Skip to main content

ثلاثون عاماً على الإختفاء القسري


صفاء الحافظ وصباح الدرّة

سواءً كانوا يرتدون ملابس عادية أم زيّاً رسمياً، ام كانوا بوجوه مكشوفة أم يضعون أقنعة فوقها، يظهر بعضهم مباغتةً في مكان محدد ومرصود، فيقومون بتطويقه، لاصطياد الضحية، وهم يحملون السلاح في الغالب، بصورة ظاهرة أو مستترة، لكنهم يصوبونه عند اللزوم إلى صدر من يريدون اقتناصه أو إلى رأسه، ويأمرونه بالامتثال إلى إرادتهم دون إبداء أي رد فعل من شأنه أن يؤدي إلى إطلاق النار عليه.

غالباً ما يخفي هؤلاء الرجال هوياتهم ولا يفصحون عن الجهة التي ينفّذون أوامرها، ويبدأون بجرّ الشخص، وأحياناً بضعة أشخاص إلى سيارة أو عدّة سيارات تكون جاهزة في العادة، لتنطلق بسرعة خاطفة نحو مكان الاختفاء القسري، ولكي لا يعرف الضحية المكان الذي يتوجّه إليه الخاطفون يضعون قماشة سميكة فوق عينية أو يلبسون رأسه كيساً، ويوثقون يديه، كل ذلك دون أوامر إلقاء القبض في أغلب الأحيان.

هكذا يبدأ الفصل الأول للمأساة التي تفضي إلى الاختفاء القسري Forced Disappearance أو الإختفاء غير الطوعي Unvoluntary Disappearance   حسب تعبيرات الأمم المتحدة، ثم تبدأ فصول المأساة والعذاب الأخرى للمختفي وأسرته وللمجتمع. فالضحايا يظلون يجهلون أي شيء عمّا يجري خارج مكان اختفائهم، وأسرهم تجهل هي الأخرى إن كانوا على قيد الحياة أم لا؟ وإن قلقهم يكبر مع مرور الأيام وينعكس ذلك على حياة الأسرة خصوصاً: الزوجة والأولاد وتبعات ذلك قانونياً واجتماعياً ونفسياً ومعاشياً إن كان هو معيلها الوحيد.

في كل عام ومنذ عقود من الزمان، يستعيد العالم ذكرى المختفين قسرياً، في الجزائر والمغرب ولبنان والعراق وليبيا وإيران وسوريا وتشيلي والأرجنتين والعديد من دول أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وأفريقيا، خصوصاً وأن ظاهرة الاختفاء القسري متفشية في أكثر من 63 بلداً. وقد استذكرنا وعلى مدى أعوام المهدي بن بركة الذي اختفى في باريس العام 1965 والإمام موسى الصدر الذي اختفى في طرابلس العام 1978 والدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرّة وعايدة ياسين ودارا توفيق وأسعد الشبيبي والسيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى وعزيز السيد جاسم وغيرهم الذين اختفوا في العراق، مثلما اختفى منصور الكيخيا في القاهرة العام 1993، وفي لبنان لا يزال مصير شبلي العيسمي الذي اختفى قسرياً منذ عامين ونيّف (2011) مجهولاً، وهكذا. قلّة من المختفين قسرياً أجلي مصيرهم، فقد ظل المرتكبون حريصون على إخفاء كل أثر لهم.

في أواخر العام 2012 وفي الذكرى الـ 19 لاختفاء منصور الكيخيا أجلي مصيره الذي ظل مجهولاً منذ أن اختفى في القاهرة، ومنها، نقل إلى طرابلس بصورة سرّية حسبما انكشفت الحكاية، ومكث في معتقل سرّي خاص لغاية العام 1997 وتوفي بعدها، ولكنه استبقي في ثلاجة لغاية العام 2011، الاّ أن الثورة كشفت عن ملابسات اختفائه لاحقاً وقامت بتكريمه في حفل مهيب في ديسمبر (كانون الأول) العام 2012، وقد دعي كاتب السطور الذي كان له شرف كتابة كتاب عنه وعن ظروف اختفائه بعنوان “الاختفاء القسري في القانون الدولي- الكيخيا نموذجاً” (بالعربية والانكليزية، في العام 1998) وألقى كلمة في طرابلس وأخرى في بنغازي في الساحة التي انطلقت منها الثورة.

بعد أيام ستحل الذكرى الثلاثون لاختفاء الدكتور صفاء الحافظ ورفيقه الدكتور صباح الدرّة اللذان اختفيا قسرياً في ظروف غامضة وملابسات لا تزال مبهمة وملتبسة حتى الآن، حيث ألقي القبض على المراسل في الرطبة، الذي كان متوجهاً من بيروت إلى بغداد، واقتيد إلى جهة مجهولة، وتم اكتشاف جوازي سفر بحوزته لتسهيل مهمة الحافظ والدرّة لمغادرة العراق، وقد أرفقت معهما رسالة خاصة، وقد تكون تلك المعلومات وراء التعجيل بتصفيتهما، على الرغم من مطالبات المنظمات الدولية والعربية بإجلاء مصيرهما ومصير العديد من المختفين قسرياً.الخاطفون وحدهم هم الذين ظلّوا يراهنون على نسيان صفاء الحافظ وصباح الدرّة، كي تذبل القضية تدريجياً ويتلاشى الاحتجاج، بل يصبح الأمر مجرد ذكرى، ولذلك تراهم عمدوا إلى التعتيم، وأثاروا غباراً من الشك لإبعاد الموضوع عن دائرة الضوء وإبقائه في دائرة الظل… وهكذا كانوا يأملون في تآكله تدريجياً بالإهمال وصدأ الذاكرة وازدحام الأحداث ودورة الزمن .

وفي كل عام، ولاسيّما مع اقتراب  ذكرى صدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، غالباً ما يتردَّد السؤال المحيّر الذي كنت أستعيده وأطرحه بهذه المناسبة.. لماذا وكيف تمارس سلطة رسمية أو سلطات تابعة لها أو بمعرفتها، مهمات أبعد ما تكون عن مهمات الدولة، فتخفي أثر مواطن أعزل عن الأنظار في حين بإمكانها إلقاء القبض عليه إذا كان متهماً بارتكاب ” جريمة” ما، وتقديمه إلى المحاكمة الأصولية، وهو لا يملك سوى الامتثال للإجراءات الرسمية القانونية لسلطة مدججة بالسلاح والمال والإعلام والمخبرين، حتى وإن كان بريئاً؟

ثم لماذا تستبدل وظيفة الدولة، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس وأمنهم وممتلكاتهم، بمهمات عصابة خارجة عن القانون، مثلما تفعل الأخيرة عندما تقوم بخطف مواطن أو احتجاز سيّدة أو أخذ رهائن بمن فيهم أطفال سواء لطلب فدية أو لأي سبب ومبرر آخر؟

ربما كان ضيق صدر السلطات وتبرّمها من الرأي الآخر هو الذي يعطي الإجابات المقنعة على أعمال تقوم بها ” الدولة”، وهي في تناقض مع أبسط مقوماتها كدولة، وقد تكفّ أن تصبح دولة باستمرارها، لكن ذلك جواباً غير كاف، إلاّ إذا  نظرنا للأمر من زاوية عدم الثقة بالنفس، والخوف من الضحية وانتهاك حرمة المجتمع وترويعه باسم ” الآيديولوجيا” أو الدين أو الطائفة غيرها، بما يؤدي إلى تدمير العلاقات الإنسانية بين البشر وتصفية الخصم أو حجبه امتلاك الحقيقة التي تشكّل الأساس في الأفكار والأنظمة الاستبدادية والشمولية.

وبارتكاب جريمة الاختفاء القسري تكون الدولة قد خرقت (الشرعية الدولية) في أكثر من محور وكذلك الحقوق الفردية والجماعية للإنسان المنصوص عليها في المعاهدات والاتفاقيات الدولية. ويمكننا مقاربة ذلك من خلال الحقوق الاتية:

1-         حق الحياة والحرية والأمان الشخصي.

2-         الحق في ظروف احتجاز إنسانية أي عدم الخضوع للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الحاطة بالكرامة.

3-         الحق في الاعتراف بالإنسان كشخصية قانونية، فالاختفاء القسري يحجب عن الإنسان الحق في أن يكون له شخصية قانونية معترف بها، خصوصاً وأنه مجهول المصير، ومجهول المكان، ويعتبر في وضعيته تلك خارج النطاق القانوني.

4-         الحق في محاكمة عادلة.

5-         الحق في حياة أسرية طبيعية .

لقد أولت الأمم المتحدة اهتماماً مبكّراً بظاهرة الاختفاء القسري، ففي عام 1979 أصدرت قراراً بعنوان” الأشخاص المختفون”، وفي العام 1980 أنشأت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الفريق العامل المعني بمتابعة حالات الاختفاء القسري. ومن مهماته العمل كقناة اتصال بين عوائل المفقودين والحكومات، ويصدر الفريق العامل تقريراً سنوياً يغطّي فيه حالات الاختفاء القسري منذ ذلك التاريخ.

وفي الدورة السابعة والأربعين للجمعية العامة أصدرت الأمم المتحدة إعلاناً في 18 كانون الأول (ديسمبر) 1992 أطلقت عليه ” إعلان بشأن حماية الأشخاص من الاختفاء القسري أو غير الطوعي”، معتبرة أعمال الاختفاء القسري جريمة ضد الكرامة الإنسانية ويُدان بوصفه إنكاراً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة وانتهاكاً صارخاً وخطيراً لحقوق الإنسان وحريات الأساسية. واعتبر الاعلان إن جميع أعمال الاختفاء القسري تعتبر جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتّم على مصير الضحية ومكان اختفائه، ولا تسقط هذه الجريمة بالتقادم ولا يستفيد مرتكبوها من أي قانون عفو خاص، مثلما عبّر عن ذلك قرار الجمعية العامة رقم 39 لعام 1994 مشيراً إلى قلق المجتمع الدولي إزاء استمرار هذه الظاهرة الإجرامية، التي تستحق عقوبات ملائمة.

 باحث ومفكر عربي

جريدة الزمان العراقية،  4/1/2014