Skip to main content

والخلائق تسبح بحمده " جسد الانسان "

والخلائق تسبح بحمده " جسد الانسان "

 

 

نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

          الإنسان مركَّب من نفس وجسد( تك1) . جميع مدارسنا الفلسفية تعترف بذلك. إنها قضية منتهية منذ أجيال، ومن غير المناسب العودة دوماً إليها. ومع ذلك لا تـــــزال المشكلة الأزليـــــة الرهيبــــة تطرق أبــــواب العالم: كيف الموازنـــــة بين أعمال الــــروح وأعمـــــال الجسد؟، هـــــــذا الجسد الثقيل المهدَّل، بـأمراضه ونقائصه و"بعرقلته للتفكير المحض المجرَّد"، كما كان يقول أفلاطــون، مما دعـــــا العباقرة وجهابذة المفكريــــن إلى الخجل من كــل ما فيــــه من فظاظــــة وضعف. هذا الجسد الذي يصــــرخ وينـــــام، ويغطّ وينتحـــب ولا ينفكّ يُزعـــج هذه الروح اللطيفـــة التي قُدِّر لها الاتحاد به حتى الممات!.

          لقــــــد قــــال الفلاسفة كـــــــل هذا وأثبتوه وبنوا عليه أنظمـــةً صوفيـــة للترهّب والتنسّك. قالوا: إن الجسد هو عدو النفس ونقيضها، ولذا يجب الحذر منه ومعاملته باحتقار وقسوة. كم هو سهل الاستهزاء بالجسد البشري والضحك على مظهره وخشونته وغبائه، والاشمئزاز من بُنيَتِه التشريحية، ثم وضع قائمةً طويلة عريضة بجميع عِلَلِهِ وأورامه القبيحة وصفاته الغير المشرِّفة. ولكن هل في هذا الانتقاد القاسي للجسد شيء من روح الإنجيل؟، وهل كان الإيمان ضرورياً ليظهر لنا عيوب جسم الإنسان التي بإمكان أي وثني أن يُظهرها؟.

          ما أحوج الإنسان إلى القداسة ليكون أهلاً لاحترام جسده وامتلاكه بصورة لائقة، وأعتقد أن هذا الإنسان يستحق كل تقدير لأنه يعتبر جسده من صنع الله رغم تركيبه الحيواني، ورغم ما فيه من عيوب مضحكة وأمراض مزمنة، وكل ما يخدّش أفكارنا الرفيعة السامية وإلهاماتنا الروحية ومُثُلنا العليا.

          هذا الجسد الفاني، ببؤسه وبجميع احتياجاته وتعاسته، الذي يكدّ ليلاً ونهاراً لتحصيل لقمة العيش"  بعرق الجبين" ( تك 19:3) . هذا الجسد الذي كُتِبَ له العذاب على الأرض، هو أولاً وآخراً من صنع الله!. وفوق كل هذا، فإن النفس لا تستطيع أن تربح الجنة وحدها بدون هذا الجسد، لأن في الكيان البشري لا توجد تجزئة تفصل بين أعمال الجسد من جهة وبين أعمال الروح من جهة ثانية، بل هنالك تركيب متماسك ووفاق متين يجمع في آنٍ واحد في انسجام وتكامل ما بين أعمال الجسد وأعمال الروح.

          نحـن لسنا من الذين يدّعون أن الإنسان البارّ هو روحٌ محض، وإن الإنسان الشرير هو جسدٌ محض، لأن البشـر جميعهم سواسية لا يختلفون إلاّ في لونهم ولهجتهم، وجميع المؤمنين يملكون نفس العظم واللحم والدم. والكنيسة ما هي إلاّ مجموعة كبيرة من البشر يحملون أمراضهم وعفونتهم، خطاياهم وأوبئتهم على مناكبهم، ويتقرّبون من المسيح المصلوب ليتطهّروا به ويتقدّسوا. نحن في الكنيسة، لسنا فقط لأجل سماع الموسيقى الرخيمة والأنغام الملائكية العذبة، بل جئنا لنبحث عن مشاكل الإنسان منذ يوم طرده الله الآب من الجنة إلى يوم عالجه الله الابن بدفقة من دمه المهراق على الصليب... جئنا نعالج بؤسنا وضعفنا وتعاسة جسمنا المنهوك المحطَّم، وبدلاً من أن نحتقر جسدنا، علينا أن نرفعه إلى قمّة الصليب ليتعذّب ويتحمّل ويعرق، ويشترك في عملية الفداء مع المسيح.             

          فعملية الفداء إذن ليست تحطيم معنويات الجسد وإبراز النفس وكأنها تتفوق تفوقاً ساحقاً عليه، بل هي انسجام الروح مع الجسد، رفع الجسد إلى مستوى درجات سموّ الروح، من دون سيطرة الروح وطغيانها على الجسد، تجمعهما معاً إصبع الله الآب منذ أن كوّنهما معاً في يوم الخليقة الأول من حفنة تراب!. عندئذٍ سترتفع جميع الفضائل المسيحية الخاصة بالجسد كالقناعة والعفّة والحشمة إلى المستوى الصحيح واللائق بجسد مطهَّر بروح القدس، بدلاً من أتاركسيا الإغريق أو نيرفانا البوذيين.

          هذا هو " جسدكَ المعلَّـــــق  على الصليب يا سيدي"( يوحنا 31:19)  ، لقد كـــان شبيهاً بجســــدي. وجســــد والدتـــــكَ مريـــــم العذراء كان شبيهـــاً بجميع أجســـاد نساء العالم بكل ما تحتويـه الواقعية من علم الفسلجة والتشريح.

          وربما الأطباء والممرضــات في المستشفيــــــات يعلمــــــون أكثــــــر من غيرهــــــم من الموظفيــــــن قبحـــــة هذا الجسد الذي يعاني كثيراً من الأمراض والآلام والعذاب، والذي يحتلّ رغم ذلك الموقع الأعلى والمركز الأسمى في المجتمع الإنساني.

          وقديماً كان المسيحيون الأوائل يتبارون في ادّخار بقايا أجساد القديسين من عظام وأسنان وقطع صغيرة من مفاصلهم، كانوا يحتفظون بها في علبٍ صغيرة مقدسة، يتبرّكون بها عند الشدائد والملمّات أو عند الشعور بالضيق.

          واأسفاً! لقد تبعثرت بقايا القديسين تلك، ولم يبقَ لنا منها سوى انتظار يوم الحشر العظيم، " عندما يقوم الأموات من قبورهم بالنفس والجسد" ( رومية 17:8)، بكيانهم الموحَّد كله، بهذا الجسد الذي تعب وتعذّب، شَقِيَ وجاهدَ كثيراً على الأرض، وينتظر الآن " المجد السماوي بصحبة روحه الخالدة!." ( متى 3:22) نعم وآمين .