Skip to main content

بماذا عالج الامام السجاد مشكلة الامة؟

 

   لماذا ارتكبت الامة جريمتها المروعة في العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة، بقتلها سبط رسول الله (ص) وسيد شباب اهل الجنة الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام؟ ما الذي حصل لتشهد الارض، وقتها، مثل هذه الجريمة البشعة؟ وماذا حدث في الامة لترتكبها؟ وما الذي حصل على مستوى السلطة ليأمر الطاغية يزيد بن معاوية حفيد آكلة الاكباد، ازلامه وزبانيته ليرتكبوا هذه الجريمة بحق العترة الطاهرة؟.

   اذا تصفحنا سيرة الامام علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب السجاد زين العابدين (ع) والذي تصادف ذكرى استشهاده في 25 محرم الحرام، وما تميزت به عن غيرها من سير ائمة اهل البيت عليهم السلام، فسنجد الجواب واضحا لا لبس فيه.

   انه عليه السلام اهتم بامرين في غاية الاهمية، الاول: هو الدعاء، والثاني: هو رسم وتحديد معالم الحقوق.

   هذا يعني ان الامة التي:

   الف؛ تنسى الله تعالى وتبتعد عن السماء.

   باء؛ تتجاوز الحقوق والحدود والقوانين.

   ان مثل هذه الامة سترتكب افضح الجرائم وابشعها، وهذا ما حصل في يوم عاشوراء، فالامة وقتها {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فتجاوزوا على الحقوق والحدود والقوانين، ما اعمى بصرهم وبصيرتهم ليقدموا على جريمتهم النكراء في يوم عاشوراء.

   ولان الامام السجاد (ع) عاش المرحلة بكل تفاصيلها، ولذلك كان واعيا جدا ودقيقا في تحديد عمق المشكلة التي كانت تعيشها الامة آنئذ، ولهذا السبب حاول جاهدا:

   اولا: اعادة الامة الى ربها من خلال الدعاء الذي يصفه المعصوم بانه الحبل الممتد من الارض الى السماء، والذي يوازي القرآن الكريم، وهو الحبل الممتد من السماء الى الارض، فبالدعاء يناجي العبد ربه ويعود اليه، وبه يستعيد توازنه الاخلاقي والاجتماعي والديني من خلال الاعتراف له عز وجل بالخطا والاثم، ما يساعد الانسان في اعادة النظر في سلوكياته، وتاليا يساعده في تحسين ادائه من جديد.

   الثاني: توعية الانسان الفرد والانسان المجتمع بحقوقه وتعليمه كيف يتصرف بها من خلال تعليمه بداياتها ونهاياتها، فيتعلم كيف يحمي حقوقه وحقوق غيره، ويدافع عن حقوقه الشخصية وعن حقوق الامة.

   والحقوق كما نعرف هي الحدود والقوانين التي ترسم نوع العلاقة بين الناس في المجتمع الواحد، من جانب، وبين الراعي والرعية من جانب آخر، وقبل كل ذلك بين العبد وربه، فاذا نسيها المجتمع، اي مجتمع، فستعم الفوضى فيه وتطغى على علاقاته قوانين الغاب، ولذلك فعندما نسيت الامة في عهد الامام الحسين (ع) حقوقها وحدودها وقوانينها، نزا على السلطة راع احمق وقاتل النفس المحترمة وشارب للخمر ومعلن بالفسق والفجور مثل الطاغية يزيد بن معاوية، وعندما تجاوز الناس بعضهم على حقوق البعض الاخر، اطاعوا الطاغية يزيد الذي قادهم الى قتل سبط رسول الله (ص) وهو يردد ابيات ابن الزبعرى:

لعبت هاشم بالملك فلا      خبر جاء ولا وحي نزل

   وعندما تستمر الامة ترتكب ابشع الجرائم باسم الدين وباسم رسول الله (ص) وباسم الله تعالى، فان ذلك يشير الى ابتعادها عن الله تعالى من جانب، وعن جهلها بالحقوق والحدود والقوانين التي يجب ان تحكم علاقاتها مع بعضها من جانب آخر، والا ماذا يعني ان يقتل الانسان في بلاد المسلمين على الهوية والانتماء المذهبي؟ وماذا يعني ان يصدق الارهابي، وباسم الدين، انه اذا قتل عشرة من الشيعة فسينال الشهادة فورا والتي تؤهله لحضور مادبة عشاء مع رسول الله (ص) في جنان الخلد؟ وماذا يعني ان تغسل فتاوى التكفير التي تصدر من علماء السوء القابعين في بلاط اسرة آل سعود الفاسدة الحاكمة في الجزيرة العربية، ادمغة الشباب، وفي القرن الواحد والعشرين، ليتجمعوا في العراق مثلا او في سوريا ليقتلوا الابرياء ويدمروا البلاد وخيراتها بحجة الجهاد وبذرائع المقاومة؟ في الوقت الذي يفترض فيه ان نرى مثل هؤلاء الشباب يملأون المدارس والجامعات لينافسوا زملاءهم في الدراسة وطلب العلم والتطور المدني؟.

   لقد ورثنا من الامام السجاد (ع) سفرا عظيما من نصوص الدعاء وفي مختلف المجالات الحياتية، بما يرسم لنا معالم حياة حرة وكريمة، فهي لم تقتصر على الجانب الروحي فقط، وانما شملت كذلك جوانب الاخلاق والاجتماع والاقتصاد والعلوم الحياتية والادب والمعارف الالهية والفسلفة والتوحيد والعدل والمعاد والنبوة والامامة وكل شيء، ما يثير الاعجاب حقا عند العدو قبل الصديق، وذلك في اشارة الى عظمة شخصية الامام الذي ارتعدت من خطابه فرائص الطاغية يزيد، فمنعه من صعود المنبر ليخطب في الناس لولا الضغط الهائل الذي مارسه عليه الحاضرون ما اجبره على ان يأذن له، فكانت خطبته العصماء التالية التي هزت مجلس الطاغية المنتصر عسكريا والمنهزم معنويا:

   قال عليه السلام، مخاطبا الحضور في مجلس الطاغية يزيد في قصر الامارة في الشام:

   أيها الناس: أعطينا ستا و فضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم و السماحة و الفصاحة و الشجاعة و المحبة في قلوب المؤمنين‏، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا أسد اللَّه وأسد رسوله ومنا فاطمة الزهراء ومنا سبطا هذه الأمة ومنا مهديها، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

   أيها الناس أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من ‏بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه‏ الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن ‏من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا اللَّه، أنا ابن من ضرب بين ‏يدي رسول اللَّه بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع‏ البيعتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر باللَّه طرفة عين أنا ابن صالح‏ المؤمنين ووارث النبيين وقامع الملحدين  ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وزين العابدين وتاج البكاءين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرئيل المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأول من أجاب واستجاب للَّه ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي اللَّه على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين اللَّه وولي أمر اللَّه وبستان حكمة اللَّه وعيبة علمه‏، سمح سخي بهي بهلول زكي أبطحي رضي مقدام همام صابر صوام‏ مهذب قوام قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب، أربطهم عنانا و أثبتهم‏ جنانا وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في‏الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى و يذروهم‏ فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق، مكي مدني خيفي‏ عقبي بدري أحدي شجري مهاجري، من العرب سيدها ومن الوغى‏ ليثها وارث المشعرين وأبو السبطين الحسن والحسين ذاك جدي‏علي بن أبي طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء أنا ابن سيدة النساء.

   فلم‏ يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد، لعنه‏ اللَّه، أن يكون فتنة فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام فلما قال المؤذن: اللَّه‏ أكبر اللَّه أكبر، قال الامام: لا شي‏ء أكبر من اللَّه، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه‏، قال الامام: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي، فلما قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول اللَّه، التفت الامام من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ولؤمت، وإن زعمت أنه جدي، فلم قتلت عترته؟.

   اما سفره الموسوم برسالة الحقوق، فحدث عنها ولا حرج، فلقد فصل فيها الامام (ع) الحقوق على المستوى الفردي والاجتماعي، وعلى مستوى العلاقة بين العبد وخالقه، والراعي ورعيته، ولم يغفل عليه السلام حقوق المجتمع بكل الوانه وانتماءاته وخلفياته الدينية والمذهبية والاثنية وغيرها، على اعتبار ان الوطن خيمة كبيرة وواسعة يستظل بظلها كل المواطنين من دون استثناء او تمييز، فقال عليه السلام:

   واما حق اهل الذمة، فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده وتكلهم اليه فيما طلبوا من انفسهم واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله حائل، فانه بلغنا انه قال: من ظلم معاهدا كنت خصمه، فاتق الله، ولا قوة الا بالله.

   فلو ان الامة التزمت بهذه الحقوق والحدود والقوانين لما ظلم مواطن، ولما استبيحت كرامة، ولما ضاع طفل، ولما خيم الجهل والتخلف والامية على سماء البلاد، ولما انتشر الفساد المالي والاداري، ولما قتلت المحاصصة طاقات الناس الخلاقة، ولما بخس مواطن حقه في التعليم والعمل وتبوء المكان المناسب من قبل الرجل المناسب، ولما شهدنا كل هذا التقاتل بين ابناء البلد الواحد، ولما خيم التمييز الطائفي والاثني.

   ان حال اي مجتمع لا يستقيم الا بالقانون، فاذا غاب عن الواقع وضيعه الطاغوت، سادت الفوضى فيه، وفي هذه الحالة ينبغي على المجتمع ان يراعي حقوقه بنفسه، فلا يظلم احد احدا، ولا يتجاوز احد على حقوق احد، افلا يكفي ظلم السلطة للمجتمع ليظلم المجتمع بعضه بعضا؟ فيتضاعف الظلم ويتورط الناس بما تورط به الحاكم الجائر، فيعم الفساد السلطة والمجتمع، وتسحق الحقوق والحدود والقوانين من قبل السلطة والمجتمع؟ فان ذلك ما يضاعف من المشكلة ويعقد الحلول.

   تعالوا، اذن، نتعلم حقوقنا، الشخصية منها والاجتماعية، من اجل:

   1ـ ان نلتزم حدودنا فلا نعتدي على احد ولا نتجاوز على حقوق الاخرين.

   2ـ ان نطالب بها ونسعى للتمتع بها، فاذا كانت عند السلطة نطالبها بالوفاء بها وتحقيقها، واذا كانت عند المجتمع، فنعظه ليمنحنا اياها، واذا كانت عندي لغيري اقدمها عن طيب خاطر فلا اتزمت بما يخصني من حقوق واتجاهل او اتماهل بها اذا كانت عندي لغيري.

   3ـ ان نتواصى باقامة الحقوق، فنفضح السلطة اذا تجاوزت على حق احد، ونكشف عن حقيقة مواطن اذا ما ظلم مواطن آخر، فالمجتمع الذي لا يتواصى بالحقوق، تغيب عنه الرحمة والرافة، فما بالك برحمة الله تعالى الذي يقول في محكم كتابه الكريم {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} وقوله {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

   لقد وصف الامام امير المؤمنين عليه السلام الحقوق بقوله في خطبة له بصفين:

   أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ.   

   23 تشرين الثاني 2013

 NHAIDAR@HOTMAIL.COM