Skip to main content

أوضاع المسيحيين في العراق وخطر زوال الوجود

 

المسيحيون هم جزء أصيل من مكونات المجتمع العراقي، ويشكلون عامل حيوي في نسيج مجتمعه المتنوع، فإلى جانب هويتهم المسيحية لهم خصوصيتهم الإثنية والقومية، وقد تُعرف بالأشورية الكلدانية السريانية هي هوية نهرينية ظهرت واستمرت على أرض بلاد النهرين منذ ألاف السنين حتى يومنا هذا، والمسيحيون يعتزون بجذورهم وتاريخهم الموغل بالقدم والعائد إلى الحضارات العريقة للسومريين والأكاديين والأشوريين والبابليين. وهم من أوائل الشعوب في المنطقة الذين تقبلوا المسيحية على أيدي الرسل الأوائل بقيادة القديس توما الرسول.

إن تعلق المسيحيين العراقيين بتراثهم ولغتهم السريانية التي تتركز قاعدتها العريضة على الآرامية التي تحدث بها السيد المسيح ( عليه السلام)، لم يقف أمام انفتاحهم على المجتمعات المحيطة وعلى تراث وثقافة الشعوب الأخرى العربية والغربية.

وقبل الخوض فيما يتعرض له المسيحيون اليوم ينبغي أن نشير بشكل مختصر إلى أن المسيحيين العراقيين قبل التغيير الذي حصل بعد عام 2003 ، لم يكونوا يعيشوا في بحبوحة ورخاء، بل مورست ضدهم خلال الأنظمة المتعاقبة على الحكم بالعراق منذ تأسيس الدولة العراقية، سياسات شوفينية مختلفة، أدت إلى جعلهم أقلية مستضعفة. فكانوا أول المجموعات التي تعرضت إلى عملية إبادة جماعية بعد تأسيس دولة العراق الحديثة،  في سميل عام 1933 في العهد الملكي راح ضحيتها ما يقارب من ثلاثة ألاف شخص، بينهم نساء وشيوخ وأطفال، وثم جاءت مذبحة صوريا عام 1969 في عهد البعث، العهد الذي شهد أسوء الممارسات تجاه المسيحيين فقد مورست ضدهم سياسات التغيير الديموغرافي، وأعمال الاستيعاب ألقسري، وتدمير أكثر من (200) قرية، وتهجير سكانها وهدم وتدمير عشرات الكنائس التي يعود تاريخها إلى القرون الأولى للميلاد في شمال العراق(إقليم كردستان العراق)، تحت أعذار أمنية وعسكرية، ومصادرة الأراضي دون تعويض، واستخدام سياسات التعريب. كما أن عمليات الأنفال  السيئة الصيت غيبت المئات من المسيحيين ودمرت فيها أكثر من (120) قرية مسيحية.

وبعد عام 2003 ، تكرر المشهد على يد الإرهاب والعصابات المسلحة المنفلتة والخارجة عن القانون، حيث يتم استخدام الدين لتبرير الأعمال الإجرامية التي كلفت المئات من حياة الأبرياء في مختلف مناطق بغداد والموصل والبصرة وكركوك والاستيلاء على ممتلكات المسيحيين، معتبرين إياها غنائم يحق جمعها حسب تبريرات واجتهادات مختلفة، مثلما وردت في العديد من كتب ورسائل التهديد التي تلقاها المسيحيون وأيضاً باقي الأقليات غير المسلمة. وقد أفرزت هذه الممارسات نتائج وخيمة على مستقبل الوجود المسيحي في العراق خاصة في مناطق الجنوب والوسط، فقد خلت أحياء بكاملها من المسيحيين في بغداد، بعد أن هجروها إلى الشمال ودول الجوار، وتناقصت أعداد المسيحيين في بغداد إلى اقل من (200) ألف بعد أن كانت أكثر من نصف مليون مسيحي فيها، وفرغت ديالى والرمادي والحبانية من المسيحيين ولم يبقى فيها إلا ما ندر. إن اغلب الذين نزحوا من بغداد أو الجنوب توجهوا إلى مناطق سهل نينوى ومدن إقليم كردستان العراق ودول الجوار كمحطات وسط للتهيئة للهجرة إلى الخارج.

إن الهجمات التي واجهها المسيحيون والأيزيديون في كانون الأول 2011 في إقليم كردستان وحرق محلاتهم وفنادقهم ومصالحهم من كازينوهات وصالات للعلاج الطبيعي والحلاقة النسائية من قبل متشددين أكراد، خيبت أمال المسيحيين من أن يكون الإقليم الملاذ الأمن لهم، وأصبح التفكير بهجرة الوطن هو الخيارالمفروض أمامهم ، بالرغم من أنه هو من الخيارات المريرة لهم ، إلا أنه يبقى البديل الأفضل بالقياس أمام مواجهة خطر الإرهاب وفقدان الحياة. 

من المؤسف إن كل ما يتعرض له المسيحيون سواء، من عمليات التهجير والقتل الواسعة التي حصلت في الموصل عام 2008، وكغيرها في الدورة ببغداد وباقي مناطق بغداد  وكذلك في البصرة، توضع على شماعة الإرهاب بكل سهولة، وعلى الرغم من اعتراف مجموعات متطرفة باقتراف بعضها، إلا أن كثير من الأحداث الكبيرة التي هي أشبه بعمليات إبادة جماعية، كالتي جرت في الموصل في عام 2008، أو  مذبحة كنيسة سيدة النجاة عام 2010، لا يعرف من يقف ورائها، وبالرغم من  تشكيل لجان تحقيقيه فيها، إلا أن نتائج هذه التحقيقات بقيت غامضة والأحكام المتخذة بها باتت مجهولة ودون إعلان، على الرغم من مطالبة منظمات محلية رسمية الجهات الحكومية بالإفصاح عنها، أو كشفها للرأي العام، وأن أغلب الجرائم إن لم يكن كلها، سجلت ضد مجهولين، وغالباً ما يفلت المجرمون من العقاب. 

فبالرغم من انخفاض مستوى الاستهداف للمسيحيين في عام 2012، نسبياً إلا أن أعمال القتل والاختطاف والتهديد تجاههم لم يتوقف، ومع أن وتيرتها كانت أقل عام 2012، بالقياس بالأعوام السابقة، حيث بلغت نسبة أعداد القتلى 0.5% من مجموع المسيحيين الذين قتلوا منذ عام 2003 في الوقت الذي كانت 2% في عام 2011، و11% في عام 2010 وسجلت محافظة بغداد أكبر نسبة قتل وكانت 58% من مجموع المسيحيين الذين قتلوا منذ عام 2003، وتلتها محافظة نينوى بنسبة 29% ( لاحظ التفاصيل في مخطط رقم 3)، وأن أغلب القتلى كانوا من الشباب والأطفال ( لاحظ  التفاصيل في مخطط رقم 4)، وبلغت نسبة الكفاءات 16% من مجموع القتلى، بينما كانت نسبة النساء 14% ورجال الدين 2% 0 (لاحظ التفاصيل في مخطط رقم 5 )، وأغلب أعمال القتل سجلت ضد مجهولين، حيث بلغ عدد المقتولين بأيدي مجهولة 653 شخصاً مسيحياً من مجموع 864 ( لاحظ  التفاصيل في مخطط رقم 1) .

وقد رصدت منظمة حمورابي (66) حالة اعتداء على الكنائس والأديرة لغاية نهاية 2012، كما سجلت أكثر من (200) حالة اختطاف، وهذا الرقم لا يشكل سوى 10% من الحالات التي تعرض لها المسيحيون. حيث لم تستطيع المنظمة تسجيل كافة الحالات بسبب خوف المختطفين من تقديم بيانات خشية على حياتهم، كما سجلت المنظمة أكثر من (190)  حالة اعتداءات مختلفة على مواطنين مسيحيين وهناك إحصاءات أخرى مختلفة يمكن الاطلاع عليها في الجداول المرفقة.

كما تقدر المنظمة المهجرين داخلياً بأكثر من (325) ألف مسيحي، وأن المهاجرين إلى الخارج أكثر من (400) ألف ، ويستمر نزيف الهجرة بشكل يومي، حيث تقدر المنظمة بأن هناك أكثر من (10) أشخاص يغادرون البلد يومياً .

 ومن أجل الحفاظ على ما تبقى من الوجود المسيحي في العراق ، يتطلب من الحكومة العراقية، أولاً وضع خطة وإستراتيجية شاملة لطمأنة المسيحيين، بوجود إرادة حقيقية من الدولة، في الدفاع عن حقوقهم، وحماية وجودهم، وضمان مشاركتهم في الدولة بكافة مؤسساتها ودوائرها بما يضمن العدالة والمساوات، وإن هذه الاستراتيجية، يجب أن لاتكون مجتزأة، بل تكون شاملة، تغطي مساحة واسعة من الإجراءات والتدابير الأتية: 

- توفير الأمن والاستقرار، والحد من استهداف الأقليات، وإشراكهم في الحياة العامة والاجهزة الامنية  بالآليات التي أشار إليها الدستور في مادته التاسعة.

- ضمان التمثيل العادل للأقليات في مؤسسات الدولة المختلفة ، بما يتناسب أعدادهم ودورهم النوعي.

- إصلاح القوانين التي تمس حقوقهم الإدارية والثقافية والتربوية، خاصة فيما يخص قانون الأحوال الشخصية الذي يمس بالأقليات غير المسلمة، واصلاح القوانين الجائرة التي صدرت إبان النظام الدكتاتوري السابق فيما يتعلق بالتغيير الديموغرافي لمناطق الأقليات .

- إيلاء الاهتمام الكبير في دعم مقومات بقاء الأقليات في مناطقهم ،  وتقليل هجرتهم من خلال تنمية مناطقهم وتطويرها ، وإقامة مشاريع إستراتيجية فيها بما يضمن تقليل البطالة وتطوير الواقع الصحي والتعليمي والبيئي .

- إن النصوص الدستورية والقانونية  لوحدها لا تكفي، بل يتطلب تنفيذها والالتزام بها، إيمان حقيقي من القائمين على الحكم بها، ولهم الإرادة والرغبة في تنفيذها، ويملكون قناعة كاملة  بمشروعية حقوق الأقليات، واحترامهم القيم الإنسانية والأخلاقية والقانونية.

- العراق طرف موقع على بعض المعاهدات والاتفاقات الدولية، إلا أن هناك عدداً من المعاهدات والاتفاقيات الدولية الأخرى ذات الصلة بحقوق الأقليات يتطلب الالتزام بها وتنفيذها لارتباطها بالنظام الدستوري العراقي.

- ملاحقة ومحاسبة الجناة، وكشف التحقيقات التي قامت بها لجان في الاحداث الكبيرة التي تعرضت لحياة المسيحيين في العراق، وعدم إعطاء فرصة للمجرمين الإفلات من العقاب، ومحاسبة كل مايثير التمييز والتشويه المسيحي والتعصب ، الذي يواجهه ابناء المكون.

وفي الختام وفي ظل فقدان المسيحيين قوتهم الاقتصادية والعلمية، وأدوات مقومات تميزهم في العراق، يبقى خيار بقائهم في العراق، خيارا عربياً إسلامياً، لان ذلك يقترن بإرادة الغالبية وليس بإرادة المسيحيين الذين لاحول لهم ولاقوة، فإذا كانت للغالبية الرغبة والإرادة في بقائهم، ينبغي التفكير في توفير الحماية ووضع الخطط لتحقيقها، أما في حالة العكس، فإنَ الدعوات التي تأي من الغالبية لضرورة بقاء المسيحيين، والتشبث بالأرض والوطن، تبقى دعوات لا معنى لها ولا، ولا يمكن إعتبارها إلا لذر الرماد في العيون .


                                                                            وليم وردا

                                                    مسؤول العلاقات العامة لمنظمة حمورابي لحقوق الانسان

                                                               المنسق العام لتحالف الاقليات العراقية

                                                             18/ تشرين الثاني/ 2013