Skip to main content

ساعة الصفر السورية في واشنطن

بعد جفاء طويل ثم عداء مستحكم، اختارت واشنطن اللحظة التاريخية لتوجيه ضربة عسكرية إلى سورية، فقد استغلت انطلاقة الثورة السلمية السورية، التي قمعتها دمشق بالقوة، لاتخاذ إجراءات من شأنها شنّ حرب ناعمة ضد سورية، مبتدئة بالحصار، ولا سيّما إدراج قيادات سياسية واقتصادية في دائرة الحظر والملاحقة، فضلاً عن التضييق السياسي الذي وصل إلى درجة عزل النظام السوري وتحشيد الحلفاء الإقليميين والدوليين ضده، من خلال استمرار الحرب النفسية وتشجيع النزاع الداخلي المسلح.

ظلّت سياسة الحرب الناعمة مستمرة طيلة العامين ونصف العام الماضيين، لا سّيما باحتدام الصراع بين السلطة والمعارضة في سوريا وارتفاع منسوب العنف إلى درجة خطيرة في ظلّ نشاط بعض الجماعات الارهابية والتكفيرية بما فيها ما يسمى “الدولة الإسلامية للعراق وسوريا” . ولعلّ هدف تلك السياسة هو زعزعة الكيان السوري وشن حملة إعلامية ضده باعتباره خارجاً على الشرعية الدولية، لا سيّما باستخدامه الأسلحة المحرّمة دولياً، وهو ما حصل في الغوطتين الشمالية والشرقية في 21 أغسطس/آب  ،2013 حيث سقط أكثر من ألف إنسان ضحايا أبرياء .

وجاءت تلك اللحظة التي انتظرتها واشنطن، ولا سيّما الادارة الأمريكية لتطوي تردّدها ولتقدِمْ على عمل عسكري محدّد، وهو عبارة عن رسالة شديدة اللهجة إلى سوريا بقصف منشآت حيوية ومخازن أسلحة ومقار قيادة وغيرها، علماً بأن تيار الحزب الجمهوري داخل الكونغرس يريد أكثر من ذلك، وهو من المتحمسين لتسليح المعارضة وتوجيه ضربات عسكرية للنظام، ومعه جزء من الحزب الديمقراطي، مقابل رأي الرئيس أوباما ومعظم أركان إدارته بما فيه البنتاغون (وزارة الدفاع) والمخابرات المركزية الأمريكية CIA ووزارة الخارجية ومستشار الأمن القومي، فإنهم سعوا لتجنّب العمل العسكري قدر الإمكان والاكتفاء بممارسة ضغوط إقليمية ودولية على المستوى السياسي وأقل منه على المستوى العسكري، وذلك لغاية اتهامهم الحكومة السورية باستخدام الأسلحة الكيماوية المحرّمة دولياً، الأمر الذي دفع الرئيس أوباما إلى اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية إلى سوريا، وسعى للحصول على موافقة الكونغرس عليها بهدف إعطائها شرعية أكبر!

وخلال الفترة الماضية استخدمت واشنطن سياسة العصا والجزرة، فحاولت سياسياً الضغط على الحكومة السورية لقبول الشروط الأمريكية، ولا سيّما التخلّي عن الأسلحة الكيماوية التي يسميها البعض “سلاح الفقراء” مقابل الاعتراف بالأمر الواقع، يضاف إلى ذلك مطلب فك الارتباط مع إيران وحزب الله .

وبلا أدنى شك فقد أنهكت الحرب الناعمة سوريا، وعمّقت من التناقضات الداخلية لدرجة يكاد فيها الكيان السوري أن يتصدّع، لولا بعض عناصر التماسك التي لا تزال مستمرة، وخصوصاً في الجيش، تلك التي تعتبر قوية حتى الآن لاعتبارات مناطقية وفئوية، لتبدأ بعدها واشنطن بمرحلة جديدة، وهي مرحلة القضم التدريجي وهذا الخيار توصلت إليه واشنطن بعد اتهامها للقيادة السورية باستخدام الأسلحة الكيماوية، وذلك بالتفكير بتوجيه ضربات عسكرية محدودة ومحدّدة للقضاء على القدرة الصاروخية والجوية والتكنولوجية وضرب البنية التحتية العسكرية، سواء مراكز القيادة أو السيطرة أو المطارات أو الرادارات أو شبكة الاتصالات أو غيرها وهو ما وضعته في مرحلتها الثانية من الحرب المحدودة بعد الحرب النفسية الناعمة .

وحسب تقدير الاستراتيجية الأمريكية فإن نجاح هذه الضربات في فترة زمنية معقولة سيمكّنها من إعادة التوازن بين أطراف النزاع (الحكومة والمعارضة) والسيطرة على مخازن السلاح الكيماوي والاستراتيجي السوري، وقد تدفع بعض فرق الكوماندوز للتسللّ على الرغم من أن الإدارة الأمريكية أعلنت أكثر من مرّة عدم إرسال قوات برّية أمريكية إلى سوريا .

وقد تذهب واشنطن إلى استخدام طائرات الشبح من قواعدها الجوية في المنطقة، وذلك ترافقاً مع صواريخ كروز وتوماهوك التي ستنطلق ضد المواقع السورية، وقد لا تدوم الحرب هذه طويلاً وقد تكون على شكل متقطع ولكن متواصل، باختيار أهداف محددة، كما حصل في السيناريو العراقي، الذي استمر لسنوات طويلة، خصوصاً في مرحلة الرئيس كلينتون وسياسة الاحتواء والاحتواء المزدوج “العراق- إيران” .

وحتى الآن فإن الأطراف ذات العلاقة ستكون أقرب إلى المتفرج، ف”إسرائيل” سوف لا تدخل الحرب، وروسيا “لن تدخل الحرب ضد أحد” حسب تصريح وزير خارجيتها سيرغي لافرورف، وإيران لن تغامر بمستقبلها في دخول الحرب وإن كانت تقف إلى جانب حليفتها سوريا، وتزوّدها بالسلاح والخبرة وتشجع حزب الله على التعاون إلى أبعد الحدود، خصوصاً وأن هذه الحرب لا تسعى إلى إسقاط النظام في هذه المرحلة حتى الآن .

أما المرحلة الثالثة من الحرب فتتمثل في نشر الفوضى الخلاقة وتفريعاتها الدينية والطائفية والإثنية، بهدف استنزاف المجتمع السوري، حتى ينهار النظام .

ولهذا فإن الإدارة الأمريكية وهي تدرس سيناريوهات الحرب فإنها ترجّح خيار الضربات العسكرية الجراحية، محتفظة بعدم تدخل أحد، لأن الهجوم الواسع الذي يهدف إلى إطاحة النظام سيلقى حالياً رد فعل كبير، ولهذا فإن الخيار العسكري المحدود سيخدم الاستراتيجية الأمريكية البعيدة المدى، وقد تذهب واشنطن بعدها إلى إعلان بعض المناطق كملاذ آمن Save Havenوبعضها كمنطقة حظر جوي NO Fly Zone ، وذلك بهدف توسيع دائرة القضم .

وقد حذّر الجنرال دمبسي قائد الأركان الأمريكي الادارة الأمريكية من الخيار العسكري الشامل ضد سوريا، معتبراً ذلك لا يخدم المصلحة القومية الأمريكية وأنه يعارضه بشدّة .

وسعت واشنطن إلى إيجاد غطاء قانوني لهجومها ضد سوريا حتى وإن كان من خارج الأمم المتحدة، سواء محاولات الثلاثي الأمريكي والبريطاني والفرنسي إقناع شعوبهم بأن النظام السوري استخدم السلاح الكيماوي في الغوطة، وأنه يمتلك أكبر مخزون في العالم، وأن ذلك يشكل خطراً على سلم وأمن العالم والمنطقة، بما فيها أمن “إسرائيل” حليفتهم، وكذلك فإنه يشكّل خطراً على الأمن القومي الأمريكي، لأن هذا الأخير يشمل العالم كله، ناهيكم عن ذلك فإن صورة الأسد كدكتاتور ترسخت في الإعلام الأمريكي والغربي مثلما هي صورة صدام حسين، حتى وإن لم يتمكن رئيس الوزراء البريطاني كاميرون من الحصول على تأييد مجلس العموم البريطاني للمشاركة في الضربة العسكرية، وذلك لجهة التجربة العراقية المريرة، وارتفعت نبرة الحديث في باريس وبرلين باتجاه انتظار نتائج البعثة الدولية بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية .

لا تزال ساعة الصفر السورية في واشنطن وفي حين يترقب الملايين من البشر الضربة العسكرية، فإن معاناة السوريين تزداد تفاقماً سواءً كانوا لاجئين أو نازحين أو ينتظرون صواريخ لا قدرة لديهم على ردّها!


صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 11/9/2013