Skip to main content

وين الحل؟ ... وين مستقبلنا؟

وين الحل؟ ... وين مستقبلنا؟

                                                        المونسنيور د. بيوس قاشا

     في البدء

إننا ـــ والحقيقة شاهدة ـــ نعيش في زمن من أحرج أزمنة تاريخ كنائسنا ومسيرة إيماننا كما هي مجتمعاتنا، والأزمة ضاربة أطنابها في سائـر الميادين الإيمانية والإجتماعية والحياتية، والكل  يسأل عن سبب هذه الأزمات والظلمات، "والكثيرون بل كلّهم ينتظرون أجوبة لأسئلتهم ويحلمون بمستقبل واعد". كما يسأل المؤمن هل لا يزال المسيح الحي في نظرنا نحن المسيحيين نور العالم

(يو12:8)؟، والحقيقة فلا من جواب إلا بيانات واستنكارات وشجبٍ، واليوم بعد أن أخذ وجود المسيحيين في الشرق الأوسط يتضاءل باستمرار "فهناك خطر حقيقي من أن يضمحلّ تماماً. إنهم يتعرضون إلى عملية محو تقريباً" حسب قول الكاردينال بيترو بارولين في مؤتمر نظّمته جمعية الكنيسة المتألمة في شهر أيلول الماضي (2017). كما إنّ الهجرة نزيف خطير يجب إيقافه، والوقت يمرّ بسرعة، والتغييرات في البلاد عديدة، وهذا يستدعي إصدار حزمة من القوانين الضامنة لحقوق المكوِّن المسيحي وصيانة حقوقه والمشاركة الفعّالة في القرارات التي تخصّ شؤونه.

     أشنعمل

وين الحل، وين مستقبلنا؟... ما أدراك ما هذه العبارات وأخرى مثلها في هذا الصدد وكلها ناتجة عن آلام نفسية مصاب بها شعبنا بأكمله والمسيحيون والمكوِّنات بأسرها، هم ونحن لا ندرك جيداً ما الذي يحصل وما هو المخطط الناتج عن مسيرة الحروب والاحتلال والدواعش وغيرها وأين تكمن المصالح الدولية في الكبرى منها، كما هي عبارات يطلقها شعبنا المسيحي ليفتش عن ملاذٍ آمن، فهو لا يفكر في الرحيل والهجرة لو كان هناك مَن يُؤَمِّن له طيبةَ مسيرةِ الأيام وحلاوتَها، وحريةَ الإيمان وعباداتِه، وعيشَ الحقيقة في حريتها، ولأنه لا يجد مَن يثبّت أقدامه في حقيقة الوطن فأين يرحل! وأين الحل؟ أين المستقبل؟ شوقت يرتاح البلد؟ أشنعمل! وين الحل؟ وين مستقبلنا؟ "نهاجر وإلاّ لأ"! "إنْ هاجرنا ضعنا وإذا بقينا قُتلنا بل كُتِبَ علينا الموت أو الخنوع!"، متى نرى أرباب الكراسي يملأون قلوبهم خدمةَ شعوبهم بدلاً من ملء جيوبهم وزيادة حساباتهم، وتدقيق وارداتهم، وإصدار أوامر قضائية وتحقيقات شيطانية؟، راح نبقى نعيش هالحياة! كل يوم حرب! كل يوم حصار! اليوم انخطف فلان! اليوم صار تفجير مفخخة! اليوم الطرق مغلقة! وكل يوم يمرّ بأعجوبة الباري وليس بحكمة العبد المخلوق وذكائه الخارق، بل هي يد الله القوية التي تحمينا وتجعلنا نواصل مسيرة الأيام بلياليها ونهاراتها. هذه كلها كانت لنا مانشيتاً مخيفاً ومحرّماً وساخناً وعنيفاً، يُقرأ في راحتنا كما في نومنا، وأخذنا نخاف حتى من ألوانه ومن ظلّه، فقد أصبحنا عبيداً لمدراء فاسدين بحماية كبار الزمن ورجاله، والشعب البائس يفتش عن مَن ينشده نحو المراعي الخصبة ليكون في نعمة الحياة وليس نقمة الفساد، أو في الذين سرقوا أموال المهجرين بحجّة إنهم قائمون على رعايتهم، كما اشتروا البراءة مِمَّن سرقوهم بين أوراق الزمن فيكونوا أبرياء بل أولياء الله أمام عيون البشر.

     ليلة سوداء

نعم، إننا أمام أوضاع عاصفة ومؤشرات سياسية مخيفة مليئة بالأزمات والتباينات، فهي تورق وجودنا وتشوّه حقيقة مسيرتنا، وربما هناك نداء قد نبت في داخلنا يجعلنا أن نخاف، بل مَلَكَ الخوف علينا بسبب ما يحصل من زمن بعيد وبالخصوص من زمن احتلال داعش الإرهابي لقرانا ومدننا والذي لم تشهد أجيالنا ولا نحن مثله قط. ففي تلك الليلة السوداء كانت الهزيمة المُرّة (6/8/2017)، بل الجريمة التي إرتُكبت ضدنا فكان أن إستولى الإرهاب على ممتلكاتنا، وطُردنا من ديارنا عنوةً وبكل قساوة مريرة، وأعلَمَنا التاريخ بعد ذلك أن ما حصل من ترتيب شرير من أجل مصالح دنيوية زائلة، فكنا نحن الضحية شئنا أم أبينا، فما كان علينا إلا الطاعة... وأية طاعة!؟.

     جمال وقتال

نعم، إن وطننا اليوم ممزَّق إلى طوائف وأقليات وقوميات ومذاهب وأحزاب ومكونات لا تُعَدّ ولا تُحصى، ففي وحدتها جلالٌ وجمال، وفي فرقتها دمارٌ وقتال، وهذا ما يرسم فينا آثاراً يزيّفها التاريخ، ممّا حدا بالكثيرين أن يقولوا "وين نروح"،... هذه الأقاويل جعلت من تعايشنا مع الآخر المختلف والمشارك في هزيمتنا تعايشاً مُرّاً وقاسياً إضافة إلى الزمان الذي أخذ يخذلنا وكأننا عبيد لا حول لنا ولا قوة، فعاصفته جعلتنا في مهبّ الرحيل، وسُمّيت بإسمنا عناوين مختلفة في الكراهية والمذهبية والعرقية وحتى القومية بدلاً من أن نكون أصلاء بمسيحيتنا كما كان أجدادنا بمسيحيتهم، ويبقى السؤال: ما العمل أمام هذه السنين العِجاف؟، مَن ينقذني من يد الموت هذا؟ كما ردّدها قبلنا بولس الرسول (رومية7:24). وإذا كانت  ظروف عديدة عصفت بمنطقتنا وهجّرتنا من ديارنا فلا أظن هناك إمكانية لإيقاف هذا النزيف خاصة بعد أن تأصّلت في الأنفس تدمير الثقة في الأرض التي وَلَدَتْه، وبالناس المرائين الذين يعتبرون أنفسهم مخلصين وقديسين وهم في الحقيقة سرّاق ولصوص. فالشرخ كبير بين المسيحيين والمكوِّنات الأخرى المختلفة، ولا أمل بعودة هذه الثقة، واتجاهها ما هو إلا خيبة أمل لأنها لا تنسجم مع المبادئ الإنسانية كما مع المبادئ الاحترامية.

     داعش وبعده

كنّا نتساءل قبل تحرير أراضينا وقرانا ومدننا إذا ما إنتهى داعش الإرهابي فماذا بعده؟، وما هو مصيرنا؟، وكان هذا السؤال لغزاً مخيفاً لنا ولغيرنا وخاصة بعدما أدركنا إننا ندخل قتالاً لنُزَجّ في حربٍ مميتة، وندخل حصاراً كي نحارب ثالثة، وهلمّ جراً. حيث كنا نرى أنفسَنا أننا وسط هذا القتال ونحن لا نحمل سيفاً ولا بندقية، وهنا كانت مصيبة المصائب وحقيقة النوائب، وجُعِلنا ولا زلنا نرى إننا سنختفي من الوجود بعدما خسرنا مناطقنا وكنائسنا وممتلكاتنا، وأخذوا يقتسمون على ثوبنا (متى35:27) ووجودنا كما شاءوا وطاب لهم ولأحزابهم ولمقدّراتهم الإستهلاكية مستهدفين بذلك دون أن ندري مسيرة أجيالنا وأصالتنا، وعاملين على تهجيرنا أو صَمّ أفواهنا... وإلا فما الرحيل إلا حلاً!!!. فالبُنى التحتية قد دُمّرت بطريقة شبه كاملة، وبالتالي فالعودة صعبة، والهاجس على المستقبل لا يزال يتربّع على مسيرة أيامنا وجرّنا إلى صراع لا علاقة لنا به ولا يجوز ذلك لأنهم عملاء لغيرهم ونحن خاضعون لهم شئنا أم أبينا، هذه كلها كانت سبباً في صراعاتنا، فالشمال تمدّد، وعمليات الديموغرافية وقطع الأراضي على قدمٍ وساق في إحتلالنا وفي تسجيلنا تبعية شئنا أم أبينا. فهل هناك مخطط لتهجيرنا وبيعنا وشرائنا!!؟، لأن كل شيء مباح،  فالمصالح قد التقت، وراحت الدول تفتح أبوابها بتأشيرات الرحيل، وهناك مَن يعمل تحت عباءة جهات سياسية لإفراغ العراق من المسيحيين وإضعافهم حتى داخل الوطن.

     مصير مجهول

صحيح إن مناطقنا تحررت بيد جيشنا والمقاتلين النشامى، ولكن دماراً كبيراً لحق بها، وبالتالي فالعودة إليها صعبة وقاسية، فهاجس المستقبل بدأ ينمو من حينها، وبعد ثلاث سنين أثمر هجرةً وخوفاً وآلاماً نفسية. فكم وكم سرقه المنون بسبب مرض عضال وأخرى، وآخرون رسموا لنا خارطة نزاعهم على صدرورنا ونحن لا ناقة لنا في أمرهم ولا جمل، بدلاً من أن يقَدَّم الدعم لمناطقنا كي تكون جزءاً أمينا لوطننا وليس مناطق نزاع يتصارعون على إصطيادها. فبعد أن كنا أحراراً في مدننا جعلونا عبيداً لقراراتهم، كما تمّ قضم أراضينا دون علمنا ولا موافقتنا، وأصبحنا في مصيرٍ مجهول لأننا كنا ولا زلنا الحلقة الأضعف في الوجود. فكبارنا في هذا الزمن لا زالوا متفرقين بعد أن عانينا منهم الكثير بسبب دوافعهم المصلحية وطرق وصولهم، فلا نعلم اليوم برحمة مَن نكون: برحمة المجاهدين المكفّرين أم برحمة ملوكنا المتخاصمين أم برحمة حدودنا التي فيها نحن متنازعين؟، هل نحن تحت رأفة الخالق العظيم أم إرادة كبارنا الحاضرين والمنقسمين؟، ألا نعلم أن التاريخ سيحاكمنا كما سيحاكم كبارنا، وإنه لا يمكنهم تزييف ما كتبوه وإنْ كانوا يختارون فرصاً ليزيّفوه؟، ولنعلم إننا ما نحن إلا أقلية مَحْمِيّة وعلينا إدراك ذلك كي لا نتعرض لعملية محو تقريباً ليس إلا!!!.

     عقل حكيم

لنقرأ واقع وطننا جيداً وكذلك واقع مسيرتنا كي نستطيع أن نرسم لنا الطريق الصحيحة بِحَنَكة سياسية وعقل حكيم إنطلاقاً من مصلحة مؤمني كنائسنا وليس من مصلحة أحزابنا وحركاتنا وقومياتنا الشخصية أو الفئوية، وكفانا دغدغة المشاعر كما يفعل الكثيرون منهم كي يرضوا نزواتهم من أجل مكاسب مسروقة ومزيَّفة تكون لصالحهم. فَعِلَّتنا هي في ثقافة الفساد الطاغية في شراء الذمم. فنحن لا ندرس التاريخ، فهل تعلمون أنه تم إذلالنا بإبادة تاريخنا ونخاف أن نقول الحقيقة خوفاً على مصالحنا التي أصبحنا لها عبيداً بعد أن أفرغنا حقدنا وكراهيتنا وغضبنا وبغضنا على بعضنا البعض لأننا لا نُدرك إننا رعاة ورعاة لشعب الله وليس أسياد ورجال مناصب وكراسي وكبار الإدارات، فالبابا فرنسيس يقول:"أنتم رعاة لشعب الله" (موعظة قداسة البابا فرنسيس لدى ترؤسه قداس الرسامة الكهنوتية لكوكبة جديدة من أبرشية روما بتاريخ 7/5/2017).

     مشروع واضح

يعاني المسيحيون من إغتصاب لحقوقهم في العديد من الوجوه، إذ أن هناك العشرات من الذين تم الإستيلاء على عقاراتهم وأراضيهم بأساليب الغشّ والإبتزاز والسرقة الواضحة، لذا علينا أن نتعلّم كيف نواجه إستحقاقات البقاء أو الدفاع عن حقوقنا في حياة آمنة، والشراكة الوطنية مع المكوِّنات الأخرى في رسم حاضر أو مستقبل العراق ضمن مشروعٍ وطني. لا يمكن أن تتحقق آمالنا التي نطمح لها إذا لم يكن لدينا برنامج عمل متكامل وآليات تنفيذية، عليه يجب أن نوجّه كلامنا لمسؤولينا الموقرين أولاً: لماذا هذا التفريط الواضح لعراقيين وطنيين لا غبار على وطنيتهم وأغلبهم من الخبرات التي يمكن أن تساهم مساهمة فعّالة في بناء وطنهم العراق؟. فما نحتاجه هو مشروع واضح ودعم من قبل الأطراف المتنفذة في البلاد حفاظاً على بقاء المسيحيين.

ولنعلم إننا نسكن مناطقنا منذ قرون، ولنا تاريخ واسم وهوية وحضارة، ولا يجوز فرض واقع جديد وهوية جديدة وحضارة جديدة علينا تحت مُسمَّيات أرادوها مُلْكاً لهم ونحن ساكتين وسائرين _ كالطرشان في الزفة (مع إعتذاري لهذا المَثَل الشعبي). فالكاردينال ماورو بياتشينتا يقول:"إنه وضع يسبّب القلق للكنيسة الجامعة بأسرها لأن اختفاء المسيحيين من الشرق الأوسط من شأنه أن يسبّب إضعاف التاريخ والثقافة والمجتمع في تلك المنطقة". ومن المؤسف أن نرى أوروبا العجوز تخجل من جذورها المسيحية، فهناك مناطق كالشرق الأوسط قد يفقد فيها المرء حياته لكونه مسيحياً، لذا بالإضافة إلى حمل مساعدتنا إليهم علينا أن نتعلم فهم شهاداتنا البطولية، فالحل الوحيد هو أن نواجه تاريخنا، ونرحب به ونعانقه. فمستقبلنا رهن ببقائنا وتحمّلنا رغم إختلافاتنا... فهل البقاء في الإختلاف وليس في مغادرتنا؟.

     الخاتمة

أحبائي: إن الرسالة تدعونا لا أنْ نهرب من الشرّ والألم بل أن نقاوم هبوب العواصف وأمطار السيول ورياح الإضطهاد وإطلاقة الحقد والكراهية بعجين في تراب وطننا نبني فيه مسيرة حبّنا لأرضنا كي لا نضيع بين قتلى الزمن، فنحن شعب نوجَد في أرضنا بل أرضنا توجد فينا وتحيا من دماء عروقنا، ولا نقبل بأن نفنى ونموت كي نكون سبباً في ضياع إيماننا وفقدان مسيحيتنا، فتُقلع جذورنا وتموت أصولنا في أرضٍ غنّينا لها أغانينا وزمّرنا لها ورقصنا من أجلها "هذي الكاع ما ننطيها، إيشوع ومريم ساكن فيها". فما حصل حصل، وما حلّ فينا حلّ دون إرادتنا وعدم علمنا وإستعدادنا، فقلوبنا لا زالت وستبقى تفيض بِنِعَم إيماننا ولا أجمل، فمعركتنا كما يقول مار بولس "مصارعتنا ليست مع اللحم والدم" (أفسس12:6)، فإمّا نوجد كشعب مسيحي أصيل في أرض الله وإما أن نموت، وهذه الحقيقة هي التي يجب أن نحملها لأجيالنا ونشهد لها فإننا شهود الحقيقة وليس شهود الزور، وهذا حلّنا ومستقبلنا ليس إلا... نعم وآمين.