Skip to main content

اطفالنا حقيقةُ وجودِنا

 

                                                               المونسنيور د. بيوس قاشا                                                

في البدء

بألم كبير وأمانة للتاريخ، أروي لكم هذه القصة كما عشتُ فصولها المؤلمة عام 2006 حيث كانت درب الطائفية عنوان المسيرة الحياتية آنذاك.

جاءني أحد أبناء الكنيسة برفقة زوجته وإبنه الصغير والبالغ من العمر خمس سنوات وقال إن إبنه الصغير المسجَّل في الروضة الفلانية قد روى له ما يلي: قال الوالد متالماً عن لسان الطفل بأن المدرِّسة تقول عنه أنه نصراني ولا يحق له ان يصادق أي طفل في الروضة، كما أوصتهم انه لا يجوز للطفل الشيعي أن يأكل ويشرب مع الطفل السنّي. وفجأة صرخ الطفل "أبونا إحنا أطفال ، ليش تعلّمنا المعلمي (المدرِّسة) أنْ ما أحب صديقي المسلم وأنا ما أعرف شنو سنّي وشيعي ونصراني... بابا، أنا بعد ما روح للروضة"... كان هذا الحديث سهماً في قلبي، وكانت الرواية مؤلمة. حملتُ نفسي في اليوم التالي وقصدتُ الروضة وطلبتُ من السيدة المديرة أن أتكلم مع المدرِّسة إنْ كان بالإمكان، فسمحتْ لي. وبعد إلقاء التحية على المدرِّسة المعنيّة، شرحتُ لها دورها الأبوي والأمومي والتعليمي لهذا النشئ الجديد، أطفالنا وأجيالنا ومستقبل لبلادنا، وكيف يجب أن نربّيهم على المحبة وليس على الحقد والكراهية الواحد تجاه الآخر، وعدتُ أدراجي وسألتُ نفسي: أين اصبحنا؟، وما مستقبل أجيالنا، ووطننا؟.

الاخوة الانسانية

أمام هذه القصة المؤلمة أردتُ أيها القرّاء الكرام أن أكون بينكم كلمة عبر أسطر قليلة أُعلن فيها أنّ وثيقة "الأخوّة الإنسانية" التي وقّعها قداسة البابا فرنسيس والدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف في الرابع من شباط (فبراير) الماضي في دولة الإمارات تناشدنا لتكون لنا جميعاً، مسلمين ومسيحيين ومكوِّنات أخرى، ولمربّي أجيالنا وأساتذة مدارسنا وجامعاتنا موضوع بحث وتأمّل لتساعدنا على خلق أجيال جديدة تحمل الخير والسلام، تحمل الوطن والمواطن، تحمل الإنسان وحرية الإيمان.

ارض خصبة

نعم، أليست المدرِّسة او المعلم والمعلمة ، هم مَن ينشئون أجيالاً ويزرعون حقيقة الطفولة في أهدافها وغاياتها، فالبيت كما المربّي أرض خصبة تقبل الحقيقة بكل صفاء لزرع بذرة المواقف التي تنمو في مسيرة الأطفال، ومنها بذرة القبول الآخر المختلف في دينه وعِرْقِه ولونه، لذا يجب علينا مسلمين ومسيحيين أن ندرك مسؤوليتنا الكبيرة تجاه تنشئة أجيالنا الصغار وأطفال مدارسنا البيتية، لأن التربية تجعلنا أن نقيم بناء مشروع وطني جديد حيث الكل إنسان،  والكل مواطن ، والكل مؤمن في دينه ، ومخلص له بمسيرته الحياتية الزمنية لأجل غاية أسمى... إنه مشروع يبني وطناً للجميع ، وفوق الجميع.

حروب بفتاواها

لقد عاش شعبنا خبراتٍ مؤلمة في هجرته ونزوحه، فمنه مَن إفترش العراء، ومنه مَن سكن الخيم غصباً وخوفاً من داعش، ومنهم مَن رحلوا بعيداً وهم بأسف وآهات على ما حلَّ بهم، فاختلط الدين بالسياسة، وأصبحنا جميعاً ضحايا الحروب الدينية بفتاواها وآياتها، وبتكفيرنا، وأعدنا إلى أذهاننا في مسيرتنا الحياتية قصة قايين كيف قتل أخاه هابيل وهو من لحمه ودمه ، وإبن أمّه وأبيه،  بل وإبن وطنه وأرضه.

حقيقة صغارنا

مسؤوليتنا مقدسة ، انسانية بعمقها،  والهية بهدفها ، إن كانت في مدارسنا الخاصة أو الرسمية، وعلينا ان نطرح كلنا على أنفسنا السؤال المزعج: أيَّ نوع من المؤمن المسيحي أو المسلم أو الصابئي أو الإيزيدي أو البهائي نعدّ لمستقبل وطننا؟، أيَّ نوع من المواطن بجيله نُعدّ؟، ما دور أجيالنا في مستقبل وطننا؟ ما هي حقيقة تربيتنا ومن أي نوع هي؟ هل نربي لوطن متماسك بجميع مكوناته واختلافاته العقائدية والدنيوية؟، هل نربيهم على روح الطائفية المقيتة والأغلبية السائدة لتفسدا يوماً أرضَ وطننا وتدمر رسالةِ أجيالنا في عقر وجودهم، أم نعدهم لحروب عشوائية تُشعل الأخضر واليابس وتزرع الطائفية بسنّتها وشيعتها ونصرانيتها ومكوناتها، وتجعل من كنائسنا وجوامعنا ومساجدنا ومعابدنا أماكن للتكفير والتدمير، للتفرقة والإنشقاق؟، هل نعلّمهم القتلَ باسم الله كما فعل داعش؟... ما يؤلمني أخاف يوماً نحصد فيه ما إبتلينا به بسبب فكر داعش الإرهابي وفي ذلك تموت بذرةُ أرضنا ويكون التكفيرُ والكراهيةُ حقيقةَ أجيالنا. فأيَّ نوع من المواطنين نحتاج، بل نُعِدّْ عبر بيوتنا وروضاتنا ومدارسنا وجامعاتنا من أجل أن نكون مؤمنين بالرب ومحبّين للآخر، أقوياء بإنسانيتنا، لا يستقوي أحد على آخر ولا يسمح لأحد أن يستضعف الآخر. فالقوة بأصالتها وحمل رسالتها لا تكون إلا في المحبة كما يقول المسيح الحي " أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم " ( يو 12:15)   وفي الاختلاف، وفي بناء جسورها وإعمار مساكنها وإعلان شأن مدرّسيها بمدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وروضاتهم.

كلنا معلمون

إذاً، علينا تنقية أذهاننا قبل أذهان الأطفال من شوائب الكراهية والأنانية، والحقيقة لا تكمن إلا بالتعايش وقبول الآخر المختلف بكل صفاء. فأطفالنا دعاهم رب السماء أن يكبروا في القامة والحكمة والنعمة أمامه وأمام الناس(لو2: 52) . ففي قامتهم بطولها وصحتهم، وبحكمتهم بأن يكونوا أمناء وأوفياء لمواهب الرب لمسيرة الدنيا، وبالنعمة ليعيشوا قوة الإيمان بروح المنوّر فيعتبر الطفل أخاه وإن إختلف عنه شكلاً ولوناً وديناً فهم كلهم سواسية ومتساوون في طفولتهم وكرامتهم ، فبقدر ما يكبر الإنسان في الإيمان ويحياه بقدر ذلك يتقبّل الآخر الغريب منه والمختلف عنه. لذا على كل المربين أن يتعاونوا مهما اختلفت أديانهم وعقائدهم، فكلنا معلّمون وخصوصاً كل رجل دين مسيحياً كان أم مسلماً هو المسؤول الأول والأخير، على تربية النشئ تربية جديدة راسخة على قواعد الرحمة والمساواة والكرامة التي منحها الله لكل إنسان. فمسؤوليتنا تضعنا أمام أجيال جديدة تنشئ دولة جديدة لكل مواطنيها أي كان دينهم.

في الختام

ختاماً ، أسال وأناشد المسيحيين والمسلمين ، عبر المّربين والمعلمين والمعلمات،  والمدرسين والمدرسات ، أنبقى نحيا صراعات مريرة؟، أنبقى نزرع في قلوب أطفالنا وأجيالنا الصغار ديناً يقودني إلى تشويه الايمان  ومسيرة الحياة؟... فالإيمان ليس في ديننا أولاً بل في مواطنتنا وإنسانيتنا ، ثم ديانتنا وإيماننا. فنحن من هذه الأرض جُبلنا وما نحن لها إلا مواطنون وخلقنا رب السماء على صورته ومثاله ( تك 27:1) فمنه نحيا إنسانيتنا، وما ديانتنا إلا هذا الرابط الذي يرتقي بنا من الأرض إلى نحو السماء فنحمل رسالة إلى الآخر من أجل ذرى الحياة ومجد السماء. لذا لتكن تربيتنا جديدة كي نكون مواطنين غير منغلقين على ذواتنا بل منفتحين وقادرين على معانقة إخوتنا وأخواتنا جميعاً عبر مسيرة حرية الإيمان التي اكتسبناها يوماً وزرعناها في عمق أفكار أجيالنا الصغار وأطفال مستقبلنا، فيناجي كل واحد ربه بطريقة يريدها ، وفي ذلك كلنا مسؤولون أمام الله وأمام الضمير، الدولة مسؤولة والكنيسة مسؤولة ، والمسجد مسؤول ، والمعبد مسؤول،  وما ذلك إلا حقيقتنا عبر مدارسنا بمختلف مسمياتها،أمام أطفالنا وصغارنا، فهم حقيقة وجودنا وعليهم يُبنى حاضر ومستقبل دنيانا ، إنهم اخوة في إنسانيتهم ، إنهم عطايا السماء لبناء الوطن... هذه هي دعوة وثيقة "الأخوّة الإنسانية" في أن نكون مربين لأجيالنا عبر رسالة تحمل الخير والسلام.كي يكونوا لنا اليوم وغداً رسل المحبة والتآخي ، إنهم حقيقة وجودنا ،  نعم وآمين.