Skip to main content

“إبادة” التعليم

 

هل يمكن القول إن مصطلح “إبادة التعليم” دخل القاموس السياسي والحقوقي للجرائم الدولية ضد الإنسانية في توصيف ما حصل للتعليم في العراق طيلة العقدين ونيّف الماضيين، أم ثمة مبالغة في ذلك؟ وماذا نسمّي سلسلة الإجراءات والخطوات التدميرية ضد العملية التعليمية بجميع أركانها على نحو مُمنهج ومركّب، بما فيها القابلية على التعليم، إضافة إلى استهداف مستمر لفئات المتعلمين من مختلف الاختصاصات؟


وقد تم تطبيق هذه النظرية على نحو منظّم وطويل الأمد وعن سابق إصرار وتصميم في العراق، عبر طائفة من التدابير التي من شأنها تدمير التعليم والعملية التعليمية بمختلف مراحلها، وقد كان مفعول ذلك وتأثيره سريعاً، في ظل نظام العقوبات الاقتصادي الدولي الذي فرض على العراقيين من العام 1991 ولغاية العام 2003 .


وإذا ما أضفنا الحروب السابقة، ولا سيّما الحرب العراقية- الإيرانية التي دامت ثماني سنوات 1980-،1988 وفيما بعد عملية غزو الكويت في العام ،1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق في العام ،1991 وصولاً إلى الاحتلال العام ،2003 وما تركه من تكريس للمحاصصة الطائفية والإثنية وظواهر الفساد المالي والإداري وتفشي الإرهاب والعنف، فإن الاستنتاج سيكون خطراً بكل معنى الكلمة إزاء النظام التعليمي بكل مفاصله والعملية التعليمية في العراق بكل أركانها، خصوصاً النزف الذي كان مستمراً طيلة نحو ثلاث عقود من الزمان .


إن الآثار المدمّرة لسنوات الحروب والحصار والاحتلال والطائفية تشكّل تحدّيات أمام المؤسسات التعليمية والأكاديمية العراقية بكل أنواعها وفروعها، الأمر الذي لم يقف على هذا الحد، بل شمل العملية السياسية والمجتمعية برمّتها، ناهيكم عن كونها تحدّياً للمجتمع الدولي، لا سيّما للخطط والمشاريع التي تحدثت بآمال عريضة وأحلام كبيرة عن إعادة الإعمار، تلك التي ظلّ يؤثر فيها سلباً ضعف الأمن واستمرار هشاشة مؤسسات الدولة والانقسام المذهبي والطائفي والإثني الذي اتخذ بُعداً مجتمعياً، حيث رافقته علميات تهجير ونزوح لمئات الآلاف من اللاجئين في خارج العراق وداخله، واغتيال العلماء والأكاديميين، إضافة إلى هزال المناهج التربوية والتعليمية، ومحاولة إضفاء توجهات دينية وطائفية عليها أحياناً، سواءً كان ذلك بصورة رسمية، أو بصورة غير رسمية، وما صاحب ذلك من ردود فعل ومطاولات، بضغوط من الطلبة وبعض الأساتذة، وفي ظل منافسة سياسية محمومة .


لعلّ من الصعب في ظل هذا الواقع المرير وضعف مخصصات التعليم بشكل عام والتعليم العالي والبحث العلمي بشكل خاص، تجاوز الوضع الراهن للعملية التعليمية بكل أركانها: الأساتذة، الطلبة، المناهج، الادارة، إضافة إلى الفضاء التعليمي “المتزمت” الذي يقلّص من فرص حرية التعبير والبحث العلمي، خصوصاً في ظل الصراعات السياسية والمذهبية والإثنية، فضلاً عن بلوغ أهداف التنمية للألفية الثالثة التي بدأت بعنوان التعليم للجميع التي حددت سقفاً أعلى بحلول العام 2015 بسبب آثار الحروب والحصار وضعف الأمن والأمان واستمرار انخفاض المستوى المعيشي ونقص الأبنية والخدمات واستمرار ارتفاع معدّلات الأمية .


واستناداً إلى معلومات رسمية ومقارنة مع معلومات من اليونسكو، فإن نحو خمسة ملايين من سكان العراق الذين تجاوزوا ال 30 مليوناً، هم أميون بينهم نحو 14% من هم بعمر التعليم، أي نحو 700 ألف طفل لم يدخل المدرسة أو تسربّ منها، لإعالة عائلته، فضلاً عن الهجرة وقلة الخدمات التي أسهمت في حرمان أعداد أخرى لتأمين حقوقهم في التعليم .


وإذا ما أضفنا إلى الأمية المعرفية، الأمية الأبجدية فستكون النسبة مرتفعة جداً وخطرة جداً، لا سيّما في ظروف انخفاض مستوى المعيشة وشحّ الأجور على الرغم من تحسنها ما بعد العام 2003 واستمرار ظاهرة الفقر، بل إن الأعداد المتزايدة لمن هم دون خط الفقر، والذين لا يزيد مدخولهم اليومي عن دولارين ونقص الخدمات الصحية واستشراء أمراض جديدة، بفعل الحروب واستخدام أسلحة غير معروفة، بما فيها ما تم استخدامه في الفلوجة وعدد من مناطق جنوب العراق، كل ذلك يهيئ بيئة خصبة للإرهاب والعنف ولنشر ثقافة الكراهية والثأر والإقصاء والإلغاء .


وإذا كان الصراع في العراق هو الأكثر شهرة اليوم في العالم، فإن جانباً منه يتعلق بالتصفية المنهجية للعلماء والأكاديميين العراقيين، الأمر الذي أدى إلى تهجير أوساط واسعة منهم ومن الكفاءات العليا والوسطية من الطبقة الوسطى . وقد أشارت صحيفة “الأنديبندنت” البريطانية إلى أن 470 من العلماء والأكاديميين العراقيين قتلوا (حتى أوائل العام 2007)، وكانت محكمة بروكسل سجّلت في مطلع أكتوبر / تشرين الأول 2010 أن 449 حالة قتل أعقبت الغزو منذ العام ،2003 إضافة إلى حرق ونهب وتدمير نحو 84% من مؤسسات التعليم العالي، إضافة إلى تعرّضها إلى عمليات عنف وتفجير واختطاف، ومن أكثرها شهرة حادثة اختطاف نحو 150 من منتسبي وزارة التعليم العالي عندما داهمها مسلحون في وضح النهار واقتادوا موظفيها إلى مكان مجهول .


وبضم موضوع تزوير الشهادات الجامعية والعليا الذي انتشر على نحو واسع إلى حزمة الإجراءات التدميرية، سندرك حجم الهدر السافر والصارخ الذي عاناه العراق منذ عقود ثلاثة من الزمان، إذ سيحتاج العراق لمعالجة هذا النقص الفادح وللنهوض بما كان يتمتع به التعليم بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص في السبعينات من مزايا، إلى تخصيص استثمارات وميزانيات تتناسب مع هذه المهمة لتأمين هذا الحق الذي ينبغي أن يعتمد على توجّه مغاير لما هو قائم اليوم، باعتماد سياسة انفتاحية وإقرار التعددية والتنوّع فعلياً واحترام الخصوصيات وتجاوز الانقسامات الدينية والطائفية والعرقية والفئوية بخطط للتسامح والعيش المشترك ومبادئ الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة وذلك وحده يمكن أن يعيد للتعليم والعملية التعليمية اعتبارهما .


ولعلّ العودة إلى التعليم الإلزامي المصحوب بحملة توعية كبيرة تسهم فيها مؤسسات المجتمع المدني والإعلام والفاعليات والأنشطة السياسية والدينية، يمكن أن يؤدي إلى تطوّر إيجابي لتطويق الأمية ومكافحتها أبجدياً ومعرفياً، بحملة شعبية وتوعوية كبيرة، خصوصاً بنبذ العنف ونشر ثقافة السلام واعتماد الكفاءة والمؤهلات العلمية وعدم تسييس المناهج وتشجيع منهج الجدل والحوار بحثاً عن الحقيقة .


ولا يمكن لأي بلد أن يرتقي إلى مصاف البلدان المتقدمة من دون وجود ركنين أساسيين بعد توفر بيئة الأمن والاستقرار: الركن الأول يقوم على مبدأ حكم القانون، بما فيه استقلال القضاء ومهنيته ونزاهته وفصل السلطات وتحقيق مبادئ المساواة والمواطنة التامة، أما الركن الثاني فهو التعليم العالي، ولا سيّما البحث العلمي، وذلك ما تحتاجه الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، خصوصاً في ظل حرّية البحث التي من دونها لا يمكن تطوير التعليم العالي والبحث العلمي .


وكثيراً ما يستشهد أصحاب القانون بالزعيم البريطاني ونستون تشرشل عندما سأل عن القضاء حينما كانت تدك الصواريخ والقنابل الألمانية لندن، فقيل له إنه بخير، فقال قولته الشهيرة: إذاً نحن بخير، وهو الأمر الذي ردّده الجنرال ديغول وهو يدخل فرنسا عند تحريرها بقوله: إذا كانت الجامعات الفرنسية (العريقة) بخير، وكذلك القضاء بخير، ففرنسا ستكون بخير ويمكن لها أن تتعافى سريعاً .


إن فرص التنمية ستكون ممكنة ومؤثرة إذا استطاع التعليم بشكل عام، والتعليم العالي بشكل خاص في العراق استعادة مكانته وردم الهوّة بينه وبين العالم المتقدم، ولعل مناسبة هذا الحديث هو جزء من حوار مع وزير التعليم العالي في العراق علي الأديب، في لقاء مع عدد من الأكاديميين وأساتذة الجامعات .


صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء ، 24/4/2013