Skip to main content

هوبسباوم وتغيير العالم

 

لم يتوقف المفكّر اليساري البريطاني أريك هوبسباوم عن التنظير حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وعلى الرغم من بلوغه ال 95 عاماً من العمر، فقد نشر كتاباً بعنوان “كيف يمكن تغيير العالم؟” وذلك عشية وفاته في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2012 مع عنوان فرعي له دلالة مهمة وهو: “روايات عن ماركس والماركسية”س . وقد ظل هوبسباوم حتى آخر رمق متمسكاً بما اعتنقه من أفكار منذ شبابه الأول، ساعياً إلى تجسيدها وتجديدها، لاسيما تساوقاً مع التطور الاجتماعي والعلمي والتكنولوجي على النطاق العالمي .

وخلال رحلته المثيرة أنجز هوبسباوم العديد من المؤلفات والكتب والدراسات المعرفية والثقافية والتاريخية التي أغنت المكتبة اليسارية العالمية، وخصوصاً في أبحاثه الخاصة بتاريخ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .

ولعلّ هوبسباوم هو “مشبّك” العروق على حد تعبير الشاعر الجواهري في وصفه لنفسه، فقد ولد في مصر وفي بيئة عربية في مدينة الإسكندرية، حين كان والداه يقيمان هناك، وتعود أصول والده البريطاني إلى بولونيا، أما والدته فهي تتحدّر من أسرة نمساوية . وكان مولد الصبي هوبسباوم عشية ثورة أكتوبر الاشتراكية العام ،1917 تلك التي سيكون لها تأثير كبير به، وجاذبية خاصة في شبابه .

وعاش حياته في فيينا ثم في برلين، ونشأ تعدّدياً وأممياً في الحياة واللغة والتكوين والثقافة . وكان لصعود النازية إلى السلطة بفوز هتلر العام 1933 دور كبير في حياته اللاحقة، حيث تبنّى خياره الماركسي واليساري، فانضم إلى الحزب الاشتراكي الألماني (الشيوعي) في ألمانيا وبعد انتقاله إلى بريطانيا عمل في الحزب الشيوعي البريطاني، وظلّ على هذا التوجّه اليساري حتى آخر يوم من عمره .

أمران شغلا هوبسباوم طوال حياته، وهما الموسيقا والفكر، فكتب عدداً من المؤلفات في الحقلين، وخصوصاً في موسيقا الجاز، مثلما كتب عن “الثورة المزدوجة” في تاريخ أوروبا المعاصر، وقصد بذلك الثورة الفرنسية وصنوها الثورة الصناعية . وإذا كانت الثورة الأولى قد ولدت في فرنسا، فإن مولد الثورة الثانية كان في بريطانيا، وكان مسارهما وتزامنهما وراء إلهام وعبقرية ماركس وزميله إنجلز، خصوصاً بعد إصدار البيان الشيوعي في العام ،1848 لاسيما عند كتابة ثلاثيته المثيرة: “الصراع الطبقي في فرنسا والحرب الأهلية في فرنسا والثامن عشر من بروميير” (لويس بونابرت) .

وإذا كان كتاب ماركس “المسألة اليهودية” مدخلاً مهماً لقضية الحريات والمجتمع المدني ودولة القانون، فإن تطوّره اللاحق، وخصوصاً في دراسة سياق النظام الرأسمالي العالمي، كان وراء مؤلفه الموسوعي “رأس المال” الذي صدر جزءه الأول في حياته 1867 وأصدر زميله إنغلز الجزء الثاني 1885 بعد وفاته، وصدر الجزء الثالث بعد وفاة إنغلز 1894 .

لم يهمل هوبسباوم ما حصل من تطورات في ما سمّي بالربيع العربي، فقد أذاعت محطة الBBC البريطانية حواراً معه في أواخر العام 2011 وصف فيه ما حصل بفرح كبير قائلاً: إنه يكتشف مرّة أخرى أن من الممكن أن ينزل الناس إلى الشوارع، ليتظاهروا وليطيحوا أنظمة حكم! ولعل ذلك ما ذكّره بعصر المداخن، وخصوصاً بعد الثورة الصناعية .

وقارن هوبسباوم بين ثورات الربيع العربي وثورات العام 1848 الأوروبية، فمثلما انتقلت ثورة ال 1848 من فرنسا إلى أوروبا و”امتدت إلى أنحاء القارة في زمن قصير”، كما يقول هوبسباوم، فقد انتقلت الثورة من تونس ومصر إلى ليبيا واليمن وسوريا وربما ستمتد إلى بلدان عربية أخرى .

ومن الخصائص التي رصدها هوبسباوم في ما يتعلق بالمنطقة العربية، هو نسبة الشابات والشبان الذين لهم من الفاعلية والحيوية الديموغرافية الشيء الكثير والمؤثر، وذلك قياساً إلى بلدان أوروبا، الأمر الذي يجعل عملية التغيير ارتباطاً بكثافة جيل الشباب مسألة جوهرية وتاريخية في لحظة مفصلية من لحظات التطور الاجتماعي، فقد شكل الشباب هذه المرّة جمجمة الثورة وليسوا سواعدها فحسب .

ولعلّ إشارة هوبسباوم إلى هذه المسألة الحيوية هي أمرٌ في غاية الأهمية لمفكر يعرف كيف يستخدم أدواته في تحليل التاريخ البشري والاجتماعي، وفهم غاياته ودراسة مساراته في منتصف القرن العشرين، حين نشر أول كتاب له في العام ،1948 أو ما بعد العولمة بوجهيها الإيجابي والسلبي، وخصوصاً استخلاص الدروس الضرورية منها . وقد كتب هوبسباوم ثلاثية شهيرة تناولت ما أطلق عليه “القرن التاسع عشر الطويل”، وذلك بضم جزء من القرن الثامن عشر إليه وجزء من القرن العشرين، وقصد بذلك المرحلة المتّصلة من الثورة الفرنسية وصولاً إلى بداية الحرب العالمية الأولى العام 1914 .

وشملت تلك الثلاثية المؤلف الأول الذي صدر في العام 1962: “عصر الثورة” ابتداءً من الثورة الفرنسية العام 1789 ولغاية ثورات العام 1848 وكان المؤلف الثاني بعنوان “عصر رأس المال” وامتدّ من العام 1848 ولغاية العام 1875 وصدر هذا المؤلف في العام ،1975 أما مؤلفه الثالث فقد صدر في العام 1987 وحمل عنوان “عصر الإمبراطورية” الذي واصل فيه العمل من العام 1875 ولغاية العام 1914 حيث بدايات الحرب العالمية الأولى .

وواصل هوبسباوم عمله البحثي والفكري والمعرفي حتى أصدر كتاباً لقي اهتماماً كبيراً عُرف باسم “عصر التطرّفات” ولعل كتاب “القرن العشرون القصير” 1914-،1991 هو الآخر من أشهر مؤلفاته مؤرخاً لفترة انهيار الكتلة الاشتراكية بسقوط جدار برلين وانتهاء عهد الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفييتي، وإعلان ظفر الليبرالية على المستوى السياسي والاقتصادي العالمي . وقد صدر هذا الكتاب المهم في العام 1994 وهو عبارة عن سيرة تاريخية لأوروبا خصوصاً بصعود وهبوط الثورة البلشفية في العام 1917 ولغاية الانهيار المدوّي أواخر الثمانينات وصولاً إلى العام 1991 حيث استكمل انهيار الكتلة الاشتراكية في شرقي أوروبا والاتحاد السوفييتي .

 

جمع هوبسباوم بين العمل الأكاديمي والمعرفي وبين التنظير الفكري، فإضافة إلى دراساته الجامعية في كامبريدج وعدد من الجامعات البريطانية، انكبّ على الكتابة والتأليف، وما عنوان هذه المقالة سوى اسم موسوم لآخر كتاب صدر له، كما أن ما نشر عنه مؤخراً يشير إلى أن ورثته أعدّوا مخطوطة كتاب جديد سيصدر له وكان قد أنجزه قبل رحيله .

وعلى الرغم من انحيازه اليساري، لكن هوبسباوم لم يحاول إسقاط المفاهيم الأيديولوجية بصورة مسبقة على الأحداث التاريخية، بل إن قراءاته كانت مفتوحة في محاولة للبحث عن الحقيقة، من خلال الوقائع والمعطيات والتحليل، وذلك لمعرفة الدوافع واستخلاص النتائج، وظل يرتدي مسوح المؤرخ لا بزّة المحارب على حد تعبير الشاعر سعدي يوسف . وقد حظي بمكانة متميّزة ليس في أوساط اليسار فحسب، بل في عدد من المحافل والأوساط اليمينية، من دون أن يعني ذلك عدم نقدها لالتزامه الفكري والسياسي .

وقد ترجمت بعض أعمال هوبسباوم إلى نحو 40 لغة عالمية بينها اللغة العربية، وخصوصاً كتابه “القرن العشرون”، ونال تكريم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، لكن ذلك لم يمنع هوبسباوم من توجيه النقد إليه بشأن دوره في الحرب على العراق العام 2003 .

رحل أريك هوبسباوم وعينه على الأفق الذي يمكن أن تفتحه حركة التغيير العربية كجزء من مسار تاريخي اجتماعي عالمي على الرغم من الكوابح والعقبات، لبناء مجتمعات أكثر مدنية وحضارّية وتقدماً، وتطلّع إلى بناء مجتمع دولي أكثر سلماً وعدلاً وإنسانية .

 

صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 13/3/2013