Skip to main content

حقيقة وطنٍ ام حقيقة ايمانٍ

                                                          المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء

إنني أجد نفسي اليوم أمام حسرات لا تنتهي وتأوهات لماضٍ قد مضت أيامه بسوادها وهجرِها، وتألمت كثيرا لما احتمله آبائي وأجدادي بسبب الكراهية التي حملها الآخرون المختلفون فحُسبوا فيها أعداءٌ بسبب مسيرتهم المسيحية الايمانية ، وبسبب عنصرية الإنسان وحقده تجاه المختلف عنهم ديناً وعِرقاً وطائفةً. واليوم لا زال التاريخ يعيد نفسه بمجاميع أخرى وبأسماء متعددة، وأدركتُ أننا أمام ضياع أكيد بسبب تراجع قيم الإنسان، وبتُّ أخاف من تسميات دينية تتحدث باسم الله، وباسمه تعالى يكون العنف كلمة قاتلة ومسيرة تكفيرية، وهم في ذلك ليسوا إلا آلهة مزيفة عبر مخططات همجية بائسة من أجل إراقة دماء المصلّين الأبرياء وضحايا الشعوب الفقيرة وكلها باسم الدين ـــ والدين منهم براء ـــ عبر كراهية حاقدة من أجل إبعاد الأصيل والأصلاء، وإلى إفراغ البلدان وتهميش المكونات.

تطرف ديني

          ظهرت في هذه السنين الأخيرة تيارات دينية متشددة، وإنْ كانت في الماضي هذه التيارات تُحسب من التيارات الهادئة والقريبة من الآخر، ولكنها اليوم لا تقبل المساواة بين المؤمنين في ديانات مختلفة، ولا تحمل إليهم استعدادها من أجل بناء دولة مدنية لأنها ترفض المواطنة، وهذا ما يجعل التطرف الديني سائداً في مسيرة الحياة ويعمل على إقصاء الآخرين بعيداً، كما لا يزال تلوح باستمرار عصبيات طائفية تقسم بين المؤمنين وتفرّق بين الشعوب باسم الله الواحد الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله

(تك 27:1)، وفي ذلك يكون القتل والسلب والإرهاب مساراً باسم الله، بينما البابا فرنسيس يقول في وثيقة الأخوّة الإنسانية "لا يجوز القتل باسم الله".أمام هذا كله تدعونا الحياة إلى عدم تسييس الدين لخدمة مصالح معينة، بل يجب احترام جميع الأديان والحريات والسهر على عدم تحويل الدين إلى طائفيات، وهذا يتطلب مواطنين قادرين على معانقة إخوتهم جميعاً وليس بعضاً منهم، ومن هنا ينشأ المشروع الوطني ويعمل على بناء وطن للجميع وفوق الجميع، وهذا ما ننادي به ولكنه لم يتحقق حتى الساعة، فما زال هناك تفرقة وتفضيل مواطن على مواطن بسبب دينه، ومؤمن على مؤمن بسبب قرابته وطائفته، بل ما زال هناك اعتداءات ودمار وحقد وكراهية. فما نحتاج هو تربية المؤمن على أنه إنسان، فكلنا بالخلق إخوة، وكلنا في الوطن سواء ، وفي هذاالصدد يقول الامام علي " إن لم يكن اخوك في الدين فهو نظير لك في الخلقة "

وطن ومستقبل

          علينا أن نطرح سؤالاً على أنفسنا وعلى الذين يعملون معنا: أي نوع من المؤمن المسيحي أو المسلم أو الصابئي أو الإيزيدي نعدّ!؟، أي مستقبل نعدّ للوطن ونعدّ أجيالنا لحمل مستقبل وطننا!؟، كيف نربي أطفالنا وأجيالنا لمستقبل الحياة في التعايش المشترك وقبول الآخر؟، ما هي الأسس التي عليها نبني إيماننا؟، أي نوع من المواطن نعدّ للمستقبل الآتي، وأي مستقبل نعدّ للوطن؟، هل نعمل لوطن واحد متماسك بمختلف مكوناته، أم نعمل على نشر روح الطائفية والمحاصصة كما هو الحال اليوم عند الكثيرين من كبار الزمن؟، أي نوع من المؤمنين نريد؟، هل نريد أو نعدّ أن يكون المواطنون مؤمنين أم أن يكون المؤمنون مواطنين!؟، هل مصلحة الشعب هي مصلحة الله؟، هل نحمل إلى الآخر محبة إيماننا "أحبوا بعضكم بعضاً" (يو12:15)؟، ألا ندرك أنه سيأتي يوم ـــ بل نحن في هذا اليوم ـــ الذي فيه بدأنا نحصد ثمار الحروب القاتلة وتدمير الشعوب البائسة وبالخصوص إذا كان كل ذلك باسم الله والدين!؟ لذا أسأل: هل يجوز وضع مصالح الشعب ومصالح الأوطان من أجل مصلحة الله، وفي ذلك يقول سعد زغلول "الدين لله والوطن للجميع"؟.

حقيقة وحياة

          بما أننا اليوم أمام إرهاب العنصرية الحاقدة والطائفية المتطرفة والتي زُرعت حتى في قلوب أجيالنا وأطفالنا فأنتجت عقلية كارهة للأقلية وللآخر المختلف، هذه الشرور يجب أن تجعلنا أن نأخذ مصيرنا بيدنا، فالوطن لا يُبنى على رمال الفاسدين وجالسي الكراسي المسروقة ، وإنما على صخرة المؤمنين المخلصين والمحبين، وهذا يدعونا إلى خوض صراع مرير كي ننقذ الدين من حقيقة الحياة والوجود،. ولنترك جانباً جدلية العلاقة بين الدين والسياسة لنحيا الإيمان بحقيقته. وعلينا جميعاً أن نتضامن من اجل هذا المسار كماعلينا أن لا نتمسك بقشوره .فالمحرمات حددها الله في كتابه ولا يستطيع كائناً مَن كان أن يزيدها محرماً واحدا، وننبذ الإرهاب والمحاصصة والتطرف  التي يلهو بها كبار زمننا، وكما تقول وثيقة الأخوّة الإنسانية "يجب وقف دعم الحركات الإرهابية" بجميع أشكالها من أجل السير نحو مستقبل أكثر إنسانية.

البابا فرنسيس

          وفي خطاب البابا فرنسيس قبل توقيع وثيقة الاخوة الانسانية في الامارات يوم 4 شباط الماضي قال  " إن استعمال اسم الله لتبرير الكراهية والبطش ضد الأخ إنما هو تدنيس خطير لاسمه فلا وجود لعنف يمكن تبريره دينياً ، ولا يجب على أحد "استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى أو استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش. وتقول وثيقة الأخوّة الإنسانية " إن التديّن الحقيقي يقوم على محبة الله من كل القلب، ومحبة القريب كمحبتنا لأنفسنا، وبالتالي يحتاج التصرف الديني لأن ينقّي على الدوام من التجربة المتكررة لاعتبار الآخرين أعداء وخصوم" . فكل ديانة مدعوّة لتخطّي فجوة التمييز بين أصدقاء وأعداء كي تتبنّى وجهة نظر السماء التي تعانق جميع البشر بدون محاباة وتمييز.

ختاماً

          لنتمسك بقيمنا وآمالنا وما يجمعنا، فالعديد من النقاط تعطي زخماً لحروف الحياة بغضّ النظر عن مَن نكون أو المكان الذي جئنا منه. فلنعمل من أجل التغلب على هذا الظلام، فقول طاغور عظيم لمسيرة الحياة "الإيمان طائر يشعر بالنور حينما يكون الفجر ما زال مظلماً". لقد حان الوقت لنسأل عن الدور الذي لعبتُه: هل هو دور الطائفية والمحاصصة أم دور الإنسانية والأخوّة؟، فنحن لا زلنا اليوم نفتش عن مصالحنا وتبجيلنا وننسى أن يوحنا الرسول قال:"إن قال أحد أني احب الله ويبغض أخاه فهو كاذب، لأن مَن لا يحب أخاه الذي يراه كيف يستطيع أن يحب الله الذي لا يراه" (1يو20:4). فالانسانية ليست اعداء وخصوم،  وإنما مواطنون ومؤمنون،  والوطن رسالة سامية كما ان الايمان رسالة عقيدة،  ومن يحيا حقيقة وطنه يحيا حقيقة ايمانه .فالمسيح الحي يقول " ما من حب اعظم من هذا ان يبذل الانسان نفسه عن احبائه " (يو 13:15) فكلنا في انسانيتنا احباء الله، وكلنا في ايماننا نحيا لله ،  وفي ذلك يقول القرآن الكريم " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (سورة القصص؛ آية 56).نعم وامين