Skip to main content

جدلية الشعر والحياة

 

في الأمسية الاستذكارية للشاعر الكبير الجواهري 

 د. الهام كلاّب

مساء الخير، 

حضرة مدير المركز د. علي العبّادي

أيها الحضور الكرام

كلامي الليلة من على هذا المنبر، هو مزيج من الحنين والأمل، ونوع من البوح الذي أحبه وأخشاه..

هذا المركز الذي يستعيد موقعه اليوم- في بيروت وفي قلوبنا- عرفته منذ عقود، أي في  مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية ونهاية الستينيات (للأسف، أصبحنا في العالم العربي نؤرخ بمحطات حروبنا، بدل أن نؤرخ مثلما كنتم تؤرخون أيها العراقيون بفيضان أنهركم الخصبة).

عرفت هذا المركز، منذ أن طرقت بابه لأول مرة، سعياً للفرح، بوهج عربي واعد، و.. للاطلاع على مراجع ترفد عملي في تدريس أهم حضارات الشرق.

استقبلتني سيدة أنيقة جميلة مرهفة، شرعت لي أبواب المكتبة وأصبحت بعد ذلك صديقة عزيزة هي الأديبة ديزي الأمير (التي أرسل لها تحياتي).

وزمن اندلعت الحرب الأهلية سعيت لكي أرد كتاباً مستعاراً، ووجدت.. كما تقول فيروز "بابن مسكر والعشب غطى الدراج.. وما في حدا"..

اجتاز هذا الكتاب كل تهديم وهجرة وبقي عندي وكأنه تعويذة العودة التي قادتني اليوم إليكم للمباركة والفرح بافتتاح المركز من جديد...

وبالمقابل كانت ذاكرتي تحفظ بالحاح، عن العراق-، وبالرغم من الحرائق والدماء والآلام- بلداً يعج بمثقفيه وفنانيه ومفكريه، يتفاعل مع تاريخه ويبني صروحه المعاصرة.

زرت آثار سومر وبابل وطاق كسرى وسامراء والمزارات الشريفة.. وخاصة.. حفظت ذاكرتي تاريخ شخصيات فكرية وفنية لامعة، أبناء الحضارات القديمة الذين تلتصق خطاهم بتراب تاريخي، ويخترق مسامهم غبارها المحيي الأصيل..

لفحني هذا الهواء العراقي، بقوة وعذوبة، عندما استمعت في بيروت وللمرة الأولى إلى د. عبد الحسين شعبان / في توقّده الذهني واتساع معرفته/ في تجذّر فكره ونضج مفاهيمه/ في سلاسة أسلوبه وقوله/ في أصالة معرفته التراثية وحداثة منهجيته/ في مثابرة ذهنه الدائم التساؤل/في توقه لصياغة رؤية عربية إنسانية منفتحة متجددة تواجه ركام الخيبات، ونمو الأصوليات، وتنويعات العنف/ بالمثابرة على الأمل، وخصب الحوار، ووساعة القلب.

استوقفني خاصة تنوّع مداخله الفكرية سعياً لالتقاط أشمل وأغنى للواقع وللحقيقة... هو ينساب كتابة – وعلى خلفية تداخل وتواصل كل المواضيع- في القانون والفكر والتاريخ والإسلام والديمقراطية والماركسية والمسيحية والآيديولوجيا والهوية، والتسامح والدساتير والمعاهدات والمجتمع المدني وحقوق الإنسان واللاعنف..

هو أصدر- حتى اليوم – ما يفوق الخمسين كتاباً وآلاف المقالات، في مسار فكري متجانس وتائق إلى نجمة بعيدة- مهما تعدّدت المواضيع والعناوين..

لم أسارع يومها إلى التفتيش عن سيرته الذاتية التقليدية السبك .. كان هو سيرته الذاتية في تنوّعها وتكاملها وآفاقها.

(على كل حال أنا في مأزق لو أردت أن أذكر كل ما حملت هذه السيرة من انجازات في مجال القانون الدولي والمنظمات العربية والدولية والاتحادات القانونية والاعلامية والمراكز الدراسية والإصدارات والجوائز والأوسمة، لأستغرق تعريفي وقت المحاضرة).

سأجتزئ وأقول: كيف لحفيد حمورابي ألاّ يكون قانونياً حقوقياً عادلاً عالماً/ وكيف لسليل ملحمة جلجامش الاّ يتساءل عن الخير والشر وقلق الإنسانية/ وكيف لنجفي، مشهدي، الاّ يكون فقيهاً متمرساً باستنباط الأفكار والمفاهيم؟

بل، وكيف لا من ولد في النجف الأشرف لأسرة عربية عريقة ودرس في بغداد وتخصص في براغ، وأدار مكتباً قانونياً في لندن وبيروت، كيف له الاّ يكون مواطن العالم ومحامي الانسان في كل موقع؟

من تجذره في بيئته إلى ارتياد آفاق الإنسانية، تنوّعت كتابات عبد الحسين شعبان... ليس في الفكر والسياسة والقانون... بل تجلّت في وجه طلي آخر، في محطات تقع بين القانون والثقافة، بين السياسة والشعر.. بين إعمال الفكر وروعة الذائقة، وهو ما سنستمع إليه الليلة تحت هذا العنوان الثاقب: جدلية الشعر والحياة

عبد الحسين شعبان والجواهري


ألّف د. شعبان عن الجواهري الكبير أكثر من كتاب، ولازمه خلال تواجده الطويل في براغ، واستطاع أن يجد من ذكريات طفولته، وعمق معرفته واستمرار، حواراته ومتابعة قصائده، ومراحلها، وأماكنها، وأحداثها، ونتائجها، سجلاً من حوالي 500 صفحة.

سجِّل، هو تاريخ للعراق بكل أحداث هذه المرحلة في سياق الخاص والعام من خلال نضال الشعر وتألقه، عندما كانت قوة الكلمة الشعرية تخيف الحكّام.

هو تاريخ متكامل لجيل متألق صنع نهضة مشعة متآلفة في نتاجها الأدبي والفكري كما في انجازها الهندسي والفني.

هو تاريخ شخصين أكاد أقول، لم يجمعهما فقط المنشأ العائلي النجفي، والأفق السياسي الفكري وصلابة المقاومة، والذائقة الأدبية والشعرية، بل إيمانهما بالثقافة والفن والشعر كطريق نهضة ورقي وخلاص للإنسان وللمجتمع.

هو جدل متواصل متداخل، جذّر متانته ومواجهته " لقاء المنفى" في التبادل الصادق لتفاصيل الحياة ومواقف الشعر والتجربة والمواجهة والعبر.

هو تاريخ ممتع تجلى فيه عبد الحسين شعبان شاعراً يتقاسم القصائد مع الجواهري كالخبز اليومي، وصديقاً نديماً عارفاً ومحباً، وأديباً متمرساً في التعبير والتحليل والذائقة.

***

أنا سأستمع معكم بشوق إلى هذه المغامرة الإنسانية الخصبة، مستعيدة بحنين ما كنت أسمعه من أبي في طفولتي الصغيرة في بلدتي الصغيرة، مكرراً بتذوق وإعجاب وفخر مطلع قصيدة الجواهري في لبنان: باقٍ وأعمار الطغاة قصار وكأنها درس استظهار، أو درس وطنية، مشيراً لنا إلى صورة رجل صلب التعابير يعتمر طاقية منسوجة مزخرفة..

هذا الوجه وهذه الطاقية استعدت رؤيتهما على الغلاف الجميل للكتاب الذي يظهر الجواهري موقعاً لوحة ضياء العزاوي التي تحمل مقطعاً من قصيدة عشقه للعراق، (وهي من كتاب فني لضياء العزاوي تحية للجواهري) وقد مهرت هذه الصورة الفن، والشعر والحياة.

اسمحوا لي، وليسمح لي الدكتور عبد الحسين شعبان أن أختم بأبيات شعرية أهداها الجواهري اليه سنة 1990 في براغ تفصح عن هذا اللقاء الخصب بين مفكرين ومناضلين وشاعرين أكاد أقول:

أبا ياسر أنتَ نعمَ الصحيب وقلّ الصحاب ونعم الخدين 

لقد كنت في محضرٍ والمغيب ذاك الوفي وذاك الأمين 

وفي ذكرياتي كنتَ الصميم سمير المعنّى وسلوى الحزين 


إليكم جدل الشعر والحياة بين عبد الحسين شعبان والجواهري 

الشعر في حرقة تجلياته

والحياة في صدق حضورها