ورفائيل بطي، وسعد صالح، وعلي الشرقي، والشبيبي، وعلي الوردي، ومحمد باقر الصدر، وجواد علي، وذنون أيوب، وسيد مصطفى جمال الدين، وعبد الجبار عبدالله، وعبد العزيز الدوري، ومحمد سعيد الحبوبي وإبراهيم كبه، ومحمد حسن سلمان، وخير الدين حسيب، والبياتي، وبلند الحيدري، وسعدي يوسف، وأبو كاطع، وإبراهيم أحمد، وعبدالله كوران، وشيركو بيكسه، ويوسف العاني، وناهدة الرماح، وزينب وعشرات الأسماء اللامعة .
الرسالة الثانية هي أن بغداد على الرغم من الأوضاع القاسية التي تتعلق بالأمن والاستقرار، لاتزال تحتفي بالثقافة باعتبارها وعاءً رحباً للتواصل الإنساني، وهي تسعى إلى استقطاب المثقفين لتكون حاضنة لهم، وربّما ذلك واحد من أخطر التحدّيات التي ستواجهها خلال هذا العام، لكونها عاصمة الثقافة العربية، وليس بوسعها أن تكون كذلك إلاّ بالتفاعل مع العالم العربي ومثقفيه!
الرسالة الثالثة أن الانطلاقة على الرغم من تواضعها وحتى فقرها، ستدفع المعنيين من خلال النقد والمراجعة والتصويب وإدراك حجم التحدّي الثقافي، إلى إعادة النظر بالكثير من الأمور، تنظيماً وتوجهاً وأسلوباً، فضلاً عن بعض الجوانب المهنية والاعتبارية، لا سيّما أنه قد أثقل الكثير على كاهل بغداد ووصل الأمر إلى درجة القطيعة أحياناً، سواء في الماضي وبسبب الحروب والحصار، أو في الحاضر بسبب الاحتلال، وفيما بعد العنف والإرهاب والمحاصصة .
كل ذلك كان أمام اللقاء المفتوح والحوار الصريح الذي ضم عدداً محدوداً من المثقفين العراقيين مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي استمع إلى نقد وتقويم، يريد لبغداد أن تكون عاصمة حقيقية للثقافة والإبداع والفن والجمال والعمران والسلام!


صحيفة الخليج الاماراتية ،الاربعاء 10/4/2013