Skip to main content

هيروشيما: الألم والجمال

 

لا تخرج مدينة هيروشيما من الذاكرة الإنسانية الجمعية إلا بكونها المدينة المنكوبة، والضحية الشاهدة على الاستعلاء والحقد والكراهية، فقبل استسلام ألمانيا النازية وإعلان انتصار الحلفاء في 9 مايو/أيار ،1945 كانت هناك تجارب ذرية تجري في الخفاء، حين اختبر تأثير القنبلة النووية في صحراء المكسيك، ولأن اليابان لم تستسلم، فقد وجّه إليها الرئيس الأمريكي ترومان إنذاراً عُرف باسم إنذار بوتسدام في يوليو/تموز ،1945 دعاها فيه للاستسلام اللامشروط، وهو ما كانت تتجاهله، وهكذا جاءت الفرصة للمتعطشين للدم ليجرّبوا قنبلتهم الذرية في هيروشيما في 6 أغسطس/آب 1945 أي بعد ثلاثة أشهر تقريباً من استسلام ألمانيا .

وسقط جرّاء تلك المجزرة الجماعية في الحال نحو 80 ألف قتيل (أي نحو 30% من سكان المدينة) وتوفي وأصيب بجروح خطرة نحو 90% من الأطباء و93% من الممرضين، لاسيّما أن القنبلة انفجرت لتسقط على عيادة شيما للجراحة، وأبيدت مناطق واسعة من المدينة عن بكرة أبيها، علماً بأن تعداد سكانها كان نحو 350 ألف نسمة . ووصل عدد القتلى حتى نهاية العام 1945 إلى 140 ألف قتيل وفي نهاية العام 1950 إلى نحو 200 ألف، وأن 9% من الوفيات بين عامي 1950-1990 كانت بالسرطانات التي سببتها القنبلة النووية، ناهيكم بالتشوّهات الخلقية، فضلاً عن تدمير البنية التحتية والمشاريع الحيوية الصناعية والاقتصادية وإحداث شلل عام في الحياة والعيش .

لم يكتفِ الأمريكان بتجربة "الطفل الصغير" وهو الاسم الذي اختاروه لتجربة هيروشيما، حين ألقيت قنبلة بزنة 60 كيلوغراماً من اليورانيوم، ولم تستغرق سوى 57 ثانية، واستفاقت المدينة في الساعة الثامنة والربع صباحاً لترى الموت منتشراً في كل مكان، حيث بلغ نصف قطر دائرة الدمار ميلاً واحداً، وانتشرت الحرائق على مسافة زادت على 11 كيلومتراً، وظلّ كل شيء مشتعلاً، بل أن الرئيس الأمريكي ترومان أعلن حينها بأن اليابانيين إذا لم يقبلوا بشروطنا، فعليهم أن يتوقعوا أمطاراً من الخراب تأتيهم من الهواء، لم يرها أحد من قبل على وجه هذه الأرض .

وفعلاً نفّذ ترومان إنذاره بأن أمطر ناغازاكي جنوبي اليابان بعد ثلاثة أيام من مذبحة هيروشيما (أي يوم 9 أغسطس/آب) بقنبلة أخرى، لاختبار البلوتونيوم بعد تأثير اليورانيوم، وذلك للتأكّد من تأثير القنبلة الثانية، بعد معرفة الأثر الذي تركته القنبلة الأولى .

وكانت قنبلة هيروشيما قد انفجرت في الجو على ارتفاع 600 متر لتنشر النار على مساحة واسعة وتحرق الأخضر واليابس، ومثلما كان تأثيرها بليغاً، فقد كان ضحايا ناغازاكي قد وصل حتى نهاية العام 1945 نحو 80 ألف قتيل، إضافة إلى أعداد من الجرحى والمصابين الذين ظلوا مرضى حتى نهاية حياتهم .

وأطلق على تجربة ناغازاكي "الرجل البدين" وهي خطة مشابهة لخطة هيروشيما، ففي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الواحدة، سقط "الرجل البدين" الذي يحتوي على 4 .6 كيلوغرام من البلوتونيوم على الوادي الصناعي بالمدينة ولم تستغرق العملية سوى 43 ثانية، حيث انفجرت في الجو، وقدّرت الحرارة التي ولّدها الانفجار 3900 درجة مئوية، وسقط في الحال أكثر من 40 ألفاً .

وكانت واشنطن تخطط لإلقاء قنبلة نووية أخرى في الأسبوع الثالث من أغسطس/آب إضافة إلى ثلاث قنابل أخرى في سبتمبر/أيلول، وثلاثة في شهر اكتوبر/تشرين الأول من العام ،1945 لكن الامبراطور هيروهيتو، أخطر الحلفاء بأن اليابان ستقبل جميع شروطهم مع بقاء صلاحيات الامبراطور حاكماً سيادياً .

اليوم وبعد مرور نحو سبعة عقود على تلك المجزرة الجماعية، فإن اليابانيين لا يريدون لتلك الأحداث المأساوية الجسيمة أن تكون في دائرة النسيان مع مراراتها والحرقة التي تصاحب الاستذكار، بل يسعون لأن تبقى في دائرة الضوء على الرغم من واقعيتهم، والهدف من ذلك هو إظهار الوحشية الأمريكية من جهة، ومن جهة أخرى تبشيع الحروب والمغامرات العسكرية، لأن الحرب تصنع في العقول، مثلما ينبغي صناعة السلام في العقول أيضاً، وتلك أحد الدروس الغنية للشعب الياباني ولشعوب العالم أجمع!

ما تركته الحرب والهزيمة على اليابان كان ثقيلاً، فليس عبثاً أن ينتحر 20 جنرالاً بطريقة السوبكو، وذلك بإدخال نصل السيف في البطن لشقها، حيث سيطرت مشاعر الحيرة والقنوط على يابان ما بعد الحرب والتي شهدت حالات انتحار شائعة، حتى أن روائياً كبيراً مثل مشيما كان يتغزّل بالموت المبكر "الرحيم"، وهو ما عبّر عنه في روايته "اعترافات قناع" التي تحدّث فيها عن سيرته، حتى قرّر وضع حد لحياته بطريقة السوبكو في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 مردّداً عبارته الأثيرة "لا موتاً جميلاً بعد الأربعين" .

المتحف الذي زرناه في قلب هيروشيما يحكي قصة هذا الشعب المكافح وهذه المدينة الجميلة الفريدة المأساوية، وفي الساحة مكتبة عامة تحتوي على مئات وآلاف الكتب والوثائق والأفلام والروايات، التي تدوّن أحداث وتفاصيل ودقائق المجزرة التي تمثل وخزة ضمير في جبين الإنسانية جمعاء وليس بمن ارتكبها فقط، فلعلّ من كان من يلقي القنبلة، كان يفكر بمنظر النيران المشتعلة في الجو والمتسابقة مع الريح دون أن يعني له شيء حيث حصد أرواح عشرات الآلاف من البشر، مثلما كان هناك من يراقب وينتظر النتائج من دون أي إحساس بالألم أو الشعور بالذنب . والأكثر من ذلك فإن "المنتصر"، ولعل بعض الانتصارات أشد عاراً من الهزيمة، حمّل اليابانيين مسؤولية ذلك من خلال المحاكمات التي أقدمت عليها محكمة طوكيو العسكرية الدولية، بزعم أن إلقاء القنبلتين جاء بسبب عدم استسلام اليابان وتلك إحدى المفارقات التاريخية!

سبق لي أن زرت متحفاً مماثلاً في معسكر للقتل الجماعي بالقرب من مدينة كراكوف البولونية يخصّ اليهود الذين أحرقوا بأفران الموت، مثلما زرت معسكرات اعتقال وقتل جماعي عدة في تشيكوسلوفاكيا، وزرت متحفاً في العام الماضي في مدينة حلبجة الكردية التي ضحاياها نحو 5000 مواطن كردي، ونعرف ما جرى لصبرا وشاتيلا في لبنان، العام 1982 إثر الاجتياح "الاسرائيلي"، مثلما نستذكر كل عام ما جرى لعرب فلسطين في دير ياسين وكفرقاسم وفي سيناء مصر، وفي حرب يوليو/تموز العام 2006 على لبنان والحرب على غزة العام 2008-،2009 إضافة إلى مآسي الحرب العراقية - الإيرانية وغزو الكويت وغيرها . لكن هيروشيما لها وقع خاص، فالحرب العالمية الثانية تكاد تكون قد انتهت، لاسيّما باستسلام ألمانيا واندحار إيطاليا ودول المحور، ولم يبق سوى اليابان "الممانعة" . 

ثمة مفارقة أخرى اختلفت فيها هيروشيما عن غيرها، من المدن والمواقع التي احترقت أو أبيدت، وهي ما شهدته من ازدهار وتنمية وعمران لاحقاً، والأمر يتعلق بقدرة الشعب الياباني وحيويته، وهو مشهود له وتلك من مآثره العظيمة، حين استطاع أن يحوّل المأساة والألم والدمار إلى تنمية ورفاه وجمال، وقد يعود في جزء من ذلك إلى فترة الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي بين المعسكرين، والخوف من وصول رياح الثورة الصينية المنتصرة في العام 1949 وكذلك صعود الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي دفع الغرب إلى إلقاء ثقله لمساعدة اليابان على النهوض، كما حصل في ألمانيا الغربية بمشروع مارشال .

من جهة أخرى، أراد اليابانيون بإعادة الحياة إلى هذه المدينة الجميلة، لفت نظر العالم إلى إرادة الشعب الياباني وتصميمه على تجاوز المأساة وتحويلها إلى شرط نجاح، فالمدينة تعرف بأنها مدينة المياه والأشجار، أما الجبال فهي تحتضن المدينة كخط دفاعي يذكّر بالماضي، ويجتمع فيها النهر والبحيرات والارخبيلات المنتشرة والجزر المتداخلة، حيث شهدت ازدهاراً ملحوظاً وعمراناً متميّزاً وحياة ثقافية زاخرة بالآداب والفنون بجميع أنواعها، وتلك من ميزات هيروشيما .

جدير بالذكر أن مناسبة الحديث عن هيروشيما هي الدعوة التي تلقّاها المركز الأكاديمي الياباني، وهو مركز مؤسس في الجامعة اليسوعية في لبنان لتنظيم فعالية مشتركة ضمّت 17 مهتماً وأكاديمياً وأستاذاً، ليس للاستكشاف فحسب، بل لتعزيز العلاقات العربية - اليابانية وتحديداً العلاقات اللبنانية - اليابانية . وكان الدكتور بيير عازار طبيب الأسنان ورئيس المركز يتحرّك برشاقته المعهودة وحنوّه على أعضاء الوفد وعلى المضيفين في الوقت نفسه، وهو يحمل على صدره ثلاث كاميرات، فلم تكفه واحدة لتصوير بحر الأشجار الملوّن والمشعّ، خصوصاً شجرة الربيع Cherry Blossoms زهر الكرز" لأنه لا يريد لزاوية نظر أن تفلت من بين يديه أو عينيه .

في ساحة السلام التي صممها أحد المعماريين المشهورين ويرد ذكرها في فيلمMother player تشاهد صورة المدينة الحداثية حين تكون الأشجار مضيئة والجمال أقرب إلى السحر، خصوصاً عندما يتصالح الفرد مع المجتمع والدولة في الآن، لاسيّما بالانضباط العالي والشعور بالمسؤولية والحرص على اتمام المهمة حتى لو ضربتك "عاصفة هوجاء" وأنت تصعد إلى جبل "فوجي" العظيم، الذي كان آخر انفجار لبركانه العام ،1707 وهو ما كانت تصرّ عليه مرافقتنا ماساكو (ساكورا) التي تختلط ابتسامتها مع رقتها في البكاء حين نثقل عليها، وهي تردّد "أوهايو كوزايمس" أي "صباح الخير"، ونقول على هيروشيما المدينة المحفورة في ذاكرة البشر إلى ما لا نهاية "أوهايو كوزايمس" .

صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 16/4/2014