Skip to main content

الأنبار: البحيرة والأسماك الخبيثة

 

أكّدت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، إن عدد اللاجئين من محافظة الأنبار غرب بغداد، بلغ 140 الف شخص، وذلك منذ اندلاع الاشتباكات بين القوات الحكومية من جهة وعدد من أبناء العشائر من جهة وبين مقاتلي داعش الذين انتشروا في الصحراء، ثم عادوا وتسللوا إلى الفلوجة، منذ نهاية العام 2013 ومطلع العام 2014 وإلى الآن، من جهة أخرى.

وبعيداً عن السياسة فإن مطالبات ساحات الاعتصام المشروعة في غالبيتها، حسب إقرار الحكومة، التي شكّلت لجاناً لدراستها ووضع الحلول الناجعة، فإن المشكلة استمرت، ولاسيّما تلكؤ الحلول أو تعثر المعالجات المطلوبة، خصوصاً وأن المسألة بحاجة إلى إجراءات سريعة وعاجلة، الأمر الذي ساهم في زيادة معاناة المواطنين من أبناء هذه المناطق الذين لم يغادرهم الشعور بالإجحاف والغبن، خصوصاً وقد شهدت الفلوجة وحدها، وبغض النظر عن الأسباب والمبررات، أربع عمليات اقتحام واستباحة منذ العام 2004، خلال حكومة الدكتور إياد علاوي والدكتور ابراهيم الأشيقر (الجعفري) ونوري المالكي.

الجانب الإنساني في معاناة أهالي الأنبار كان هو الطاغي هذه المرّة على الجانب السياسي والأمني، فقد فرّ نحو 65 ألفاً من أبناء محافظة الأنبار في ظروف قاسية، بعضهم توجه إلى إقليم كردستان والأخر إلى مدن كربلاء وبغداد ومحافظتي صلاح الدين والموصل ومناطق أخرى، علماً بأن الكثير من المدنيين غير قادرين على مغادرة مناطق تشهد معارك وقصف مستمرين، ويعاني سكان هذه المناطق من نقص في الغذاء والدواء وشحّ في الوقود.

وإضافة إلى الاشتباكات فإن تحذيرات الحكومة بضرورة مواجهة الارهابيين وضع  على سكانها مهمات قد يكونون غير قادرين على القيام بها أو الاضطلاع لإنجازها أو الاستعداد لذلك، حتى وإنْ تطوّع بعضهم، الأمر الذي أدّى إلى هجرة واسعة وهي أكبر هجرة حسب وزارة الهجرة والمهجرين في العراق منذ أعمال العنف الطائفية التي ضربت العراق عامي 2006-2007.

ما زال هذا الملف الإنساني يزداد تضخّماً، وعلى الرغم من عودة عدد من اللاجئين في الخارج والنازحين في الداخل إلى مناطقهم، فإنهم لا يزالوا يعانون الكثير من المصاعب، ومع ذلك فإن عدد المشرّدين والذين تركوا مناطق سكناهم زاد على مليون و13 ألف، وهم في بغداد وديالى والموصل، حسب معلومات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ولعلّ من أخطر ما يواجهه سكان الأنبار المتبقين وغير القادرين على مغادرة مدنهم ومناطق سكناهم، هو الأضرار البالغة المادية والمعنوية التي تعرضوا لها، سواء انقطاع الدوام في المدارس والكليات ودوائر الدولة، إضافة إلى حالة الرعب التي يمرّ بها الأطفال وجو الخوف السائد والمواجهات المتواصلة، سواءً بين قوات الحكومة والقوى العشائرية التي معها، وبين بعض العشائر التي ضدها، يضاف إلى ذلك مخاطر وجود تنظيمات داعش والقاعدة والتنظيمات الارهابية الأخرى.

إن معظم الذين نزحوا من الفلوجة، لا يزالون خارجها منذ أسابيع، وقسم منها سكن لدى أقارب والقسم الآخر اضطرّ للبقاء في بعض المدارس أو الجوامع أو حتى المستشفيات، وقد أفاد أدريان إدواردز المتحدث باسم المفوضية السامية للاجئين في جنيف، إلى أن المفوضية غير قادرة على تلبية احتياجاتهم أو رعايتهم كلاجئين أو نازحين.

وتمكنت المفوضية من إرسال بعض البطانيات والأفرشة للنوم وبعض القطع من القماش الواقي ومستلزمات النظافة والطعام كمواد إغاثية، ولكنها غير كافية، مثلما أرسلت وزارة الهجرة والمهجرين بعض هذه المواد والمساعدات، لكن القسم الأكبر من النازحين لا يزالون بحاجة ماسّة إلى الغذاء والرعاية الطبية، ولاسيّما لبعض الأطباء النفسيين، خصوصاً وإن انعدام حالة الأمن وانتشار الرعب في أوساط النازحيين، وخصوصاً من الأطفال وعدم ذهابهم إلى المدارس، فضلاً عن ظروف السكن السيئة، قد ساهم في تفاقم الأوضاع المأسوية وغير الطبيعية. وقد طلبت الأمم المتحدة من حكومة بغداد تسهيل فتح ممرات إنسانية للوصول إلى العوائل النازحة، والذين تقطعت بهم السبل في محافظة الأنبار.

لقد كان لتدمير الجسور المؤدية إلى منطقة الاشتباكات المسلحة، والجهات التي تستضيف النازحين، دور في تدهور الحالة الانسانية للنازحين، وعاظم من معاناتهم، ولاسيّما شعورهم بأنهم ” أسرى” أو “مختطفون”، لا يعرفون متى يتم الاجهاز عليهم، خصوصاً وقد تعذّر الوصول إليهم، ولعلّ وضع هؤلاء المأسوي يتطلب معالجات سريعة وحاسمة، تقضي بإيصال الإمدادات الضرورية لهم أو نقلهم إلى أماكن آمنة بعيدة عن أطراف الصراع، فهؤلاء المدنيون أصبحوا ضحية لنزاع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، علماً بأن طرفي النزاع كما أفاد الكثير من اللاجئين لا يحترمون بروتوكول جنيف لعام 1977 الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، وهو ملحق اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949.

وإذا كانت محافظة الأنبار وأهلها قد فتحوا أبوابهم وقلوبهم لاستقبال اللاجئين السوريين الذين فرّوا من سوريا بسبب النزاع المسلّح، فإنهم اليوم بأشد الحاجة إلى تقديم المساعدات الضرورية والعاجلة إليهم، وصولاً إلى عودتهم السالمة والآمنة إلى مدنهم ومناطقهم وسكناهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار.

إن واجباً إنسانياً يقع على عاتق المنظمات الإنسانية والخيرية، بما فيها الصليب الأحمر الدولي، وجمعية الهلال الأحمر العراقية، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني العراقية والعربية والدولية، يتلخص بالقيام بعمل عاجل وقبل قوات الأوان لوضع حد لمأساة سكان الأنبار، مع ضرورة احترام أن معادلة الأمن لا ينبغي أن تكون على حساب معادلة الكرامة، فالأمن مع الحقوق وليس ضدها، والأمن يتطلّب عدم التعرّض للمدنيين وتحت أية حجة أو ذريعة، ولا ينبغي أن يؤخذ أهل الأنبار بجريرة وجود إرهابيين من داعش أو تنظيمات القاعدة أو غيرها من التنظيمات والجماعات الإرهابية، ولا يمكن تجفيف البحيرة بحجة وجود بعض الأسماك الخبيثة فيها، أو إسقاط طائرة فيها ركاب مدنيون يربو عددهم على مئتين مثلاً بزعم وجود إرهابي على متنها.

وبعيداً عن السياسة أيضاً وخارج نطاق التفاصيل، فلا بدّ من اللجوء إلى مبادرة سريعة وعاجلة للحلول السلمية والتخلّي عن الحلول العسكرية، فهذه لوحدها ليست كافية للقضاء على الإرهاب، لأن مسألة الإرهاب مسألة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغير ذلك، ويتطلب القضاء عليه واجتثاثه من أساسه وتجفيف منابعه تلبية المطالب المشروعة لسكان الأنبار وغيرها من مطالب الاعتصامات في صلاح الدين أو الموصل أو ديالى، إضافة إلى المطالبات الشعبية لعموم سكان العراق بالخدمات الصحية والتعليمية والكهرباء والماء الصافي ومحاربة الفساد المالي والإداري وإعادة هيبة الدولة وإنهاء وجود الميليشيات تحت أي مسمّى كان وقبل ذلك توفير الأمن والأمان.

ويحتاج الأمر إلى إرادة سياسية في التوجه إلى مصالحة وطنية حقيقية من خلال حوار جاد ومسؤول بمشاركة الجميع دون إقصاء أو عزل أو تهميش ، فهذا وحده يمكن أن يؤدي إلى تطويق الإرهاب والإرهابيين، ويقضي على معاقلهم ويمنع إيجاد حاضنة لهم، وعكس ذلك سيبقى بيض الإرهاب يفقس كل يوم، وتزداد المعاناة الإنسانية لسكان الأنبار وغيرهم من المناطق العراقية.

{ باحث ومفكر عربي

جريدة الزمان العراقية، 9/2/2014