Skip to main content

بناء الشباب ضمانة المستقبل

(1)

   في حديثين منفصلين مع أعضاء اللجنة التأسيسيّة لمنظمة (رؤية) ومجموعة شبابية ناشطة في كربلاء المقدسة، حدّدتُ مجموعة من الأسس التي تساهم في بناء جيل الشباب بما يضمن تصديهم وتفاعلهم مع الساحة من اجل بناء مستقبل افضل للعراق، بعد ان دمره نظام الطاغية الذليل صدام حسين، وزاد فيه فترة الاحتلال الأجنبي الذي تسببت به سياساته الرعناء التي قامت على أساس جنون السلطة والعدوانية وتوظيف القوة لفرض الامر الواقع داخل العراق ومع الجيران والمجتمع الدولي، ليزيد الإرهابيون واللصوص والساسة الفاسدون من عديمي الغيرة والروح الوطنية والخبرة والتجربة، الطين بلة.

   أقول: 

   إن الشباب هم عماد التغيير والنهوض في كل المجتمعات، لما يتمتع به من قدرة على استيعاب التجديد والتفاعل مع العصرنة والتعايش مع المتغيرات، وإمكانيات ذهنية واسعة، وشجاعة وجَلَد، ما يؤهله لضمان مستقبل افضل.

   لذلك، فان للشباب في الغرب كل الفرص ليتعلم ويبحث ويشترك في الشأن العام ويعمل ويتطور، اما في البلدان المتخلفة، ومنها العراق اليوم، فان الشباب هو الشريحة الضائعة، ففرص التعليم والتطور والبحث والعمل والمشاركة في الشأن العام وفرص السلامة البدنية والعقلية مغلقة أمامه بشكل مهول، الا من عصم الله تعالى، ولذلك فان دورهم في تحقيق عملية التنمية والنهوض والتغيير لضمان المستقبل معدوم تقريبا.

   لذلك، ينبغي على الشباب، اولا، انتزاع الدور انتزاعا، من خلال الاعتماد على النفس في خلق الفرص وبمختلف أشكالها.

   صحيح انه لأمر صعب وصعب للغاية ولكنه، ربما، الطريق الوحيد للوصول الى القمة، ولقد مرّ جيلنا بمثل هذا التحدي، فعندما كنا في مرحلة الشباب كان النظام البوليسي الشمولي قد رسم لنا طريقا واحدا علينا ان نسلكه، او الموت، ولأننا لم نشأ ان نسلك طريق النظام، كما اننا لم نكن نريد الموت، فلقد خلق الله تعالى عباده ليترك الواحد منهم بصمته في هذه الحياة، بإنجاز او عمل حسن او فعل مميز او ما أشبه، لذلك كان علينا ان نعتمد على انفسنا في بناء الذات، بما يؤهلنا لأداء الدور المطلوب منا.

   وبالفعل فقد حقق الشباب آنذاك الكثير، فمنهم من ابدع في مجال الكتابة والاعلام ومنهم من ابدع في مجال الأدب والفن، بل وان منهم من جد واجتهد ليكون، فيما بعد، فقيها او مرجعا او باحثا ومحققا، او قائدا رساليا وحركيا.

   ان ما يؤسف له، هو انه وبعد مرور عقد من الزمن على التغيير، يجد الشباب نفسه، مرة اخرى، امام تحدي الاعتماد على الذات في انتزاع الدور، فيما كان ينتظر من الدولة العراقية الجديدة، وبمختلف مؤسساتها، ان تحتظنه ليتمكن من النهوض بنفسه بأقل الخسائر والتضحيات، وبأسرع وقت ممكن، على اعتبار ان العالم اليوم يسير ويتقدم الى الامام بسرعة جنونية، لا يمكن اللحاق به اذا كنا نسير كالسلحفاة، او ان نتقدم خطوة ونتراجع خطوتين.

   وتتضاعف المسؤولية اذا عرفنا بان النسبة الأكبر من المجتمع العراقي هم الشباب، ما يعني ان بقاء هذه الشريحة بلا أفق او أمل او دور، يعني ان المجتمع بكامله سيكون كذلك، بلا اي أفق واضح ومستقبل معلوم.

   كذلك، ستتضاعف المسؤولية اذا علمنا بان نصف شريحة الشباب، هم من الإناث، واللاتي تتضاعف معاناتهن في المجتمع، اما بسبب الثقافة الذكورية الحاكمة او العادات والتقاليد البالية او ما أشبه.

   فكيف يمكن النهوض بالشباب؟.

(2)

   ان على جيل الشباب ان يبني نفسه ذاتيا من خلال:

   اولا: القراءة والمطالعة وطلب العلم وتثقيف الذات، فالشاب المتعلم والمثقف لا يخدعه الدجالون بآية او رواية او خطاب او حديث او شعار زائف او زي متشابه او فتوى.

   أتذكّر عندما كنا شبابا، لم يخل بيتا من بيوتنا من مكتبة فيها مختلف انواع الكتب الى جانب الدوريات والمجلات البحثية والمتخصصة، ولقد كنا نتبارى ونتباهى أينا يقرا اكثر، اما اليوم فان ما يؤسف له حقاً هو غياب الكتاب والمكتبة عن بيوت الناس خاصة الشباب، وإذا ما وُجدت مكتبة عند شاب او في منزل فستجد انها تحتوي على كتب تفسير الاحلام والقصص المبتذلة والتافهة وكتب الاستخارة والتعويذة وغير ذلك من هذه الكتب السطحية التي يمنّي بها الشاب نفسه بحلم سعيد او أمل بعيد.

   كما ان الشباب اقتصرت اهتماماتهم على السماع فقط، في أغلب الأحيان، او تراه منشغلا بالتواصل مع من يعرف ومن لا يعرف على مواقع التواصل الاجتماعي، وياليتهم يتبادلون المعلومة المفيدة مثلا او يناقشون رأيا نافعا او يتحاورون بأدب ويناقشون قضية مهمة تخص المجتمع او شريحتهم تحديدا او يحاولون حل مشكلة من مشاكل المجتمع، ابدا، بل ان اهتمامهم منصب على القيل والقال وتبادل الكثير من الخزعبلات او الأكاذيب والشائعات التي لو دقق بها المرء قليلا لوجدها شائعات ليس لها أدنى حظ من الصحة، الغرض منها تدمير المجتمع وإشاعة الأكاذيب التي تشغل بال الناس بلا نتيجة.

   والغريب فعلا ان الكذبة تطير بلحظة على مواقع التواصل بلا روية او تثبت وكأنها من المسلمات، فترى الكل مستسلما لها بلا نقاش او شك او تردد.

   كما ان اهتمام الشباب منصب، من جانب اخر، على متابعة القنوات الفضائية، فترى الواحد منهم يمسك بجهاز التحكم عن بعد ليقلّب بالقنوات ذات اليمين وذات الشمال، وهو لو انتبه الى نفسه لوجد ان كل ذلك يساهم في عملية تسطيح الوعي والمعرفة بدرجة كبيرة.

   هذا على صعيد الثقافة والفكر والمطالعة، اما على الصعيد التعليمي، فلقد كانت المسيرة المليونية التي شهدها العراق بمناسبة أربعينية سيد الشهداء الامام الحسين (ع) فرصة ذهبية لالتقي واتعرف على الآلاف من الشباب بعمر الورد، لاكتشف انهم أميون لا يقرأوون ولا يكتبون، او انهم بالكاد يعرفون كيف يقراون أسماءهم.

   ان هذه الظاهرة التي تجتاح العراق اليوم، بمثابة القنبلة الموقوتة، اذا ما انفجرت في المجتمع فستدمره وتأتي على بنيانه من القواعد.

   ان انشغال السياسيين، الذين يديرون البلد، بمشاكلهم وصراعاتهم وهم يبحثون عن امتيازاتهم الأنانية، الى جانب انشغال الفقهاء والعلماء والكتاب والباحثين وأصحاب الفكر والقلم، كذلك، بصراعاتهم الخفية التي ألهتهم عن تحمل مسؤولياتهم التاريخية في تربية وتعليم المجتمع، فضلا عن انهيار العملية التعليمية، الأولية منها والعالية، والذي يتجسد، الانهيار، في صفوف الدروس الخصوصية وإقرار الأدوار الثلاثة في المراحل المنتهية وتشريع قوانين الإكمال بثلاث مواد تعليمية والزحف وغير ذلك، ان كل ذلك تسبب بإشاعة ظاهرة الأمية وعزوف الشباب عن التعليم وطلب العلم.

   ولا يخفى ما لدور المعاناة التي يتعرض لها الشباب في العملية التعليمية بسبب قلة المدارس والدوام الثلاثي والتسيب في الشارع، قبل وبعد الدراسة، وانعدام الأدوات التعليمية بشكل عام، ان كل ذلك ساهم في إشاعة الأمية في العراق. 

   يجب الانتباه الى هذه الظاهرة قبل ان تستفحل بدرجة كبيرة، فيضيع الشباب نهائيا.   

   يجب ان تعود المدارس والجامعات والمعاهد، كما كانت، مصدر إشعاع لنور العلم والمعرفة.

   وان ما يؤسف له هو ان الكثير من مصادر التغذية الثقافية والتعليمية والتربوية سطحية وإنشائية، فيها كل شيء الا العلم والثقافة والمعرفة، كما ان بعضها يغذي المجتمع بثقافة التواكل والتخلف وعبادة الشخصية وصناعة الطاغوت والموت، من خلال اعتماد ثقافات الاحلام والقصص الخرافية والتوافه من القضايا البعيدة عن واقع المجتمع، خاصة جيل الشباب.

   ولا ننسى هنا بعض هذه المصادر التي تغذي المجتمع بالطائفية والانتماء الى الماضي من دون النظر الى المستقبل، وكذلك، ثقافة السب واللعن والشتم والكلام البذيء والتهم والتسقيط، وثقافة الحقد والكراهية وجلد الذات والبغضاء والتنابز بالألقاب، وغير ذلك.

   على جيل الشباب ان ينتبه الى ما يراد له ومنه. انه مطلوب منه ان يبقى جاهلا وأميا ومتخلفا ليسهل قياده.

   يراد له ان يبقى كالبهيمة المربوطة همها علفها، لتساق الى حتفها بلا اعتراض او مجرد سؤال.

                         (3)

   ان ضياع الشباب، او تضييعهم، هو الذي يشجع، اليوم، جماعات العنف والإرهاب، وكذلك الجماعات الظلامية، على استغلالهم ابشع استغلال، بعد غسل أدمغتهم وتحويلهم الى إمّعات تعبد الشخص بلا دراية، فتنفّذ بلا نقاش، وتنقاد بلا علم او معرفة، ولذلك تحول الكثير منهم الى بهائم تفجر نفسها في الضحية، وكل ظنّها انها ستحضر وليمة دسمة في الجنة مع رسول الله (ص) او تراها نصَّبت نفسها خليفة الله في الارض، فتكفّر هذا وتجري القصاص على ذاك وتقيم الحد على ثالث، وهي التي لم تسبغ وضوءها او حتى طهارتها.

   ان الشباب الواعي لا يُستغفل ولا يُستعمل، لانه يدرك مصالحه جيدا، فيرفض ان يكون اداة بيد الشيطان، وإنما يسعى ليكون عنصرا نافعا في المجتمع، من خلال المساهمة بصناعة كل ما من شأنه ان ينهض بالمجتمع ويرتقي بالبلاد.

   ولهذا السبب تشتّتت ولاءات الشباب شذر مذر، كل يدافع عن معبوده، مرجعا كان او زعيما سياسيا او حزبيا او شاعرا او أميرا في تنظيم إرهابي او ما الى ذلك، حتى لم يعد يتفق الشباب على شيء اتفاقهم على الخلاف والتفرق والتشتت.

   ومن الواضح جدا فان تمزق شريحة الشباب يشل تأثيرهم في الساحة، فبعد ان تفرقوا في الهدف، تفرقوا كذلك في الأدوات، وهم بالأساس، تفرقوا في الولاء، وإنما يترك الشباب بصماتهم على ارض الواقع، اذا ما اتفقوا على الحد الأدنى من الأهداف المقدسة العليا، وما تجربة حركات الربيع العربي ما قبل الانحراف، وما قبل الاحتواء، الا دليل ساطع على ذلك.

   انها حالة استصحاب من زمن الطاغية الذليل صدام حسين الذي غيّب الشباب فقادهم كالبهائم الى حتفها في حروب عبثية لم يجن منها العراق سوى الاحتلال والخراب والدمار، او تراهم انخرطوا في ميليشياته التي تنوّعت أسماءها، شُغلها الشاغل التعدي على هذا والتجاوز على حق ذاك بلا وازع من ضمير.

   وعندما حاول الشباب ان ينتبه لنفسه فينتفض على النظام البوليسي وسياساته العدوانية، دفنهم الطاغية احياء في مقابر جماعية انتشرت في جل مناطق العراق.

   ان الاسترسال مع هذه الحالة اليوم، تتحمل مسؤوليته بالدرجة الاولى الدولة بكل مؤسساتها، خاصة السلطة التشريعية، مجلس النواب، الذي لم يتصد لواجبه التشريعي إزاء حاجات الشباب بشكل سليم، فلا زال الشباب ضائعون في الشوارع مع غياب فرص العمل بعد التخرج، مثلا، كما انه عاجز عن تحقيق رغباته في تاسيس العائلة، وفي بناء مستقبله الزاهر. 

   ان انتشال الشباب من حالة الضياع، هو مقدمة واجبة لانتشال البلد بكامله من الضياع، فلو تذكرنا بان كل عمليات التغيير في المجتمعات تتحقق على يد الشباب، وان عمليات البناء والنهوض الحضاري، هي الاخرى، تقوم على أكتاف الشباب، فسنعرف، حينها، أية خسارة ستحل بنا اذا ما ظل الشباب على هذه الحالة، تائه وضائع، مصاب باليأس، لا يمتلك أية رؤية لمستقبله، أدوات طيّعة بيد عديمي الضمير، ممن يحملون في أدمغتهم اجندات خاصة تضر بالشباب ولا تنفع البلاد.

   لذلك شجعت أعضاء اللجنة التأسيسية لمنظمة (رؤية) الذين التقيتهم في مدينة كربلاء المقدسة، الأسبوع الفائت، شجعتهم على ان يحرصوا لتكون منظمتهم اسم على مسمى، يسعون لبناء رؤية لجيل الشباب في ظل التحديات العظيمة التي تواجههم، فان رؤية سليمة واحدة بإمكانها ان تنتشل جيل بأكمله من الضياع والتغييب.

   فكيف يمكن بناء رؤية؟.

                                                (4)

   لا شيء يمكن ان يعوّض عن الكتاب، فلا متابعة القنوات الفضائية يمكن ان تكون بديلا عنه، ولا وسائل التواصل الاجتماعي التي تعج بالأخبار والتقارير والصور الكاذبة، ولا حتى متابعة المحاضرات والمجالس وما شابهها، فللكتاب دور خاص ومحوري لم ولن يتأثر بتنوع مصادر المعرفة الاخرى مهما تطورت وانتشرت واتسعت.

   لقد كان الكتاب، ولا يزال، اهم مصادر المعرفة، وان من يعتقد ان بإمكانه الاستغناء عنه بمصادر اخرى بديلة فهو واهم، فقد تكون المصادر الاخرى مساعدة، ولكنها لا يمكن ان تكون بديلة ابدا.

   ان الكتاب مصدر الهام للعقل والفكر، اما غيره، خاصة في عالم اليوم، فمصدر تجهيل وتسطيح للعقل والفكر.

   ولذلك، ينبغي ان يعيش الكتاب مع الشباب، في حلهم وترحالهم، لا يبتعد عنهم، ولا يستغنون عنه، يتعايشون معه كالهواء الذي يتنفسونه، ولشد ما استغرب عندما اسال شاب عن الكتاب الذي بين يديه الان؟ فيجيبني، انه لا يقرا، ولم يتذكر انه اقتنى كتابا مرة!.

   ان من لا يقرا لا يفهم، وهو ميت الأحياء، لان عدم القراءة تنتج تصحّرا في الثقافة وتحجّرا في العقل وتكلّسا في الفكر، وبالتالي تُنتج موتا سريريّا قد لا يشعر به المرء، ولكن المجتمع يشعر به ويتلمسه بالتأكيد.

   ومن اجل تحقيق الاستفادة القصوى من الكتاب، ينبغي الانتباه الى الامور التالية:

   الف؛ لابد ان تكون المطالعة متنوعة، إن بمادة الكتاب او بالكتّاب انفسهم، وعدم الاقتصار على نوع واحد من الكتب او المؤلفين، لتساهم المطالعة في توسيع مدارك المتلقي، خاصة جيل الشباب، فهو بحاجة ماسة الى توسعة وتنويع خلفيته الثقافية بما يؤهله لاستيعاب المتغيرات بشكل افضل.

   ان الاطلاع على ثقافات وأفكار متنوعة، يساهم في تحقيق الانفتاح الثقافي اكثر فاكثر، كما انه يساعد على التقليل من ظاهرة التطرف والتزمت الثقافي الذي يُبتلى به كثيرون بسبب احادية القراءة، والتي تنتج ظاهرة احتكار الحقيقة، واحتكار الجنة للذات والنار لغيرها.

   يجب ان يتحلى الشباب بثقة عالية بالنفس وبشجاعة تؤهله لاقتحام غمار تنوع الثقافات، حتى لا يخشى او يتردد.

   ومن اجل نتائج افضل، ينبغي ان تكون العملية تحت إشراف خبير متمرس.

   كذلك، ينبغي الاهتمام بالقراءات الجدية والابتعاد عن الكتب التافهة، وللأسف فان وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تحمل إلينا، في كل لحظة، كم هائل من التوافه والأخبار الكاذبة والصور والأفلام المفبركة، ما يشغل الشباب بلا نتيجة.

   باء؛ ان الهدف الأسمى من المطالعة هو زيادة المعرفة عند المرء لتترك اثرها على سلوكه اليومي، ولا يتحقق ذلك الا اذا وصل الى مرحلة يكون فيها قادرا على انتاج الفكر والمعرفة، والذي لا يتحقق الا اذا صاحبت عملية المطالعة والقراءة، عملية اخرى في غاية الأهمية، الا وهي التفكر والتفكير.

   ان اكتفاء المرء بالمطالعة فقط دون التفكر فيما يقرا ويطالع يحوّله الى آلة استنساخ تنتج نفسها على لسانه وفي تفكيره ليس اكثر، اما تحقيق التوازن بين عمليتي القراءة والتفكر في آن، فإنها تساهم في تمكين المرء من الانتاج دون الاستنساخ.

   وإذا تساءلنا، لماذا يستمر الغرب بشكل عام، في الانتاج، ومنها الانتاج الثقافي والفكري، فيما توقف الانتاج عندنا حتى تحولنا الى مجتمع مستهلك في كل شيء، حتى في طريقة الأكل واللبس؟ فان الجواب: لان النظام العام في الغرب يعلم الانسان على التفكر في مجال اختصاصه وعدم الاكتفاء بالتلقي فقط، فالطالب، مثلا، مطلوب منه ان ينتج شيئا وهو بعد في مرحلة التلقي، ليتعلم، منذ البداية، كيف ينتج شيئا ما وهو يتلقى العلم والمعرفة، ولذلك، عندهم الشباب يبدعون لأنهم يفكرون ولا يكتفون بعملية التلقي فقط، اما عندنا فالشباب، اذا ما أتيحت لهم فرص التلقي، فانهم يكتفون بها، من دون انتاج او ابداع، وهذا، برايي، سببه أمران: الاول النظام العام الذي تعودنا عليه والذي كرس عندنا ثقافة التلقي فقط او الاستهلاك، وثقافة الاستنساخ والحفظ عن ظهر غيب ربما بلا فهم، فترى الواحد منها يتصنع الإصغاء من دون ان يجد أمامه أية فرصة للتفكير بما يسمعه او يقرأه، وكأن الذي يتلقاه يمثل كامل الحقيقة، وان من يصغي اليه هو الحق المطلق، فيما يقول الواقع ان الامر ليس كذلك.

   الثاني: هو انعدام وغياب وسائل التفكير والبحث، الامر الذي حوّلٓنا الى متلقين بامتياز.

   جيم؛ الاهتمام اكثر فاكثر بتكنلوجيا القراءة، ان صح التعبير، ففي عصر السرعة والتطور والتقدم المتسارع في كل شيء ينبغي على الشباب تعلم تكنلوجيا القراءة، كطرق وأساليب القراءة السريعة ومكافحة الشرود الذهني وطرق التفكير السليم، وغير ذلك.

   ان هناك الكثير من الدراسات والأبحاث التي تعالج مثل هذه الامور المهمة جدا، والتي، اذا ما تعلمها الشباب، فسيزيد من وتيرة مطالعاته، ان على صعيد الكمية او على صعيد النوعية.

                                                (5)

   ان المعرفة التي لا تصنع من المتلقي إنسانا، هي معرفة عبثية لا تغني ولا تسمن من جوع.

   وهذا هو الفرق بين العلم والثقافة الهادفة التي يجب ان يجتهد الشباب من اجل اكتسابها ليرتقي بواقعه المزري فيغيّر ويبدّل، وبين العلم والثقافة العبثية التي تشغل الشباب بلا نتيجة.

   ان على الشباب ان يبرمجوا يومهم بشكل جيد بحيث يخصصوا فيه ما لا يقل عن ساعتين للقراءة الجدية التي ترافقها عملية التفكير والتفكر الجدي.

   وقبل ان أواصل الحديث في الموضوع، اود هنا الإشارة الى ملاحظة مهمة، خطرت ببالي بسبب لوم المرأة لي و (اتهامي) بأنني اكتب للذكور دون الإناث، في هذه السلسلة، وهي:

   ان الحديث هنا عن شريحة الشباب لا يقتصر على الذكور فقط وإنما على الإناث كذلك، فعندما نقول (شباب) إنما نقصد الذكور والإناث على حد سواء، وان من له ابسط إلمام باللغة العربية، لا تفوته هذه الحقيقة اللغوية ابدا.

   فضلا عن ان الشابات في العراق لا يقل دورهن عن الشباب، كما ان طموحهن وقدراتهن لا تختلف عن طموح وقدرات الشباب، وان الغاءهن من التفكير بشأن الشباب يُعد الغاءا لنصف المجتمع الشبابي، ولذلك فان ما أتحدث عنه هنا يشملهن كذلك، وربما اكثر، لان الشابّات يواجهن تحديات اكثر بكثير من الشباب، بسبب الثقافة الذكورية التي تخيم على المجتمع العراقي من جانب، وبسبب بعض العادات والتقاليد البالية التي يتصورها المجتمع انها جزء من الدين والأخلاق، والتي تحجم من دور المرأة وتقلل من أهميته، من جانب آخر.

   تأسيسا على ذلك، فان من الضروري بل من الواجب بمكان، ان تشمل كل برامج التنمية الشبابية كلا الجنسين، فلقد اثبتن الشابات قدرات فائقة في العمل القيادي والتنموي والتربوي واكتساب العلوم والمعارف، بل ان الكثير منهن حققن تفوقا ملحوظا في الكثير من النجاحات على مستوى التعليم، بالاضافة الى تصديهن لمنظمات المجتمع المدني، خاصة ما يتعلق بالمرأة والطفل واليتيم وغير ذلك.

   نعود للحديث في صلب الموضوع.

   فأي معرفة تصنع من الشباب إنسانا؟. 

   انها المعرفة :

   اولا: المتكاملة والشاملة التي تخلق عنده خلفية تعليمية وثقافية واسعة.

   ثانيا: تمكّنه من النقد والتفكير والحوار بلا تردد او خوف.

   يسأل ويتساءل ويناقش ويتوقف ويشكك، من دون ان يستسلم للفكرة او لصالحبها.   

   ثالثا: وكذلك تمكّنه من التعايش في مجتمع متنوع ومتعدد في كل شيء كالمجتمع العراقي، فيقبل بالآخر ولا يحتكر الحقيقة ويؤمن بالتعددية، ويستوعب العصرنة.

   قادر على الإصغاء، قدرته على الحديث والكلام.

   رابعا: تمنحه مهارات وأدوات التفكير والعمل الصالح والقابليات القيادية، مثل؛

   الف: العلمية والابتعاد عن لغة الإنشاء.

   باء: الإبداع في التفكير من خلال التقليل قدر الإمكان من الخطوط الحمراء التي تحبس تفكير الانسان، ولا تدعه ينطلق في عملية التفكير، خاصة تلك التي تخلط الأصول المعقولة بالعادات والتقاليد الموروثة.

   جيم: تمنحه القيم الأصيلة التي يبني بها الحضارة، مثل؛ الحرية والكرامة والشورى والتعايش والتعارف ومنطق الحوار والتنافس الشريف والتعاون والسعي للتكامل والشعور بالمسؤولية وقبول التحدي وروح المواطنة والتواضع وغير ذلك.

   خامسا: تُصحِّح عنده المفاهيم الخاطئة والمنحرفة التي ابتلي بها المجتمع اليوم، والتي أنتجت بهائم تفجر نفسها وسط ضحاياها.

   فلو كان الشباب على قدر من المعرفة والثقافة، لما خدعه المرجفون من أمثال فقهاء التكفير المرتبطين ببلاط نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية تحديدا.

   فبدل من ان نرى الشباب في ساحات العلم والمعرفة والبحث والعمل المثمر، نراهم اليوم في ساحات مشبوهة تسيطر عليها جماعات العنف والإرهاب والجماعات الضلامية.

   ان السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة هو جهل الشباب وتخلفهم وضياعهم. 

   سادسا: تعلمه ثقافة البحث والتحري والاستكشاف، وعدم الاكتفاء باستنساخ الافكار.

   انها الثقافة التي تحيي الأموات، من خلال بث روح الهمة والمثابرة، فقد نقل عن (فرتز لبمان) انه كان شابا فاشلا بلا مستقبل، اي ضائعا، قبل ان تشحذ جامعة هارفارد قابلياته وهممه، ليكتشف واحد من اهم الأنزيمات التي تدخل في صناعة البروتينات.

   هذه هي مهمة التعليم والثقافة الحقيقية، اما غيرها فبمثابة المقبرة التي يدفن فيها الشباب قابلياتهم وعقولهم والروح الإيجابية التي يتحلون بها واندفاعهم وحماسهم.

                                                    (6)

   من اجل ان لا يبدأ جيل الشباب من نقطة الصفر، فيجرّب ما جربته الأجيال التي سبقته، ويستنسخ الخطا ولا يستفيد من الصحيح، ففسحة العمر ليست طويلة بما تمكّن المرء من تجربة كل شيء بنفسه، ومن اجل ان يستفيد الشباب من نعمة الذاكرة التي وهبها الله تعالى للبشر، فان من المهم جدا ان يقرأ الشباب تجارب الناجحين دائماً، أفرادا وشعوبا، فتجارب الآخرين ثروة إنسانية للجيل الجديد تساعده على اختزال الزمن وتجنب الخطأ وتوظيف الخبرة بما ينهض بمستواه في اسرع وقت ممكن، ولقد حذر امير المؤمنين (ع) من مغبة التغافل عن تجارب الآخرين بقوله {من جرّب المجرب ندِم} لذلك، ينبغي على الشباب متابعة مذكرات الناجحين وقراءة خبراتهم، بغض النظر عن الهوية والدين وغير ذلك، فتجاربهم ملك للإنسانية وليست لاحد دون اخر.

   كما ينبغي عليهم قراءة تجارب الفاشلين الذين نجحوا فيما بعد، ليتعلموا كيف يحولوا الفشل الى نجاح، وما هي طرق وأساليب الانتقال من مرحلة الفشل الى مرحلة النجاح، وهو ما نمر به اليوم في العراق الجديد.

   ومن الشعوب الناجحة التي ينبغي ان يقرا عنها الشباب هي شعوب اليابان وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، طبعا مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصية التي يتمتع بها كل شعب من الشعوب، وما نتميّز به نحن كشعب كذلك.

   لقد تميّز الألمان واليابانيون بقدرتهم الفائقة على تحويل الهزيمة الى نصر، فيما تميز شعب الولايات المتحدة بقدرته الفائقة على التعايش في ظل التنوع والتعددية، وفي ظل دستور فاعل وقانون يحكم الجميع.

   كما ينبغي على الشباب مطالعة مذكرات القادة السياسيين والعلماء والمفكرين ليتعرفوا على أسباب نجاحاتهم ان كانوا ناجحين او عوامل فشلهم ان كانوا فاشلين، فضلا عن ذلك، فان في طيات المذكرات تفاصيل تتحدث عن البيئة الاجتماعية والسياسية مثلا، وكذلك عن تفاصيل العلاقات والروابط السياسية والخارطة الدولية في الزمان والمكان وغير ذلك، ما يساهم في بناء رؤية شاملة عن البلاد، سياسيا وجغرافيا ودوليا، خاصة وأننا نعرف جيدا بان العالم يؤثر بعضه في بعض، ولذلك لا يمكن قراءة خارطة بلد ما بعيدا عن الخارطة الدولية.

   لقد شرع الله تعالى النظام القصصي في القران الكريم، فتحدث وذكر الكثير من تجارب الامم والأفراد، الناجح منهم والفاشل، لانها تجارب إنسانية يمكن ان تستفيد منها الأجيال المتعاقبة، وهذا لطف من رب العالمين ورحمة بعباده، حتى لا يكرروا الخطأ او يغفلوا عن أسباب النجاح، الا ان مشكلة الانسان هو انه يصر على ان يجرب كل شيء بنفسه اما أنَفَة او تكبرا او علوا في الارض او استخفافا بنفسه، ولذلك نلاحظ ان الشعوب التي تتجاهل تجارب الامم السالفة يتكرر عندها التاريخ بأسوأ صوره، اما الشعوب التي تقرا تجارب الآخرين وتستخلص منها الدروس والعبر فلا يتكرر عندها التاريخ بشكل سيء، بل على العكس من ذلك فإنها تختزل الزمن والطاقات والأثمان المطلوبة للبناء والنهوض وتجاوز المشاكل.

   خذ مثلا على ذلك، فان اغلب أسباب الطلاق في مجتمعنا هي نفسها تتكرر بشكل مقرف، فلو ان المجتمع استفاد من تجاربه لما تكررت حالات الطلاق ولنفس الأسباب، بل لكان المجتمع قد تجنب الأسباب وبالتالي قلل من ظاهرة الطلاق التي تزداد في مجتمعنا يوما بعد اخر.

   ذات مرة سالت المرجع الراحل الشيرازي، قدس سره، عن سر تعامله الحذر مع تفاصيل الثورات في المنطقة، وإيمانه المطلق باللاعنف كمنهج لها، فأجابني بالقول: انه عايش تفاصيل اعظم ثورتين في التاريخ الحديث، الا وهما الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ والهندية بقيادة المهاتما غاندي، ولما اقارنهما بسيرة رسول الله (ص) ومدرسة اهل البيت عليهم السلام، اكتشف ان العنف هو احد اهم أسباب تدمير الثورات في العالم وفي التاريخ.

   انه كان يسعى دائماً لتوظيف التجربة في استنطاق حقائق الواقع بما يساهم في التقليل من الأخطاء ومصادر الفشل وحالاته.

   كما اخبرني مرة، قدس سره، انه قرا أكثر من (٢٠٠) كتاب عن جماعة الاخوان المسلمين، فكان يعرف عنهم اكثر مما يعرفونه عن أنفسهم، ولذلك فلطالما سمعت منه عن مستقبلهم الذي رأيناه في العام الماضي وكأنه كان يقرا المستقبل بكفه. 

   ان تكرار احزاب السلطة اليوم لأخطاء حزب الطاغية الذليل صدام حسين لدليل واضح جدا على انها لم تتعلم منه، او انها نسيت ان الطاغية استخرج من بالوعة أشعث أغبر، على الرغم من كل ما فعله لتجنب هذا المصير، فلطالما سمعناه يكرر قوله المشهور (لن أسلمها، جئنا لنبقى) لنسمعها ذاتها اليوم على لسان الحاكم الجديد، وكأنه نسي الماضي القريب، فالعاقل هو من يستفيد من تلك التجربة، اما الذي لا يستفيد منها فهو المجنون بعينه الذي يشتهي حفرة مشابهة لتلك التي اختبأ فيها جرذ العوجة، على حد تسمية العراقيين للطاغية الذليل.

   ان من أسوأ العبارات المتداولة في مجتمعنا، هي عبارة (إقلب صفحة) وكأننا، في كل مرة، نشطب على تجاربنا، ولذلك تتكرر في أسوأ صورها.

                                                (7)

   برايي، فان التغيير في المجتمع، اي مجتمع، يبدأ من تغيير الذات عند الشباب، لأنهم اللبنة الاولى فيه، فإذا صلُحت وتحسّنت صلح بقية البناء، والعكس هو الصحيح، ولذلك نرى ان الامم الراقية تهتم اكثر ما تهتم بمرحلة الشباب، ان بمراحل التعليم الأولية او بمراحله العليا، او بعملية التثقيف العامة، فتراها تهتم بالمناهج التعليمية والتربوية والبدنية على حد سواء، كما انها تهتم بملء الفراغ عند الشباب بأي شكل من الأشكال التي تساهم في صقل شخصيتهم وبنائها البناء السليم.

   ولقد اهتم الاسلام كثيرا بمرحلة الشباب، فكان رسول الله (ص) اذا رأى شابا سأله عن عمله، فإذا أجابه بالنفي، اي انه عاطل عن العمل، قال (ص): سقط عن عيني.

   ولقد سعى رسول الله (ص) وأئمة اهل البيت عليهم السلام، سواء بالقول او بالفعل، الى صقل شخصية الشاب وهو بعد في اول الطريق، لان الكثير من الصفات الحسنة، خاصة تلك المتعلقة بسلوكه في المجتمع، تنطبع في شخصيته منذ الصغر، وان من اكبر اخطاء الأبوين تصورهم بان الأولاد الصغار لا يستوعبون الكلام والتربية كثيرا، فيدعوهم يلهوا ويلعبوا ويلههم الامل بلا حسيب او رقيب، حتى اذا اشتد عودهم استعصَوا على الأبوين، فلا الكلام ينفع معهم ولا التربية، لان من يشب على شيء يشيب عليه، ولذلك ينبغي ان يشب الأولاد على كل شيء حسن ليشيبوا عليه، وصدق من قال (العلم في الصغر كالنقش على الحجر) فتربية وتعليم الأولاد وهم صغار لا تمحوها عاديات الزمن.

   ان على الأبوين، وكذلك على المجتمع، خاصة في المؤسسات التعليمية، توظيف وسائل التربية الحديثة مع الشباب، فطرق مثل الضرب والإكراه والجبر والرقابة الصارمة والمنع وغيرها من الأساليب البالية لا تنفع اليوم كوسائل تعليمية وتربوية ابدا، بل يلزم تعلّم الوسائل الحديثة التي توصل اليها علماء التربية بالخبرة والدراسة والتجربة، لنساهم في تنمية الشباب بعيدا عن ردود الأفعال الخطيرة التي تكون نتائجها، في احيان كثيرة، ضياع الشباب بدلا من تربيتهم وتعليمهم.

   كما ينبغي على المختصين قراءة واستنطاق النصوص لإنتاج نظريات جديدة في التربية والتعليم والتثقيف، على قاعدة قول امير المؤمنين (ع) {لا تُكرهوا أولادكم على تربيتكم، فانهم خلقوا لزمان غير زمانكم}.  

   لذلك، ينبغي على الوالدين، وكذلك على المجتمع، ان يفسحوا المجال للشباب للتعبير عن انفسهم وعن طموحاتهم، وعن ما يجول في خواطرهم من آراء وأفكار وخطط، وان القول بانهم صغار لا يفهمون شيئا هو قول خطأ وفي احيان كثيرة يعد جريمة بحق الشباب والمجتمع في آن.

   ان الشاب الذي يُمنع من التعبير عن نفسه، يظل غامضا بالنسبة لأبويه، وبالتالي سوف يفشل الأبوين في إيجاد افضل الطرق واسلمها للتعامل معه.

   وإذا نظرنا للكثير من الاختراعات اليوم، العلمية منها والاجتماعية، فسوف نجد ان للشباب دور بارز فيها، لأنهم الأقدر على استيعاب التطور وهضم المتغيرات.

   وان احد اهم الصفات التي يتميز بها الشباب، والتي تمكنهم من التقدم والتطور، هي الجرأة والجلد والشجاعة، سواء في اقتحام الغمرات او في محاولات البحث عن التجديد والتطوير، فالتطور بحاجة دائماً الى شجاعة، والتي لا نجد مثلها الا عند الشباب، ولذلك تراهم الأقدر على تكرار التجارب لحين تحقيق النجاح.

   حتى على الصعيد السياسي، فان البلدان المتقدمة والمتطورة تعتمد كثيرا على الشباب في التنمية السياسية، فعندما يكون عمر الرئيس الاميركي (٤٨) عاما، كما هو الحال مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون مثلا او الحالي باراك اوباما، فلك ان تتخيل كم كان عمره عندما بدا مشواره السياسي ليصبح رئيساً لاعظم دولة في العالم وهو بعد لم ينه الخمسين من عمره؟.

   هنا، وددت ان اذكر حديث رسول الله (ص) الذي يحدد فيه الصفات التي تصقل شخصية المسلم، وهو بعد في مرحلة الشباب، ليبني عليها حياته بطريقة سليمة وصحيحة، فيكون مبدعا وناجحا ومثمرا، وبالتالي مباركا في مجتمعه. 

   يقول (ص) يصف المؤمن:

   لطيف الحركات حلو المشاهدة، يطلب من الأمور أعلاها، ومن الأخلاق أسناها، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، قليل المؤونة، كثير المعونة، يحسن في عمله كأنه ينظر اليه، غض الطرف، سخي الكف، لايرد سائلا، يزن كلامه، ويخرس لسانه، لايقبل الباطل من صديقه، ولا يرد الحق على عدوه، ولا يتعلم إلا ليعلم، ولا يعلم إلا ليعمل، إن سلك مع أهل الدنيا كان أكيسهم، وإن سلك مع أهل الآخرة كان أورعهم.

                                                       (8)

   لقد ابتلي المجتمع العراقي بأمراض عدة جراء تراكم السياسات الخاطئة التي دفع ثمنها غاليا، وإن تصحيحها، لينهض من جديد، بحاجة الى جيل او اكثر، ربما، ولذلك ينبغي على جيل الشباب، على اعتباره رجال المستقبل وقادته، الانتباه اليها ليبدأ عملية الإصلاح والتصحيح منذ الان لتثمر تغييرا في البنية التحتية للمجتمع، بعيدا عن التغيير بالرتوش والمساحيق والألوان والعناوين والمسميات، وبالتالي ليشهد العراق، من جديد، نهضة شاملة تمس كل جوانب الحياة.

   وان من بين هذه الأمراض التي يجب ان يعالجها جيل الشباب في واقعه: الفردية والنزوع الى الاستبداد والديكتاتورية، سواء في الاسرة او في سوق العمل او في المدرسة والجامعة او على مستوى السلطة والعمل السياسي والحزبي، ولذلك نلاحظ ان الفرد العراقي يصعب عليه العمل والتعاون مع الاخر، مهما اقترب منه لُحمة سواء في الدين او المذهب او المنطقة او الحزب او ما الى ذلك.

   ان طبيعة الفرد العراقي نزوعه الى الفردية، وان من اصعب القرارات التي يتخذها هو ان يعمل كفريق مع مجموعة.

   وان نزوع الفرد العراقي الى الفردية سبب الكثير من المشاكل، ربما على رأسها، حالات الخلاف والاختلاف والتمزق والانشقاق التي تصيب حياة العراقيين، فضلا عن ذلك فإنها تسببت بغياب الحالة المؤسساتية في المجتمع، لدرجة ان السياسيين فشلوا، لحد الان، في بناء مؤسسات الدولة بشكل سليم ومستقر.

   كما ان الفردية أضاعت على المجتمع الخبرة وتراكم التجربة، وكذلك تراكم العمل وانتقاله من جيل الى آخر.

   قد يبدع الفرد العراقي اذا تصدى بمفرده لعمل او مهمة ما، ولكنه يفشل فشلا ذريعا اذا تصدى للمهمة مع مجموعة، لان عقليته إبتُنيت على الفردية، فهو قوي التفكير بمفرده ولكنه يفشل اذا فكر بطريقة جماعية، ولهذا السبب نرى ان اكثر مشاريعه تنتهي بموته لانها فردية وليست مؤسساتية، فتتلاشى جهوده وتضحياته والوقت المصروف عليها بتلاشي وجود الفرد.

   ان الفردية مقبرة العمل، ولذلك لا تجد عندنا مؤسسات عريقة، حتى المرجعية، هي الاخرى، فشلت حتى الان في ان تتحول الى مؤسسة تتراكم فيها الخبرة والتجربة والإنجاز ورأس المال وغير ذلك، لانها قائمة على عقلية الفرد، فلم تسمع يوما ان مرجعا اجتمع بآخر، او فقيها زار آخر وبحث معه الأوضاع الراهنة التي تمر بها البلاد، وهكذا.

   ان على الشباب تقع مسؤولية عظمى في محاربة هذه الظاهرة في المجتمع العراقي، كونهم عقلية بِكْر لم تتلوث بأسباب الفردية والاستبداد في التفكير والعلاقات.

   يجب ان يعمل الشباب على خلق حالة العقل الجمعي فيما بينهم، وان عليهم ان يخلقوا في انفسهم روح العمل الجماعي وروح العمل كفريق واحد، من اجل ان يضعوا حدا لظاهرة الفردية.

   عليهم ان لا يعيروا لواقع الفردية وأسبابه أهمية تذكر فيتمثلوا بالقول المشهور (حشر مع الناس عيد) ابدا، بل ان عليهم ان يخطّوا لأنفسهم طريقا جديدا يعتمد على العقل الجمعي، فيتواصلوا فيما بينهم ولا يتقاطعوا، ويتعاونوا ولا يتدابروا، ويقبل بعضهم بالبعض الاخر فلا يلغي بعضهم البعض الاخر.

   ان العقلية الجمعية واحترام الاخر والاعتراف بالفضل لكل من يعمل وينجح ويحقق شيئا مفيدا، ان كل ذلك هو الذي يساهم في بناء المؤسسات التي تعتبر أمرا ضروريا جدا في عملية التغيير، فالفردية وعقلية المستبد لا تنتج تنمية او تغييرا نحو الأفضل ابدا، وإنما يتحقق ذلك بالعقل الجمعي القائم على أساس روح التعاون والانسجام والاعتراف بالآخر، ولقد أوصانا القران الكريم بهذا الصدد بقوله {ولا تنسوا الفضل بينكم} وقوله {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}.

   ان واحدة من اهم أسباب الفردية، الظن بان النجاح لا يتحمل اكثر من فرد، فأما ان اكون انا الذي ينجح او لا احد يمكن ان ينجح، أمّا ان انجح وينجح معي صديقي او زميلي في العمل او المدرسة او المؤسسة مثلا، فلا يمكن ذلك، ولهذا السبب تراني أسعى لاحتكار أدوات العمل او وسائل النجاح لاضمنه بنفسي ولنفسي فقط وليذهب الآخرون الى الجحيم.

   ان هذه الطريقة من التفكير خطا كبير فالنجاح يستوعب أمة بكاملها وليس زميلين فقط او صديقين.

   ولذلك، فان على الشباب ان يخلقوا في ذهنهم عقلية النجاح الجمعي الذي يقوم على أساس ان ننجح سوية وان نتقدم وننجز سوية.

   ان نجاح المجتمع هو مجموع نجاحات أفراده، بالضبط كفريق كرة القدم، فالهدف الذي يحققه اللاعب لا يأتي بجهده الفردي ابدا وإنما هو نتاج تعاون الجميع وانسجامهم، ولذلك يسجل الهدف باسم الفريق، وان الجائزة التي يحصل عليها إنما تسجل لصالح كل الفريق وليس لصالح لاعب ما.

   نعم، ان في المجتمع متميزون، كفريق كرة القدم، لا