Skip to main content

الإسلام السياسي بعد الثورات العربية

قراءة في التفكير السياسي لسسيولوجيا المعرفة الإسلامية!

كاتب ومفكر عراقي

استاذ فلسفة اللاعنف في جامعة أونور(بيروت)

مدخل

دفعت الثورات العربية منذ مطلع العام 2011 بالتيار الإسلامي عموماً، والأخواني بشكل خاص، إلى ساحة العمل السياسي وخوض غمار التجربة الحزبية العلنية، بعد أن كانت الحركات الإسلامية في العديد من البلدان العربية محرومة من العمل السياسي العلني والقانوني، وقد ظلّ العمل الإسلامي أو لنَقُلْ طيفه الأكبر مهتماً بالعمل الخيري، الإنساني، إضافة إلى العمل التربوي- التبشيري والدعوي، فضلاً عن العمل الاجتماعي.

وإذا كانت الثورة الإيرانية، التي نجحت في شباط (فبراير)1979 قد وفّرت فرصة للتيار الإسلامي لتولي إدارة البلاد، فإن الانتخابات في تركيا هي التي جاءت بحزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وبغضّ النظر عن تقييم المشروعين الإسلاميين الإيراني والتركي وأبعادهما الآيديولوجية- القومية، فضلاً عن غطائهما المذهبي، فإن دخولاً جديداً ومؤثراً بدأ لمرحلة جديدة من الإسلام السياسي في كل من تونس ومصر ليست بعيدة عن الحضور المؤثر للتيار الإسلامي بشكل عام، الأول تحت عنوان حزب النهضة التونسي1  المعارض الذي يقوده راشد الغنوشي والذي هو امتداد لحركة  الإخوان المسلمين، وإنْ كان له خصوصيته، لا سيّما بعض مقارباته القريبة من حزب العدالة والتنمية التركي، والثاني المتمثّل بالجماعة الإسلامية في مصر بشقيها الأول الذي عبّر عنه الكيان الجديد الذي سمّي بحزب الحرية والعدالة، والثاني أخذ يطلق على نفسه إسم الحركة السلفية، ولعل مرجعياتهما التاريخية كانت قد استمدت أصولها من  الإخوان المسلمين التي تأسست في العام 1928 2.

ولعلّ هاتين التجربتين جاءتا بعد انتخابات ديمقراطية فازت بها الحركة الإسلامية، وشكّلت حكومة باعتبارها أغلبية بالتعاون مع قوى سياسية، لا تزال مستمرة في حالة تونس، على الرغم من مصاعبها الكثيرة والتحدّيات التي تواجهها، في حين انفضّ عقد توافق بدا مهلهلاً منذ اللحظة الأولى في مصر حين ترك التيار شبه العلماني، شبه الليبرالي، إضافة إلى اليساريين والعروبيين "لجنة صياغة الدستور" التي كانت مغادرتها أشبه بطلاق بائن لا رجعة فيه بينهم وبين الإخوان، لا سيّما عندما تصاعدت الخلافات في ظل تشدّد حكومة الرئيس محمد مرسي مقابل مطالبة المعارضة إيّاه بالتنحي. 

وشهد المسرح السياسي المصري احتداماً وصراعاً حاداً بين خصمين إئتلفا في ميدان التحرير قبل عامين ونصف، وتناحرا بعد انتصار الثورة، في يناير العام 2011، لكن كلا التيارين، لم يستطع، أحدهما الانتصار على الآخر، ولكل جماهيره وحججه، ففي حين يقول التيار شبه العلماني أن مرسي اتجه بالدولة نحو " الأخونة" وأنه منح نفسه صلاحيات كبيرة بحيث تعفيه من المسؤولية بموجب إعلان دستوري صيغ على مقاساته، يقول مرسي وحزب الحرية والعدالة وحركة الاخوان، إن حجج المعارضة غير مقبولة لمطالبة مرسي بالتنحي وهو الذي حاز على رأي الشعب، وأن الدستور صوّت عليه الشعب بنسبة زادت على 63% وسيعني " التنازل" أقرب إلى تخلّي عن المسؤولية والأمانة التي منحها الشعب للإسلاميين ولمرسي تحديداً.

بحلول 30 حزيران (يونيو) 2013 وبمناسبة مرور عام على انتخاب الرئيس مرسي، توجّهت جموع غفيرة لم تشهد مصر لها مثيلاً من قبل(مليونية) إلى الشوارع والساحات تلبية لنداء المعارضة للاطاحة بحكومة مرسي، واستمرّت التظاهرات والاعتصامات في ميدان التحرير في القاهرة وفي العديد من محافظات مصر، ثلاثة أيام وواجهتها تظاهرات واعتصامات مضادّة في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة وكذلك العديد من المدن المصرية، وقبل هذا التاريخ سفكت دماء في مذبحة "طريق النصر" وحدثت صدامات مسلحة إلى أن حسم الجيش الأمر، حين أعلن عن اعتقال مرسي في 3 تموز (يوليو) 2013 وعزله وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا عدلي منصور رئيساً للجمهورية على نحو مؤقت، وطلب من الشعب الخروج لمبايعة خطواته تلك، وأوكل الرئيس الجديد مهمة تشكيل الوزارة إلى حازم البيبلاوي وعيّن نائباً له محمد البرادعي وشخصيات أخرى أيّدتها المعارضة، بل شعرت أن تدخّل الجيش جاء لصالحها وليضع حدّاً لطغيان الإخوان.

وعلى الرغم من أن قوى المعارضة بأجنحتها المعروفة العروبية واليسارية والليبرالية كانت بعد مرحلة التخلّص من الرئيس محمد حسني مبارك ضد استمرار الجيش في السلطة، بل أنها شكّكت بوجود المشير حسين طنطاوي وطموح الجيش للاستمرار في إدارة البلاد، لدرجة أن هناك من هتف ضد وجود العسكر، محذّراً من استمرار حكمه من العام 1952 ولغاية العام 2011، الاّ أن النظرة إلى الجيش لدى هذه الأوساط اختلفت بعد أن استعصي عليها أمر الإطاحة بمرسي أو اجباره على الاستقالة، علماً بأن تدخّل الجيش لإجبار الرئيس مبارك على التنحّي كان حاسماً، مثلما هو تدخل الجيش التونسي كان كذلك، مما اضطر الرئيس زين العابدين بن علي إلى الرحيل.

ومن المفارقة أن يكون من طالب بانسحاب العسكر من المسرح السياسي والعودة إلى الثكنات هو من قام بمناشدته للتدخل بأشكال مختلفة، للعودة للعب دور " المخلّص"، أو "المنقذ" وعندما بادر وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي بحسم الموضوع، استبشر التيار شبه العلماني، العروبي والليبرالي واليساري، خيراً بتدخل الجيش، وذلك في سابقة خطيرة، لا تُعرف أبعادها المستقبلية حتى الآن، خصوصاً وأن المجتمع الدولي لا يزال يترنّح بين التحفّظ على الانقلاب العسكري، وبين تأييد تنحية مرسي، وذلك بالدعوة بحذر إلى مشاركة الأخوان، وهو ما عبّرت عنه الممثلة الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي كاترين آشتون عند زيارتها لمصر ولقاءاتها مع القوى السياسية، وهو ما تدعو إليه الولايات المتحدة الأمريكية.

وبقدر ما تتعامل واشنطن مع الوضع الجديد، فإنها ظلّت تصرّ على مشاركة   الإخوان وإطلاق سراح مرسي، خصوصاً وإن علاقاتها معهم كانت قد تطوّرت خلال العام المنصرم، سواءً فيما يتعلق بعدم تغيير في الموقف من الصراع العربي- الإسرائيلي أو من طبيعة العلاقات المصرية- الأمريكية، وهما الأساسان اللذان تقيم عليهما واشنطن تقييماتها السياسية الاستراتيجية.

أما في الحالة التونسية فإن صعود حزب النهضة الإسلامي وتحالفه مع قوتين معتدلتين في إطار الوسط واليسار، جعل تونس أقرب إلى توافق حتى وإن بدى قلقاً وبطيئاً، خصوصاً وبعد مرور أكثر من سنتين ونصف لم تنجز صيغة مناسبة لكتابة دستور توافقي للبلاد، لكن هذا الجو الكثير الترقب والشديد الحذر والعالي التوتر مع دعوات متشددة من جانب أصوليين وسلفيين، انكسر عندما بدأ مسلسل الاغتيال، فخلال نحو عام قتل زعيمان سياسيان يساريان الأول شكري بلعيد والثاني محمد البراهيمي مما قد ينسف العملية السياسية أو يعاظم التحدّيات التي تقف أمامها، ويجعل فرصة التيار الإسلامي" حزب النهضة ومن يؤيده من الإسلاميين" في حكم البلاد محفوفة بالمخاطر، بل أن العملية  السياسية كلّها ستكون أمام تهديدات جدّية.

الحالة التونسية والحالة المصرية تطرح مقاربة جديدة لعلاقة الإسلام السياسي بالدولة، ومن ثم علاقة الدين بالديمقراطية في السياسة الشرق أوسطية، خصوصاً وأن تيار الإسلام السياسي يحكم إيران وتركيا والعراق والسودان والمغرب وتونس ومصر، ويقارب المسألة في الباكستان وأفغانستان مع تعقيداتهما، وله نفوذ واسع في ليبيا وحضوره مؤثر في الجزائر وموريتانيا، وله دور بارز في الأردن ووجوده قوي في اليمن، وبدأ دوره يكبر في الخليج، لا سيّما في الكويت، فضلاً عن البحرين حيث كان يشكّل نحو نصف برلمانها، وهو الذي يشارك في قيادة حركة الاحتجاج منذ سنتين ونيّف، كما أن له القيادة في نصف فلسطين (غزّة) ونصف لبنان فعلياً (حزب الله)، وفي سوريا يشكل ركناً أساسياً في أركان معارضة النظام ومن الحركة المسلحة، بل أن التيار الإسلامي امتدّ إلى تشاد ومالي، الأمر الذي أثار الانتباه إليه دولياً.

وإذا كان التيار الإسلامي بجميع ألوانه السني والشيعي، المعتدل والمتطرف، الوسطي والسلفي قد أخذ يلفت الانتباه إليه، كقوة مؤثرة، وقد دفعته الثورات إلى مواقع متقدمة، ولكن هذا الأمر سيكون اختباراً حقيقياً لمدى قدرته على التكيّف مع المتغيّرات أو عكس ذلك، بالسير خارج سياقاتها ومساراتها، وعندئذ فإن التجربة في نهاية المطاف، ستكون برهاناً على صحة أو خطأ الممارسة ووصول الآيديولوجيا إلى غاياتها عبر تكيّفها وبراغماتيتها أو أن طريقها  سيكون مسدوداً ووعراً وقاسياً.


الإسلام السياسي بين الماضي والحاضر!

إذا أردنا قراءة التيار الإسلامي الحركي، ممثلاً بعدد من التنظيمات الإسلامية الموزّعة والمنتشرة عربياً، لا سيّما في تونس ومصر، التي انطلقت منهما شرارة التغيير وفي عدد من البلدان الإسلامية، لا سيّما التي تقودها حركات إسلامية مثل تركيا وإيران، فإن هذه القراءة تحتاج إلى عودة إلى أرضية الفكر الإسلامي نفسه وفي سياق تفاعله مع الواقع الذي يتحرك فيه 3.

وبالطبع فإن لكل حركة إسلامية مشروعاً سياسياً، يستند أساساً إلى التاريخ، وهي كظاهرة قائمة، جزء من التاريخ العربي المعاصر، ولا يمكن لأية حركة ثورية إهمال الدين كظاهرة اجتماعية تاريخية متأصلة في مجتمعاتنا 4 وإحدى تجلياته لأنها تعبّر عن واقع اجتماعي، اقتصادي وثقافي في مرحلة سياسية معينة، لا سيّما وهي تستند إلى نص ديني "إلهي" في مقاربتها للظواهر الأخرى وفي تحليلها وتفسيرها وتأويلها، ضمن خطاب يستند في الكثير من حيثياته على شرعية ماضوية معترف بها، خصوصاً بربطها  بين العصبية والدعوة الدينية، وما بين الدين والسياسة، تلك التي وجدت تعبيراتها في صيغة الدولة العثمانية، خصوصاً علاقة الفقيه بالسلطان، وقد لعبت المؤسسة الدينية الرسمية دوراً وظيفياً مهماً لتأمين التوافق بين المجتمع والدين والسلطة في إطار تناسق آيديولوجي،حيث ساهم رجال الدين بشكل عام في مهادنة السلطان 5.

وبغضّ النظر عمّا لعبته المؤسسة الدينية في دعم الحاكم فقد ظهرت عدّة حركات إصلاحية في العالم العربي والإسلامي حملت مشروعاً إحيائياً لنهضة الأمة، لكنها جوبهت في الكثير من الأحيان من جانب المؤسسة الدينية التقليدية، سواءً من مركز الخلافة استانبول أو من فروعها في القاهرة ودمشق وغيرها. وظهرت الحركة الوهابية في المملكة العربية السعودية بقيادة محمد عبد الوهاب بهدف " الإحياء والإصلاح"، وفي المغرب العربي كانت ثورة ودعوة، لا سيّما بانطلاق الحركة السنوسية بقيادة محمد بن علي السنوسي. 

أما في السودان فكانت الحركة المهدية قد تبلورت باعتبارها دعوة ومقاومة، لا سيّما بقطع صلتها بالدولة العثمانية، لكن تلك الحركات جميعها ظلّت تدور في فلك الحركات التقليدية أو استقرت في إطارها أما الحركة الجذرية للتنوير فقد وجدت طريقها عبر مفكرين وفقهاء تأثروا بفكرة الدولة المدنية تلك التي بدأت في الغرب، وحاولوا الاستفادة مما وصل إليه الفكر القانوني والسياسي في العالم المتقدّم ليتمثلوا اتجاهاته الحديثة التي تبلورت بفكرة الدولة والمواطنة والحرية والمساواة. وجاءت المرحلة الجديدة للتفكير الإسلامي التي تمتد منذ القرن التاسع عشر إلى وقتنا الراهن، خصوصاً بعد اندلاع الثورات العربية وما رافقها من تغييرات جيوبوليتيكية.

إن الدول التي استندت شرعيتها على الدين سواءً "الدولة الثيوقراطية" ونموذجها دولة الحق الالهي أو الإكليروس أو دولة السلطان أو الدولة التي أطلق عليها الدكتور عبدالاله بلقزيز: "المتأدينة"6 فإنها جميعها تعكّزت على اكتساب شرعيتها من خلال علاقتها بالدين، ويمكن ذكر نموذج الدولة الصفوية التي قامت على "تواطؤ" بين "شرعيتين" إذا جاز لي القول، حيث كان من مصلحة الحاكم ومن مصلحة رجل الدين تقاسم السلطة، فالدولة حق مطلق للحاكم في إدارة شؤون الحكم التي يؤيدها رجال الدين دون أي تحفظ، وهي حق لرجال الدين بإضفاء نوع من القدسية على مقاماتهم وقبول تعاليمهم إزاء المحكومين في الدولة، الأمر الذي يمنحهم حقوقاً تتعلق بشؤون العبادات، وما يسمى بالحقوق الشرعية عند الشيعة.

هكذا حصل نوع من المساومة التي تمت بين السلطان ورجال الدين، فالسلطان يمنح الفقيه سلطات واسعة لإدارة العمل الأهلي ويضعه في مكانة مقدسة، مقابل منح الفقيه، الشاه، التأييد الكامل ودعم سياساته بلا حدود. وبموجب تلك الصفقة ارتسمت شكل علاقة جديدة بين السياسي والديني وبين الحاكم والمقدس، دون أي اعتبار لشروط المواطنة المعبّر عنها آنذاك" بالرعية". ولعل هذا النموذج يستحق الدراسة حسب تقديري، بغض النظر عن المدارس الفقهية المختلفة والاجتهادات المذهبية.

ولا بدّ من التوقف عند موضوع ولاية الفقيه بعد الثورة الإيرانية العام 1979 وعلاقته بما سمّي "مجلس تشخيص مصلحة النظام" ودور ما يسمى بالمرجعية الدينية في التحالف بين السياسي والديني، وإذا كانت فكرة ولاية الفقيه حدثية نسبياً، ولم تستقر في الفقه الشيعي، وهناك جدل بشأن ولاية الأمة وولاية الفقيه واختلاف وتباين بين الولاية الكبرى والولاية الصغرى، مع وجود اعتراضات ضدها، لكن هناك طبعات جديدة لها. 

فالطبعة الخمينية لولاية الفقيه ذهبت إلى ولاية الفقيه عبر السياسة، وهو ما قام به السيد الخميني عملياً، وهو ما شرحه مطوّلاً في كتابه "الحكومة الاسلامية" 7  الذي هو سلسلة محاضرات ألقاها في النجف في الستينيات من القرن الماضي واستندت إليها الثورة الإسلامية في السبعينيات وصدرت منذ العام 1979 عدّة طبعات من الكتاب الذي اعتبر مرجعاً يكاد يعلو على الدستور الإيراني، أو يشكل منطلقاً نظرياً له.

وقد أخذ الدستور الإيراني الإسلامي ذلك من روح رسالة  الخميني، وإنْ حاول إضفاء أشكال جديدة على تطبيقاتها، ومع ذلك ظلّ الفقيه الولي فوق القانون وفوق ارادة "الأمة" المعبّر عنها بالانتخابات، وصلاحياته تكاد تكون مطلقة. 

وفي حين يعتبر الخميني ولاية الفقيه دستورية، وليست مطلقة، بل مقيّدة بمجموعة الشروط والقواعد المبيّنة بالقرآن والسنّة، وحيث يقوم الولي الفقيه العادل والعالِم بتطبيق القانون الإلهي حين يتولى صلاحيات النبي وصلاحيات الأئمة المعصومين الإثني عشرية، من دون أن يتمتع بفضائلهم الشخصية.

وقد شرح السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية نظرية ولاية الفقيه في إيران وفكرة الحكومة الإسلامية في كتابه " الحكومة في الإسلام" حيث يقول: إن صلاحيات ولاية الفقيه دستورياً هي الإشراف والتدخل والتأثير في كل سلطات الدولة التنفيذية والقضائية والعسكرية والتشريعية، ولا يصبح الرئيس رئيساً حتى لو انتخبه الشعب ما لم يصادق عليه الإمام، أي تكون للفقيه العالِم الولاية العامة والمطلقة.8 

أما في الطبعة السيستانية 9 لولاية الفقيه، فهي غير معلنة، وربما هناك تحفظ " ما " من جانب المرجع " نظرياً" حول قبولها، لكن واقع الحال يعطي انطباعاً آخر، حتى وإن حاول السيستاني بعد الانتخابات العراقية الأولى 2005، أن ينأى بنفسه عنها 10 ، ولكن السياسيين ظلّوا يتوافدون عليه ليطلبوا مباركته على خطواتهم أو على نهجهم، حتى أصبح الأمر عُرفاً، ولم يعد السياسيون الشيعة يفعلونه فحسب، بل ذهبت إليه القيادات الأخرى في كل منعطف أو أزمة أو خلاف، وعلى الرغم من أنه نادراً ما كان يعطي رأياً صريحاً أو واضحاً، لكنه استمرأ هذا الأمر بصمت وهدوء، حين جاءت إليه ولاية الفقيه على طبق من ذهب، دون أن يبذل جهداً بالذهاب إليها.

وتطرح اليوم في العراق مسألة ما يسمى "حكم الفقهاء" في إطار مناقشات البرلمان لقانون المحكمة الاتحادية العليا، باقتراح منح أربعة فقهاء إسلاميين حق النقض " الفيتو" ضد أي قرار يعتبرونه لا يتطابق مع الشريعة الإسلامية، ولعلّ في ذلك سعي من أصحاب الاتجاه المتنفذ لقضم تدريجي لبقايا الدولة المدنية أو محاولة لتديينها، أو لمذهبتها.

مثل هذا الأمر سيجعل المحكمة الاتحادية العليا، باختصاصاتها الواسعة، عرضة لتحكّم فئة رجال الدين والقوى الدينية. أما خطورة المسألة ناجمة عن الدور المنوط بالمحكمة الاتحادية، فهي المختصة بالرقابة على دستورية القوانين وتفسير نصوص الدستور، والبت في التنازع بين القوانين الاتحادية، وكذلك البت في التنازع بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية، كما أن مهمتها هي البت في نزاع حكومات الأقاليم والمحافظات، ناهيكم عن البت في الاتهامات التي توجّه إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء. ومن جهة أخرى تصادق على نتائج الانتخابات وتفصل في النزاع بين القضاء الاتحادي وقضاء الأقاليم والمحافظات، وذلك بحسب المادة الرقم (93) من الدستور العراقي الدائم (النافذ)11.

وإذا كانت ثمة خشية لدى البعض على الإسلام، حيث راح يتشبث بموقع متميّز للفقهاء يمنحهم بموجبه حق الفيتو، فمثل هذه الخشية غير واردة، بل وغير واقعية. فالدولة شبه المدنية العراقية أو المصرية أو السورية أو التونسية، وبغض النظر عمّن يحكمها، لم تشرّع أي قانون يتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي يبدو أن التعكز عليه هو بمثابة شمّاعة بوجه أي قرار أو قانون لا يتوافق مع بعض المصالح الحزبية أو السياسية أو الطائفية الخاصة. وإذا كان البعض في العراق يحاجج بقانون رقم 188 بشأن الأحوال الشخصية وحقوق المرأة في العهد الجمهوري الأول (حكم عبد الكريم قاسم) الصادر عام 1959 أو بقانون الأسرة الذي شرّعه الحبيب بورقيبة في العام 1956 فإن المسألة خضعت للتفسير والتأويل أيضاً، ناهيكم عن محاولات التسييس والإغراض.

من حق المحكمة أن تستشير خبراء بصفة دائمة أو مؤقتة أو في حالات معينة، وعندها سيكون رأي الخبير ليس كرأي القاضي، وهذا الأخير هو صاحب القرار. وهكذا فإن رأي الخبير (في الفقه الإسلامي أو في القانون) سيكون غير ملزم حتى وإذا أخذنا بنص المادة 92 (من الدستور العراقي) التي اعتبرت المحكمة تتكون من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، وسنحاول تسليط الضوء على هذه المسألة عند حديثنا عن الدستور المصري الذي يحتاج إلى وقفة خاصة، خصوصاً وأن ما يجري في مصر يمكن أن ينعكس على العالم العربي بهذا الشكل أو ذاك، بحكم دورها وتاريخها ووزنها العربي والأفريقي والدولي، إضافة إلى ثقلها البشري والحضاري.

إن استقلال القضاء وفصل السلطات وتداولية السلطة سلمياً هو المدماك الأساس الذي لا غنى عنه للدولة العصرية، ولا يمكن تحت أي حجة أو ذريعة إعطاء رجال الدين سلطات فوق سلطات القضاء أو تعطيل سير عمله واختصاصه، لتكييفه مع رأي هذا الفقيه أو ذاك، مهما أوتي من علم ومقدرة ودراية وخبرة، سواء كانت باسم " تشخيص مصلحة النظام"  أو "ولاية الفقيه" أو "مجلس قيادة الثورة " أو " الشرعية الثورية"  أو غيرها، فالأمر ليس سوى التغوّل على دور  القضاء واستقلاله، فالقضاء هو أحد أهم أعمدة الدولة القانونية وحصنها الأمين، وستكون محاولة مثل تلك التي تريد اعطاء حق الفيتو للفقهاء مجاراة لفرض توجه سياسي أو مذهبي على مفاصل الدولة الأساسية، أقرب إلى اغتصابها من أي شيء آخر.

إن مثل هذا التوجّه إلى تديين الدولة، سواءً في العراق أو السودان أو مصر أو تونس  أو ليبيا أو اليمن أو حماس في غزة أو غيرها، سيجعل تناول موضوع التجارب الإسلامية، خصوصاً بعد الربيع العربي أمراً لا مناص منه، بل وضروري، بضمّه إلى تجارب إسلامية أخرى، وأعتقد أن علاقة الدين بالدولة، في عالمنا العربي والإسلامي ستطرح الإشكاليات التالية: مساواة المرأة بالرجل، وموضوع المواطنة والمساواة التامة، ومسألة المشاركة السياسية، والحق في تولّي الوظائف العليا وعدم التمييز، خصوصاً إزاء الجماعات الدينية والإثنية في الدول المتعددة الثقافات، وموقع المسيحيين بالذات سواء في مصر أو سوريا أو العراق أو حتى لبنان، فضلاًَ عن الموقف من الأكراد والتركمان والأمازيغ وغيرهم من الإثنيات أو الأديان، والموقف من قضايا التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية.

ومثل هذه القضايا لا تزال مطروحة أمام التجربة الإيرانية والتجربة التركية منذ سنوات طويلة، قومياً ودينياً وطائفياً، ففي إيران فإن الأمر له علاقة بالموقف من الأكراد الذين يزيد عددهم عن عشر ملايين إنسان والمجاميع الثقافية الأخرى مثل البهائية والمسيحيين، إضافة إلى السنّة، وفي تركيا فالمسألة تخصّ الأكراد الذي يؤلفون نحو 18 مليون إنسان وهم أغلبية رسمية في نحو 13 محافظة وكذلك مسألة العرب ولا سيّما في الاسكندرونة، إضافة إلى العلويين وغيرهم.

وستصطدم دول الربيع العربي بهذه الإشكاليات انطلاقاً من التناقض الحاد بين الفرقاء، إسلاميين أو علمانيين، بخصوص علاقة الدين بالدولة، ولا بدّ من حوار وطني عام وشامل بين المتدينين والحركات الدينية من جهة، وغير المتدينين والحركات شبه العلمانية من جهة أخرى، للتوصّل إلى ما هو مشترك، ولا سيّما بعد تحديد نوع الدولة المطلوبة وهويتها في إطار مرجعية تقوم عليها الدولة العصرية الدستورية ومبادئ سيادة القانون، وهو الأمر الذي لا بدّ من اعتماده في الدساتير الجديدة وصياغاتها الأساسية، كي لا تأتي وهي مملوءة بالألغام أو التناقضات التي قد تنفجر في أية لحظة.

وإذا كان الحديث عن إصلاح الخطاب الديني دارجاً، فلا بدّ من تناول موضوع تحرير الدين من رجال الدين، فالدين حاجة إنسانية ما دام البشر يعيشون قلقاً يتعلق بالمجهول، ولا سيّما عدم قدرتهم في فك لغز الحياة والموت والخلق والوجود وغير ذلك، فضلاً عما تمثله الأديان من قيم ومثل إنسانية، وهكذا فإن الدين حقيقة، في حين أن تفسير رجال الدين أو تأويلهم يختلف تبعاً لمصالحهم وثقافتهم ورؤيتهم وموقعهم بالقرب أو البعد من السلطة. أما الحديث عن استقلالية الدين عن الدولة، فهي لا تستهدف العداء للدين، الذي هو علاقة خاصة بين الإنسان والسماء، لكن المسألة تتعلق بدور رجال الدين وموقعهم في الدولة.12 

إن قضايا الإيمان والحرّية، ولا سيّما حرّية الاعتقاد، تواجه مجتمعاتنا اليوم على نحو واسع، سواء على مستوى التشريع أو المستوى المفاهيمي أو المستوى العملي، بما فيها تفسيرات المؤلين والمفسّرين، وهو ما يدخل في موضوع الكفر والتكفير وموضوع الردّة، الذي له علاقة بحق الاعتقاد، واستبداله، والموقف من أهل الذمة في الدولة المعاصرة، والموقف من حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وحقوق المرأة في الولاية، ولاسيما لرئاسة الدولة، والموقف من حقوق الجماعات الثقافية الدينية والإثنية، ولعلّي أفضل مصطلح " التنوّع الثقافي" على مصطلح الأقليات. وإذا كانت هذه المواضيع تشغلني فهي تشغل جمهوراً واسعاً، لأنها تتعلق بصلب الموقف من قضية علاقة الدين بالدولة.

في صلب التفكير الإسلامي

 أجد نفسي أقف على الأرضية نفسها التي حاول د. رضوان السيد الوقوف عليها عند مناقشته لعلاقة الدين بالدولة من خلال التفكير الإسلامي13 ، في التاريخ الإسلامي المعاصر، خصوصاً وأن الفكر النهضوي هو من يستحق أن يكون مقياساً للتفكير الإسلامي في الدولة الحديثة أو المعاصرة ومتطلباتها ومستلزماتها، وذلك أقرب إلى الفقه الإسلامي الاجتهادي، مقاربة بتطوّر مشروع الدولة على المستوى الكوني، مع أن التفكير الإسلامي لا يزال يترنح بين " حاكمية الله" و"حاكمية الأمة" على الرغم من تطور تفسيراته قياساً للخمسينيات  من القرن الماضي.

ومن المشروع النهضوي القائم على التحرر والحريات والمساواة والمشاركة والعدالة، نحاول أن نجلي بعض غبار الزمن عمّا حلّ بالعالم العربي والإسلامي من انكماش وركود وسبات، في رؤية انبعاثية جديدة، حيث لا مشروع نهضوياً من دون انبعاث حقيقي لبناء الدولة بمعناها العصري.

وعلى الرغم من أن عنوان ورقة رضوان السيد: "الدين والدولة في المنظور الإسلامي العصري"، لكنه حاول تجاوزه حين خصص مبحثه الأساسي للتفكير الإسلامي في الدولة منذ القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مشارف الثورات العربية، حيث قسّمه إلى مراحل أربع أعتبرها محطات في إطار تكوّن فهم جديد لنظرية الدولة، بل هي أقرب إلى ارهاصات للوصول إلى الفهم العصري لما استقرّ عليه الفقه الدستوري المعاصر، وما تراكم من معرفة على هذا الصعيد، هي 14: 

المرحلة الأولى مرحلة رفاعه الطهطاوي 1801-1873، وكتابه الشهير "تلخيص الأبريز في تلخيص باريز" 15 ، وخير الدين التونسي وكتابه الشهير " أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك".16 وإذا كان الأول قد ركّز على المصالح العمومية، فإن الثاني ركّز على المؤسسات.

أما المرحلة الثانية فهي تمتد من محمد عبده (مفتي مصر) الذي تحدّث عن الإصلاح وفكرة السّنن البانية أو الهادمة، ومجابهة التقليد بفتح باب الاجتهاد، وذلك استناداً إلى القرآن الكريم، وصولاً إلى علي عبد الرازق وكتابه الذي ذاع صيته وجرت محاولات لتكفيره بسببه وهو "الإسلام وأصول الحكم" 17 الصادر في فترة قريبة من تأسيس حركة  الإخوان المسلمين في العام 1928 في مقاربة مع فكرة الدولة الحديثة ومؤسساتها.

وكانت المرحلة الثالثة مرحلة محمد رشيد رضا صاحب "مجلة المنار"، ولعلّ من المفيد هنا التوقف عند الشيخ محمد حسين النائيني وكتابه "تنبيه الأمة وتنزيه الملّة"،18  وصدر في فترة لصيقة بما حصل من تأثّر بالفكر الغربي تحت باب الصراع بين "المشروطة" و"المستبدّة"، العام 1906 أي بين الحركة الدستورية، وبين الملكية المطلقة، وهي الحركة التي انقسم فيها رجال الدين في إيران والعراق بين مؤيد للفريق الأول ومندّد بالفريق الثاني والعكس صحيح. ولعلّ الجدل ازداد احتداماً بعد الحركة الدستورية في تركيا العام 1908 وصدور الدستور المتأثر بعدد من القواعد الدستورية التي وجدت طريقها إلى الفضاء العام في الغرب.

 أما المرحلة الرابعة فتبدأ من مطلع الخمسينيات، وتستمر إلى قيام الثورات العربية ووصول الإسلام السياسي إلى مقاليد السلطة عبر صندوق الاقتراع.

وكان حسن البنّا هو من قال: الإسلام دين ودنيا ومصحف وسيف 19 ، وعلى خطاه قال سيد قطب: "الدين في الدولة هو حكم في الأرض" 20  وذلك في كتابه " معالم في الطريق". وإذا صحّ هذا القول على مصر، فأظنّه لا ينطبق على بلدان أخرى الاّ إذا اعتبرنا الثمانينيات تأسيساً جديداً لانبعاث تيار إسلامي واسع بعد الثورة الإيرانية، العام 1979، لا سيّما في العراق ولبنان وفلسطين والخليج، وكذلك في المغرب العربي، وهو انبعاث عالمي وليس محلي، كما أنه لا يتعلّق بالإسلام السياسي فحسب بل كان جزءًا من ظاهرة كونية، حيث انتعش لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وكان للكنيسة دور بارز في ذلك، وكذلك تعاظم نفوذ حركات مسيحية في أوروبا، فضلاً عن حركات دينية ومذهبية في أفريقيا وآسيا، بعضها شهد حروباً ونزاعات وأعمال عنف.

التيار الإسلامي اليوم، بحكم المستجدات والمتغيّرات على المستوى العالمي، يحاول تكييف أفكاره لتقبّل الديمقراطية ويعتبرها آليات أو ميكانيزمات، وبعضهم  يعتبرها تاكتيكات يمكن الوصول بواسطتها إلى السلطة، أي عدم الإيمان بفكرة التداولية والانتقال السلمي للسلطة وبفلسفة الديمقراطية كمنهج للحكم.

وقد كان رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي في طليعة المفكرين التنويرين العرب ضد الاستبداد والحكم المطلق، مثلما اعتقد عبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا أن سبب تأخّر الأمة هو الاستبداد ورأيا أن الحل يكمن في سنّ دستور يحدد صلاحيات الحاكم ويشترك فيه الشعب، في حين كان رأي الشيخ حسين النائيني أكثر وضوحاً بتعبيره عن الديمقراطية باعتبارها النقيض للاستبداد، واضعاً الشورى رديفاً للديمقراطية 21.

ويرى النائيني أن الإستبداد يقوم على شعبتين: الاولى من السلطان (سياساته التحكيمية) والعبودية هنا تستند الى القهر والغلبة، والثانية خضوع رؤساء المذاهب والملل له والعبودية هنا تستند إلى الخدعة والتدليس.

ولكن تلك الحركة التنويرية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خصوصاً بصدور كتاب علي عبد الرزاق " أصول الحكم" العام 1925 لم توازيها أو تتواصل معها الحركة الإسلامية الإخوانية أو غيرها من الحركات السياسية الدينية سواء السنّية أو الشيعية، تلك التي اعتبرت الأنظمة القائمة فاسدة وكافرة في حين هي تدعو إلى إقامة حاكمية الله، وقد رفض حسن البنا على الرغم من دفاعه عن الدستور والتمثيلية النيابية فكرة الديمقراطية، ومثله فعل أبو الأعلى المودوي المفكر الباكستاني في حين أن المفكر التونسي راشد الغنوشي إنحاز إلى الديمقراطية باعتبارها تقدّم آليات فضلى لجهاز الحكم ويمكن للمواطنين استخدامها في ممارسة الحريات الأساسية، لا سيّما السياسية، وبذلك يربط الديمقراطية مضموناً بالشكل أيضاً، وهو ما ذهب إليه حسن الترابي، لكن الكثير من الأطروحات النظرية سرعان ما خفت بريقها من خلال تطبيقات سعت للهيمنة والاستقواء تحت باب الأغلبية والفوز في الانتخابات، سواءً في مصر أو في تونس أو في العراق أو في الجزائر أو السودان أو غيرها.

إن علم سسيولوجيا المعرفة الديني، ولا سيّما للفقه الديني الإسلامي بشقيه السني والشيعي شيء، أما الواقع العملي، خصوصاً بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة فهو شيء آخر، وهي التجربة ذاتها التي عرفتها الأحزاب الشمولية، مهما ادّعت أنها تريد التساوق مع الديمقراطية والدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم، لكنّها كلها جميعاً اتّجهت إلى الاستبدادية والدكتاتورية والفردية، سواء الأنظمة الاشتراكية السابقة أو طبعتها لما سمي "بلدان التحرر الوطني". وحتى لو حقّقت بعض النجاحات وشيئاً من التنمية، لكنها بعد حين وصلت إلى طريق مسدود، سواءً بلدان الأصل أو بلدان الفرع (مثلها مثل التجربة الناصرية والبومدينية واليمن الجنوبية والقذافية والبعثية العراقية والسورية) وغيرها.

وحتى لو حصل اليوم بعض التطور في مستوى تفكير بعض المفكّرين الإسلاميين ونظرتهم  إلى الآخر وإقرارهم بالتعددية والتنوّع الثقافي، مثل محمد مهدي شمس الدين الذي تحدث عن "ولاية الأمة" وسليم العوا وطارق البشري ومحمد حسين فضل الله وراشد الغنوشي، إلاّ أن الحزبية الحركية ظلّت هي المؤثرة في السواد الأعظم من الإسلاميين ولا تزال هذه الحركية سواء  الإخوان في مصر أو النهضة في تونس أو حزب الدعوة في العراق أو حماس في غزة أو لنقل بعض أطرافها تنظر إلى بعض ما جرى مجرد جسر للوصول للسلطة ليس الاّ، حتى وإن اضطرّ إلى تقديم تنازلات وتعامل بشكل براغماتي مع الواقع، بل وخفّض بعض مطالبه، وتجربتي مصر وتونس مثالين مثيرين للجدل والنقاش، الذي بدأ ولم ينقطع حول حدود قبولهما بالآخر، والسعي للوصول إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع، والقفز على الفكرة الديمقراطية بمحاولة أسلمة أو أخونة أو نهوضة الدولة، مثلما هي تجربة الجزائر حين فاز الإسلاميون بالانتخابات، ولكنهم حاولوا الانقلاب على الديمقراطية. 

حسبي هنا أن أذكر تجربتين أخريتين ناجزتين هما: التجربة السودانية والتجربة الإيرانية، وإلى حدود معينة التجربة العراقية، وبقدر أو آخر تجربة حماس وتجربة الجهاد وتجربة حزب الله، فهذه القوى وإن كان موقفها إيجابياً ورافضاً للصهيونية وضد العدوان الإسرائيلي، الاّ أنها لا ترتضي أن يشاركها أحد، ولاسيّما في المناطق التي تحكم سيطرتها عليها وتفرض منهجها السياسي فيها، سواء اعتبرتها جزءًا من الشريعة أو استندت في ذلك إلى قراءة خاصة أو جزء من قانون أو غير ذلك من الاعتبارات الأمنية، لكنها ستحمل معنى الإكراه أرادت ذلك أو لم ترد، وذلك بفرض  نمط الحياة الاجتماعية وشكل الحرية الشخصية التي تعتقد أنها الأنسب، في حين أن مسار التجربة التركية كان أكثر نعومة، لا سيّما وقد جاء حزب العدالة والتنمية بعد نحو ثمانية عقود من الإقرار بعلمانية الدولة دستورياً، ومع ذلك فقد حاول قضم بعض المواقع، وإجراء بعد التعديلات الدستورية لضمان إمكانية عودته إلى حكم البلاد. ولم يترك حتى الجيش الذين يحظى بمكانة كبيرة ومؤثرة في مسيرة تركيا من بعض تدخلاته تحت باب وجود مؤامرة تحاك ضد الإسلاميين ومنها غذّت المطامع التركية بالتمدد الخارجي، للعب دور إقليمي، سواء في دول الربيع الرعبي أو إزاء الصراع العربي – الإسرائيلي أو في العراق أو غيره. 

وإذا كان القانون وضعياً ومصادره متنوّعة دينية وفلسفية وسياسية، فهذه كلّها مصادر قيمية، في حين أن له جانباً إجرائياً، أي قواعد ناظمة ومحددة للسلوك وضعها برلمان عبر انتخابات حرّة ونزيهة وبموجب قضاء مستقل، أي هناك ضمانات حقوقية للقانون الوضعي، في حين أن الدين يمرّ عبر فضاءات الإيمان وهي علاقة خاصة بين الإنسان والسماء، أما الحياة العامة والدولة أو السلطة والسياسة، فتختلف كثيراً، خصوصاً بالموقف من الحقوق والحريات، وهي المنظومة الدستورية التي تعرفها الدولة العصرية. 22 

إن سسيولوجيا المعرفة للتفكير الإسلامي تحتاج اليوم، وبعد الثورات العربية، إلى اختبار حقيقي وتدقيق لمدى التزام الإسلاميين بها قبل غيرهم، وأظن أن المرحلة القادمة ستشهد صراعاً ليس بين الإسلاميين والعلمانيين فحسب، بل بين إسلاميين معتدلين وإسلاميين متطرفين ومتعصبين، وهو ما ظهر في تونس ومصر إلى حدود غير قليلة وكذلك في إيران بين إصلاحيين ومحافظين  في حين أن في تركيا لا يزال صراعاً أساسياً بعد الإسلاميين والعلمانيين، وقد يتطوّر الصراع الإسلامي- الإسلامي في العالم العربي إلى قبول فريق منهم بالدولة المدنية، مثلما هو في تركيا، وفريق آخر يواصل مشواره الماضوي، بل يرتّد على الحاضر، بحجة الأصول، وسيكون ثمن هذا الصدام باهظاً. 

الدستور المصري: نموذج جاذب أم طارد؟

أفرد هذه القفرة لمناقشة الدستور المصري وإشكالياته لما له من تأثير على مجمل الحركة الإسلامية العربية والشرق أوسطية  فقد ظلّت الأنظار تتطلّع إلى مصر بعد موجة التغيير التي شهدتها العديد من البلدان العربية، ابتداءً من تونس، وذلك لما تمثّله من ثقل وتأثير كبيرين على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، ناهيكم عن دورها الحضاري والثقافي الإبداعي، لا سيّما وهي تمتلك طاقات بشرية وقدرات علمية كبيرة، فضلاً عن موقعها الجيوبوليتيكي ومساحتها وعدد سكانها.

ولهذا كان ولا يزال العالم العربي وغيره مشدوداً إلى مصر ومستقبلها، خصوصاً في ظلّ الصراع القائم بين الإسلاميين ( الإخوان المسلمون والسلفيون وغيرهم) الذين فازوا بالأغلبية في البرلمان، وبين شبه العلمانيين (اليساريون والعروبيون والليبراليون وغيرهم) حيث كان للطرفين أحلاماً سياسية مؤتلفة، بالتخلص من النظام السابق، وأخرى مختلفة في مشروعين فكريين متعارضين.

بعد نجاح الثورة، كان الفريق الأول "الإسلامي" يسعى لقيام دولة دينية محكومة بالشريعة، على الرغم من التطمينات التي حاول تقديمها للآخرين، مبرّراً ما تعرّض له من تحريم وتجريم لعقود من السنين تارة، وتارة أخرى لكونه أغلبية في مجلس الشعب، في حين كان الفريق الثاني "العلماني" أو "دعاة الدولة المدنية"، يأمل في ترسيخ كيانية الدولة وتعزيز طابعها المدني  من خلال حكم القانون والمساواة والتعددية وإقرار مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، وهو ما افتقده في ظل النظام الشمولي، لاسيّما في عهد محمد حسني مبارك الذي دام 30 عاماً، كما افتقد إليه أيضاً الإسلاميون. 

كلا التيارين اصطدما بصخرة الواقع، الأمر الذي أبقى صرح الدولة المنشودة "منزلة بين المنزلتين"، فلا هي دولة مدنية كما أراد العلمانيون، ولا هي دولة دينية ، كما أرادها  الإخوان والسلفيون، ولهذا يحتدم الجدل على نحو شديد في المرحلة الانتقالية، خصوصاً وقد حقّق الفريقان ومن موقعين متعارضين خطوات تنسجم مع اتجاه كل منهما، وفشلاً أو تراجعاً في خطوات أخرى في الوقت نفسه.

وإذا كان وجود جمعية تأسيسية اختارها مجلس الشعب المنتخب، مؤلفة من 100 عضو لصياغة الدستور أمراً حميداً، لكن إصرار الإسلاميين على التمتع بأغلبية أعضائها أضعف من جديتها ومن قدرتها على إحداث نوع من التوافق، بل صعّد من لهجة الشك والارتياب، وزاد الأمر إلتباساً وإشكالاً، اعتماد دستور العام 1971 كخلفية للدستور الجديد، وهو الأمر الذي تجاوزه الدستور العراقي على الرغم من أن إعداده كان في ظلّ الاحتلال، فضلاً عن الألغام الكثيرة التي احتواها، لكنه أطاح بدستور العام 1970 المؤقت الذي حكم العراق لغاية العام 2003، مثلما فعل المجلس التأسيسي التونسي، الذي نحّى دستور العام 1959 جانباً.

وهكذا دبّ الخلاف بين الاتجاهين، ففي حين رأت القوى غير الإسلامية في الجمعية التأسيسية، أن الأغلبية النيابية في مجلس الشعب مؤقتة، وينبغي اختيار جمعية تأسيسية متوازنة تمثل التيارات المصرية المتنوّعة، بغضّ النظر عن حجمها وعددها في البرلمان أو خارجه، أصرّت الجماعة الإسلامية على " أغلبيتها" فيها.

وعندما شعرت الجماعة شبه العلمانية، أن الدستور الذي يريده الإسلاميون سيمرّ على الرغم من البحث المضني لبضعة شهور، قرّرت الانسحاب لترك الإسلاميين يواجهون الموقف لوحدهم، وذلك بإعلان التنصّل عن دستور لا ترتضيه، حتى وإن ساهمت في إعداد مواده الأساسية. 

ولعلّ الجماعة شبه العلمانية أو غير الدينية ظنّت أن الإسلاميين قد لا يكملوا المشوار، وإن واصلوا ذلك، فهم وحدهم من سيتحمّل مسؤولية دستور لم يحظ " بالشرعية الشعبية" أو "التوافقية" الديمقراطية القائمة على التعدّدية والتنوّع، لكن الإسلاميين صمموا على استكمال المهمّة بانجاز الدستور لوحدهم ومن معهم، وعرضوه على الاستفتاء في أواخر العام 2012.

صحيح أن نسبة التصويت (الإقبال) لم تصل إلى الثلث من عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت، وإن نسبة ما حصلوا عليه هو 63.8 من عدد المصوتين، لكن الدستور أصبح نافذاً بعد الاستفتاء.

لقد وقعت الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور عند تشكيلها في خطأ أول عندما وافقت على قبول دستور العام 1971 قاعدة للنقاش والانطلاق، بما فيه تكييف بعض مواده، وهو دستور كما هو معروف تمت صياغته مثل غيره من الدساتير المصرية هيئات غير منتخبة، ونشأ في ظروف ملتبسة، فمثلاً تم وضع دستور العام 1923 في ظل الاحتلال والانتداب البريطاني لمصر.

أما الاعلان الدستوري ما بعد ثورة يوليو (تموز) العام 1952، فقد صدر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1952، وتلاه إعلان دستوري ثاني صدر في 10 شباط (فبراير) 1953 واستمرّ لغاية العام 1956، حيث صدر اعلان دستوري جديد في 16 كانون الثاني (يناير) 1956، استمرّ حتى اعلان الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة، حيث أعلن دستور الوحدة في آذار (مارس) 1958، ولعلّ هذه الاعلانات بما فيها دستور الوحدة نشأت في رحم الاستبداد وسياسة احتكار العمل السياسي، وصاغها فريق معيّن فوقياً وغير منتخب. 

وكأن خطأها الثاني هو الموافقة على الإعلان الدستوري الصادر في آذار (مارس) 2011 من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك حين تمّ تحديد فترة زمنية (أمدها ستة أشهر) لصياغة الدستور، وهو أمرٌ في غاية الصعوبة في ظل التحدّيات التي تواجه مصر وتجاذباتها السياسية، وكان على الرئيس محمد مرسي إلغاءه، خصوصاً وأن المهلة تلك تشبه المهلة التي حدّدها الرئيس بوش الابن لصياغة الدستور العراقي الدائم.

وعندما توتّر الموقف في مصر وشعر المرشحون لصياغة الدستور من غير الإسلاميين، أن غلبة ستحدث في نهاية المطاف خارج نطاق التوافق، لجأوا إلى الانسحاب من الجمعية التأسيسية لكي لا يبصموا على "شرعية" اعترضوا عليها، خصوصاً إذا بقيت الجمعية التأسيسية تمثّل لوناً واحداً، الأمر الذي سيضعف من شرعية المرحلة التوافقية، أو ما يطلق عليه " الديمقراطية التوافقية" 23.