Skip to main content

الإرشاد الرسولي والأخوّة الإنسانية رسالة حوار واحدة لعيش مشترك في مسار السلام

                                                                       المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء

ظلّت المسيحية ـــ وحتى اليوم في شرقنا ـــ تلعب دوراً هاماً وعلى مدى قرون، وها هي اليوم تواجه التحديات القاسية، فاصبحت ضحية للسياسات المصلحية والطائفية التي يقودها كبار زمننا، وجالسو الكراسي المسروقة ،  وإن كان أبناؤنا لا يدركون هذا الواقع الأليم جيداً بسبب تطييب الخاطر في صور احترام عديدة من اجل البقاء وعدم الرحيل ، ولكن رغم كل ذلك يجعلنا الواقع أن نسأل، بل يدفعنا إلى التساؤل: هل هناك مستقبل للمسيحيين في شرقنا الجريح؟، ومَن يتحمّل أخطار هذا السؤال؟. فهم لحدّ اليوم يعيشون في أوطانهم رعايا وليسوا مواطنين، فلا اعتراف بحقوقهم إلا ما يحلو لدستور الأغلبية وحقيقة إيمانها. فرسالة الحقيقة والوجود عبر حوار العيش مخيفة، والقضاء على الهوية أصبح بأيدينا فليس لنا إلا قول الحقيقة في وجه الزمن ، ولنقلها دون أية رتوش أو مبالغة. نحن اليوم أمام عالم أضاع القيم والمبادرة، الحقيقة والاصالة ، كما ضيّعنا البوصلة والإتجاه، وهذا ما يدعونا الى ان  نتصرّف على صورتنا الحقيقية والتي تُخرجنا عن تشوّهاتنا.

الوجود المسيحي

إن الوجود المسيحي كان ولا يزال يواجه خطر الزوال، وهذا يعني أنه لن يرحل الجميع بل من المؤكَّد أنه سيبقى هناك عدد ضئيل جداً منهم في شرقنا وفي وطننا الجريح، ربما بضعة آلاف أو مئات كما حصل يوماً في تركيا مثلاً. فبالحقيقة إن المسيحية هناك انتهت كوجود فعّال والسبب كان ولا زال ذلك التطرف الديني بتشويه مسيرة الحوار وتدمير التعايش وقبول الآخر المختلف وخاصة المختلف دينياً، فهذا التطرف ليس إلا مسيرة معادية لمسيرة السلام وللوجود المسيحي بل لوجود الانسانية ، فكان أن انتهى. وفي هذا الصدد يقول الإرشاد الرسولي كما وثيقة الأخوّة الإنسانية "إن إفراغ الشرق من مسيحييه هو أقسى جريمة تُرتَكَب ضد المسيحية على الإطلاق. فالشرق دون مسيحيين، شرق بلا حوار. فالمسيحية التزمت الحوار ولا رجوع عنه، لانها نبع الشرق هذا وتاريخه، ومنه يشعّ نور بشارة المسيح الحي". فالمسلمون مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ عن بقاء المسيحية وكل مكوِّنات الشرق وعلى قاعدة المساواة.

الارشاد الرسولي

يقول الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط ـــ والذي وقّعه قداسة البابا بندكتس السادس عشر عام 2012 ـــ وسلمه الى رؤوساء كنائس الشرق الاوسط الكاثوليكية  في عدد (28):"إن أنظار العالم كلها متجه صوب الشرق الأوسط حيث الإضطرابات المستمرة والإرهاب المميت والتعايش المخيف والكراهية الحاقدة"، وعبر هذا كله تصاغ أسئلة مخيفة تنذر أحياناً ـــ بل في كثير من الأحيان ـــ بانتهاء الوجود المسيحي التاريخي، وربما يكون في طريق انقراض منظَّم إنْ لم يتغير شيء على أرض الواقع لتغيير النظرات والأهداف بسبب افرازات الماضي الأليم وسياسة المحاصصة والصراعات الكرسوية، إضافة إلى الانقسامات المذهبية والتي بسببها كانت الحروب وأصبحت اليوم بضاعة يتاجر بها المستفيدون كما يشاؤون.

الاخوة الانسانية

قالها البابا فرنسيس في خطابه في الأخوّة الإنسانية "لا يمكننا أن نكرم الخالق دون أن نحافظ على قدسية كل شخص وكل حياة بشرية ، لذا لا يجوز استعمال اسم الله لتبرير الكراهية، ولا يوجد دين يبرر العنف، ولا يجوز لأحد استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى"،. فالحروب لا تجلب معها انتصاراً بل تجلب دماراً ومزيداً من الكراهية تورَث للأجيال القادمة.كما قال قداسته:"إن التعدد الديني هو تعبير عن التنوع والاختلاف بين الأخوة، وهذه شجاعة الاختلاف هي روح الحوار الذي يقوم على صدق النوايا. فليس بالإمكان أن نعلن الأخوّة ونتصرف بعدها عكس ذلك. فقد قال أحد الكتّاب المعاصرين: إن الذي يكذب على نفسه ويصغي إلى أكاذيبه، يصل إلى حد عدم القدرة على تمييز الحقيقة لا في داخله ولا من حوله، ويبدأ بفقدان احترامه لنفسه وللآخرين". لذا فالحوار الواحد يقود إلى التعايش المستمر لأنه حمامة سلام. ولكي تحلّق الحمامة في حقيقة الوجود فهي تحتاج إلى جناحين يرفعانها، جناح تربية الحوار وجناح العيش الواحد في قبول الآخر من أجل حقيقة السلام الدائم. إنه التزام ومعرفة من اجل حقيقة الآخر، كي لا يضيع مسار السلام.

حوار وجسور

أقولها: الدين حوار، ورسالة السماء من أجل الإنسان هي عيش مبادئ الحقيقة وقيم الحق، ولكنه ينقلب إلى حالة سلبية عندما يُدار بأيدي مجموعة من المتعصبين مِمَّن نصبوا أنفسهم ناطقين بلسان الحق، يحلّلون ويحرّمون، يفسّرون جانباً ويغفلون جوانب، فيرفعون شعارات التعصب وإلغاء الآخر، ويدعون إلى فرض لائحة من اللاءات والمحرَّمات... إنها قنابل عنقودية مؤقتة لتفجير الثقافات والصراعات الدينية والطائفية.وطريق الحوار هذا دعت إليه الكنيسة والأحبار القديسون ومنهم قداسة البابا فرنسيس، ولا زالت على مرّ أزمنة التاريخ. فالكنيسة تريد متابعة بناء جسور الصداقة لأن ذلك مساهمة حقيقية وقيّمة في بناء السلام، فقد غدا لزاماً علينا جميعاً الانخراط في حوار نابع من العقل النيّر، حوار مبني على احترام كرامة وحرية كل شخص، حوار يرى فيه كل إنسان في الآخر تتميماً له وليس نقيضاً. فالحوار اليوم ليس خياراً إضافياً بل هو ضرورة حيوية يتوقف عليها مستقبلنا، وقد لا يخلو من الصعاب ولكنه يتطلب صبراً لا حدود له.فالمسيحيون والمسلمون مدعوون جميعاً للمُضي قُدُماً مهما اشتدّت الصعاب، ولا يمكن للاختلاف أن يكون سبباً للمشاحنة والاقتتال وقد سبقنا في ذلك قداسة البابا فرنسيس إذ بدأ يرسم لنا طريق الحوار بكل هدوء وصمت وصلاة.وهذا ما يدعو اليه الإرشاد الرسولي ووثيقة الإخوّة الإنسانية فهما يناشداننا بأنه لا بديل آخر إلا عبر الحوار والتعايش، فإمّا أن نبني المستقبل معاً وإلا فلن يكون هناك مستقبل. فلا يمكن للأديان أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان وبكل شجاعة وإقدام أن تظهر رؤية ملؤها الرجاء واتّخاذ مسار السلام الحقيقي، فالسلام أثمن عطية وأثمن من كل المكاسب، من اجل العمل معاً وقُدُماً في درب الحوار، وعِبْرَ حوارٍ أكيد، بل واجب، من أجل عيش السلام في بلاد الله الشاسعة، لمنع دخول الحقد والكراهية والعدوانية قلب الإنسان".

    الحوار رسالة

ولنعلم أنَّه مهما كان الحوار طويلاً أو قصيراً، صعباً أو سهلاً، فهو رسالة سماوية، رسمها الله لنا من أجل العيش والمسامحة. فالكتاب عندنا يقول "إِذهبْ وصالِحْ أخاكَ، ثُمَّ عُدْ وقَرِّبْ قُربانَكَ" (متى23:5-24)، يعني: إذهبْ وحاوره، لكي يتطهَّر القلب، وتصفى النيَّة، ثمّ تقدِّم الذبيحة.لذا علينا أن نثلم أسِنَّة الرماح، ونكسر كبرياء السلاح، ونبتعد عن أعمال العنف والدمار، من أجل تعزيز وتمتين وصقل سلاح الحوار لتكون رسالتنا رسالة الإعتراف بالآخر المختلف، وحقوقه في المحبة والغفران، لأنهما أساسان جوهريّان لبناء السلام، عِبْرَ فتح قلوبنا للآخرين. ووفق الإقرار بالتعددية والإيمان بها، لذا كان من المنطق والعقل أنْ يتوصَّل البشر إلى قانون يمنع التعرّض لمقدَّسات الناس، ما دام جميعهم مؤمنين بأنبيائهم ورسلهم وإلهٍ واحد. والحوار طرقه التواضع والتسامح، فقد قال الخليفة عمر بن الخطاب (رض) "إذا سَمِعْتَ الكلمةَ تؤذيكَ، فَطَأطِئ لها حتَّى تَتَخطَّاكَ". ومرةً رأى رجلاً يطأطئ رقَّبته فقال "يا صاحِبَ الرقَّبَةِ، إرفعْ رقَّبَتَكَ. ليسَ الخشوعُ في الرِقابِ، إنَّما الخشوعُ في القلوبِ". وقد قال الإمام علي بن أبي طالب "واللهُ، لو ثُنِيَتْ لِيَ الوِسادةُ، لَقَضَيْتُ بين أهلِ التوراةِ بتوراتِهِم، وبين أهلِ الإنجيلِ بإنجيلِهِم، وبين أهلِ الزُّبورِ بزبورِهِم، وبين أهلِ القرآنِ بقرآنهم"، وأخرى "الناسُ صنفان: أمَّا أخٌ لكَ في الدين، أو نظيرٌ لكَ في الخَلْق .

ختاماً

نعم، إنّ دعوتنا في الحقيقة تكمن في مسار الحوار المشترك. فنحن وكلاء لرسالة السماء، وعلى الوكلاء أن يكونوا أمناء، في حمل سلاح الحوار، وليس في عداد تجّار الحروب باسم الله والدين. فالعالم في حاجة لجهود مَن يشيّدون جسور التواصل والحوار، وليس لِمَن يبنون جدران العزلة والإقصاء ". فنحن الآن أمام مفترق طرق: فإمّا أن ندرك حقيقة وجودنا وأصالتنا وتنوعنا، وإما أن نستمر في بناء الجدران وإقامة السواتر والتي تفصل الثقافات والتعارف، وتفاقم الطائفية، وتزيد في الفرقة والانقسامات وضياع الإنسانية المشتركة التي تنادي بحقيقة العيش وإن اختلفت الأجناس والأعراق والديانات.

نعم، للإرشاد الرسولي والأخوّة الإنسانية مسيرة واحدة من أجل فتح صفحة بين المسلمين والمسيحيين ، فالعلاقة بينهما ساءت كثيراً في السنين الأخيرة بسبب ما تعرّض له مسيحيو الشرق الأوسط من اضطهاد وتنكيل وتهجير وقتل وتفجير طالتهم أينما هم. والحقيقة ليست إعلاناً لحرب بالسلاح والصواريخ وإنما حروب متتالية لحقيقة الوجود من أجل المصالح المزيَّفة عبر فوضى اجتماعية وديموغرافية وإفراغية . لذا علينا ان نكون رسل الحوار ورسالتنا مهمة للغاية ولا يمكن الاستغناء عنها .ومن هنا ندرك أنّ الارشاد الرسولي والاخوة الانسانية عاملان يحملان كلاهما راية واحد ورسالة حوار امينة لزرع نبتتة السلام . نعم وامين .