Skip to main content

بين المسلمين والمسيحيين ... خناق أم عناق؟

بمناسبة الذكرى الثالثة لاحتلال اراضينا في سهل نينوى

 

بين المسلمين والمسيحيين ... خناق أم عناق؟

                                                                                  مقال

للمونسينيور بيوس قاشا

   في البدء...

ربما شاءت الإرادة الإلهية أنْ نُطرَد من بيوتنا وتُسرق أموالنا وتُحرق منازلنا ونلجأ إلى الغربة من أجل بقاء الحياة. وأمام هذه المأساة بل الإبادة والضياع لم يُسمَع صوت بكائنا ولا أنين آهاتنا ولا ألم معاناتنا إلا من قليل من كبار الزمن ورؤساء الدنيا والجالسين على كراسي الحكم والنظام، فكان مَن مَدّ لنا يد الرحمة والعون وكلٌّ حسب قدرته وإمكانياته، ولذلك نحن لهم شاكرون. ولكن الحقيقة لم تقال بعدُ، والسؤال يظهر جلياً ليجد نفسه بلا جواب: هل بين المسلمين والمسيحيين حروب وخصام أم عِداء عبر آيات وحقيقة الإيمان؟، وهل لا زال المسلمون _ ومنذ أمد بعيد _ يكفّروننا ويصغّروا قاماتنا ويقلّلوا من وجودنا وقيمته؟، وهل الإسلام الأصولي أدرك أن عليه أن يترك مسار التكفير والذمّة والجزية كي يكون في مسيرة العيش المشترك وقبول المختلف عنه في كامل الحقوق عبر إنسانية الحياة ونِعَم السماء، بل أقولها حقيقة وتلك إرادة المسيح الحي الذي أوصانا بها إذ قال:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8)؟، هل بين المسلمين والمسيحيين _ وبعد صراعات فكرية وطائفية _ وعلى مدار الزمن والسنين، عناق أم خناق؟.

   المجرم الداعشي

          يقول لنا الزمن في كباره ومصالحه أنْ عودوا إلى دياركم وابدأوا الحياة وكأنّ شيئاً لم يحصل، أو لم يكن، وما أجمله من كلام بل وما أغناه من فكر ومسيرة، وهكذا يُنشد أيضاً كبار معابدنا وسياسيّو حكوماتنا دون أن يُظهروا لنا ما هي السبل التي يجب إتّباعها لمستقبل لا يتكرر علينا هجومه الداعشي الوحشي في شراسة البشر القاتلة وأصوليتهم. وهل بناء الجدران والحيطان أهم بكثير من إعادة ثقة الإنسان في مسيرة الزمان ومستقبل الأيام؟، لا أعلم، وليس بإمكاني أن أعطي جواباً لسؤال لا أجد له حلاً بسيطاً، بل عليّ أن أدفن الحقد الذي يسكن في قلبي والكراهية التي ترافق مسيرتي والبغض الذي ينظر إلى الذي ظلمني وقتلني وسرقني، ويزأر أمام كل وجه شوَّهَتْه آيات التكفير وعلامات الذمّة والتصغير، ولم أجد في ذاتي وأمام عيوني إلا الأصالة المذبوحة والهجرة البائسة والتراب المدنَّس بأرجل الدواعش الأشرار، وما تلك إلا أخطار تداهمنا ليلاً وحتى نهاراً.

      أصوات ... وأصوات

          وأيضاً أسأل المرجعيات والمشايخ والعلماء الموقَّرين، وعلى اختلاف مذاهبهم ومدارسهم وعلمائهم وانتماءاتهم، هل أتت فتاواهم بإيقاف تكفير المسيحيين، وهل حرّمتهم من قتلهم أو منعتهم من فرض جزية عليهم أو إجبارهم على إعتناق الإسلام وحرمان أي نوع من الممارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية التي تمسّ أمان واستقرار وسلامة المسيحيين وممتلكاتهم؟.

          نعم، كانت أصوات من عدد من المرجعيات الموقَّرة والعلماء المحترمين تُعلَن من على منابر الخطابة في المساجد والجوامع، ولكن أية فائدة تعمل في قلبٍ يؤمن بما يقوله إيمانه بقتل كل كافر مختلف عنه وذلك حلال عليه وكأنه يقدّم خدمة لرب الجلالة الذي جعله نائباً عنه ليفتك ويقتل ويطهّر الأرض منهم ومن بلاياهم. فنحن اليوم نعيش في وسط أصولي داعشي إرهابي، ملأ الأرض فساداً وجريمةً وتكفيراً. أليس من حقهم أن يشعر المسيحيون _ أنهم على مدار الزمان ومسيرة الأيام _ بالمذلّة والخوف والرعب والسيف المسلَّط دائماً وأبداً على رقابهم، وإشعارهم بأنهم "صاغرون" (التوبة 29).

   وطن واحد

        إننا نحن المسيحيين نشعر إننا مع المسلمين شعب واحد، وهمومنا ومعاناتنا واحدة وفي وطن واحد، إنها رسالة وهذه ليست صدفة بل إرادة من الله تجسدت في أرضنا ومشيئته علينا، وندرك جيداً أن ألمنا واحد ونحن كلنا نركب قارباً واحداً لا وجود فيه للحواجز والجدران العازلة، وليس فيه نبوءات عن القتل والتكفير والذمم، بل في هذا القارب نتقاسم الحياة، وفيه نعيش معاً ونموت معاً ونواجه مصائبنا وعواصفنا معاً عبر تظافر جهودنا، ونعمل جاهدين كي لا تنقسم إرادتنا وهدفنا، فإذا انقسمنايغرق قاربنا ونغرق جميعاً معه... أليس كذلك!!!.

   رجال الإيمان

          ما أراه على الأخوة الإسلام أن يعلو صوتهم في وجه الإرهاب والتطرف حقاً وحقيقةً لإزالة ثقافة الخوف والترهيب والموت والتي يحملها الأصوليون الذين يدّعون أنهم إسلام ولا إسلام غيرهم والعكس صحيح، إذ أقول لا يمكن للدين أن يكون سبب تفرقتنا، فالوقوف في وجه الموت المهدِّد لنا رسالة سامية بل مقدسة، وهذا ما يدعونا إلى تعزيز الحوار والتلاقي في اكتشاف النقاط والخطوط البيضاء التي تجمعنا وليس الخطوط الحمراء والتي تفرّقنا في محو مساحات الاختلاف والعزلة والتفرقة، فالدين لله والمواطنون مؤمنون كلٌّ بدينه ولا دين فرّق عن آخر إلا بعيشه وقبوله وما نحن إلا رجال إيمان وليس رجال دين، فالدين علاقة ما بين الخالق والمخلوق، بين الإنسان والعليّ العظيم، أما رجال الإيمان فهم مَن يحملون الإيمان في صدورهم وسواعدهم، في غفرانه وتواضعه، لأن رجال الإيمان هم رجال خدمة في تواضع مسيرة الحياة.

   تفسيرات متطرفة

هل يجوز في هذا الزمن أن نقبل التفسيرات المتطرفة للنصوص الدينية؟، ألم يقل يوماً سماحة السيد عمار الحكيم:"إن النصوص المجتزأة يُراد منها إثارة الفتنة بين الطوائف" (17/5/2017)؟، أليس هو الآن زمن مراجعة المناهج في مدارسنا وكتبنا من أجل أن يزداد كل واحد معرفة بالآخر، وننشّئ أجيالنا بمسؤولية تجاه الجار والقريب والآخر المختلف؟، ألم يحن الوقت لإيقاف إصدار الفتاوى وآيات تكفّر أهل الكتاب وحاملوه؟، ألم يأتِ الزمان الذي فيه يُنَزَّل الخطيب من على المنارة وهو يلقي خطابه الديني المميت؟، أين هي حرية العبادة والدين والهوية؟، أين مسار قومية كل إنسان وبطاقته الوطنية؟، فالمكونات _ ومنهم المسيحيون _ وإنْ كانوا أقليات فهم مع الأغلبية يتقاسمون، وينشدون دستوراً واحداً يُصاغ فيه حقوقنا وواجباتنا وعلى السواء، فالدين لله والوطن للجميع، وللمؤمنين دينهم وإيمانهم، وللدولة دستورها وقانونها، فلا يمكن أن تدين الدولة بما تشاء الأغلبية، ولا يمكن للمؤمنين أن يؤمنوا بما يُكتَب لهم وما ليس بإرادتهم، وهذه هي الحقيقة بأَمِّ عينها، وهذا ما يجب أن يكون، بل وهذا ما يجب أن يحمله الدستور ليس إلا!!!.

   مستقبل شعبنا

          لاشكّ إننا نقف جميعاً وعلى حافة مرحلة تاريخية خطيرة وحساسة من حياة بلدنا العزيز ومستقبل شعبنا، وصحيح إن المنطقة تمرّ بتطرف لا يوصف وثقافة التعصب والطائفية المقيتة، وهذا لا يعني أن نسير مسارها بل أن نحدّد رؤيتنا ومصيرنا وما هي الدولة التي نصبو إليها ولتكن لكل المواطنين فهي مبنية على احترام هوية الآخر وحرية إيمانه ومبادئه واحترام رموز دينه وليس في السيطرة الدينية أو العددية أو الطائفية أو العشائرية أو القرابة أو النسابة، لأن قضيتنا ليست قضية وجود فقط بل قضية رسالة وخاصة في هذا العالم المضطرب وسط تحديات لا حصر لها. وقد قيل كثيراً أن الإرهابيين لا يمتّون إلى الإسلام بِصِلة ولكنهم يمضون في تجاهل الفكر الذي يتغلغل بين الأجيال الصاعدة والذي يعلن أن الجنة تُضمَن بقتل الأبرياء. فالمسيحيون لا يبغون هكذا جنّات، ولا يسعون إلى إقتنائها أو ربحها وحتى لو مجاناً، فجنّتهم هي في رسالتهم المُحِبّة لتراب إحتضنهم من أصولهم.

          فقد قال يوما سماحة السيد عمار الحكيم:"إن المكوِّن المسيحي ليس إضافة عددية بل نوعية، يحمل حضارةً وفكراً وتاريخاً في هذا البلد، وقوة العراق تكمن في هذا التنوع"، ودعا إلى الوقوف متضامنين لكسر الحواجز والتأكيد على القِيَم المشتَرَكة وهذا يحتاج إلى سعة صدر واحتواء وتقريب وجهات النظر (12/3/2013)... أمام هذا الحديث، أليس من أحكام واضحة من الإسلام تجاه المسيحيين وهي إشهار إسلامهم أو دفع الجزية أو القتل، ويجب قتال اليهود والنصارى لإرغامهم على الدخول في الإسلام، كما يجب قتال الصابئة والمجوس... فهل يجوز العودة إلى الخناق بعد ألفي عام من مسيرة الدنيا.

الخاتمــة

          إن المسيحية رسالة محبة ولا غيرها، فالمسيح الحي قال "وصية جديدة أعطيكم أنْ أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"(يو34:13) . فالحب يوصل إلى العناق في القيم المشتركة وفي تضامن الإنسانية أولاً ثم في المواطنة، والمأساة التي حلّت بنا تدعونا جميعاً نحن أبناء العراق بجميع مكوّناتهم أنْ يكونوا يداً واحداً وصوتاً واحداً ولا نكون عبيداً لجيراننا وتبعية لدول الاقليم والذين من حولنا ، مطيعين وخنوعين  رغم إرادتنا ، بل علينا أن لا نصنع إلا إرادة شعبنا وما هو خير لأجيالنا. فعناقنا يدعونا إلى نبذ الخناق، وما العناق بين الأخوة إلا رسالة السماء... فليتعانق المسلمون والمسيحون وما أجمله ليس إلا... نعم وآمين.