Skip to main content

تراجيديا اختفاء المطرانين اليازجي وإبراهيم

 


عادة ما يراهن الخاطفون والجهات المستفيدة من الاختفاء القسري على النسيان، لاسيّما لشخصيات عامة، حيث يمكن للحدث مهما كان عظيماً أن ينتقل من دائرة الضوء ليتآكل تدريجياً، وليقبع في الظل، ولعلّ ذلك ما يريده المرتكبون والمستفيدون من الذبول التدريجي لقضية المختفين قسرياً حسب المصطلح القانوني للأمم المتحدة Forced disappearance ، وهو ما ظل يراهن عليه من قام بفعلته الشنيعة باختطاف المطرانين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم في 22 إبريل/نيسان العام 2013 .

وإذا كان الأمر الطبيعي أن ينشغل الإعلام بما هو ساخن، ولكن القضايا الساخنة تبرد بالتدريج، لذلك فإن إبقاء قضية الاختفاء القسري حيّة وفي دائرة الضوء، إنما يتطلب جهداً استثنائياً ومضاعفاً، كي لا يلفّها النسيان مع مرور الأيام، والأمر يحتاج إلى أشكال متجدّدة من العمل الإعلامي والمخاطبات والمذكرات وعقد الندوات، واستثمار الصورة والفيلم والتلفاز والمذياع والصحيفة والإنترنت والفيسبوك والهاتف النقال وغيرها من وسائل الاتصال، لإثارة أسئلة جديدة بخصوص المخطوفين ووضع الهيئات الدولية عند مسؤولياتها، لاسيّما جهات حقوق الإنسان، والمنظمات الدولية المعنية .

ولعلّ ذلك ما حاول "ملتقى الأديان والثقافات للحوار والتنمية" أن يفعله في بيروت لمناسبة مرور عام على الاختفاء القسري للمطرانين، بدعوته الفاعليات والجهات السياسية كافة ومؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان العربية والدولية وشخصيات ثقافية وفكرية ودينية من مختلف الأديان والطوائف والثقافات، للتوقيع على نداء لإجلاء مصير المطرانين، معتبراً ذلك مهمة وطنية وعروبية وإسلامية ومسيحية، وقبل كل شيء مهمة إنسانية نبيلة، أي أنه حاول وضع مسألة المطرانين على برامج جميع القوى والفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية والدينية والإعلامية، المدنية والرسمية على حد سواء، بما فيها جهات دولية . وليس عبثاً أن يعتبر رئيس المفوضية الدولية لحقوق الإنسان الباكستاني الأصل السفير محمد شاهين أمين خان وقوف المجتمع الدولي إلى جانب قضية المخطوفين ودعمها بوجه الجهات الإرهابية ومن يقف وراءها، مسألة ضرورية .

كان اختفاء اليازجي وإبراهيم مشهداً أقرب إلى التراجيديا حين يراد الاستهانة بالجانب الإنساني، حيث كانا من روّاده، سواء جهودهما ووساطاتهما ودعواتهما للاعنف والمحبّة، ليس على صعيد الأزمة السورية الراهنة، بل على الصعيدين العربي والدولي، فمنذ أكثر من عقدين من الزمان وهما ينشطان في قضايا التسامح والاعتراف بالآخر والإقرار بالتعددية والتقارب بين ممثلي الأديان والثقافات وقضايا الحوار والمشترك الإنساني، وهو ما أشار إليه سماحة الشيخ حسين شحادة، وهو ما عرفته شخصياً عن المطران يوحنا إبراهيم منذ سنوات على صداقتنا وعملنا المشترك وتعاوننا في مجالات مختلفة .

وكان المطرانان قد اختطفا بالقرب من مدينة حلب، وتردّدت معلومات متضاربة عن مصيرهما، وإلى الآن لا يوجد خيط واضح يوصل إليهما، علماً بأن وزارة الخارجية التركية اضطرّت إلى نفي وجودهما على أراضيها، وجاء النفي التركي بعد رسالة من البطريركية السريانية في دمشق التي طالبت جميع الأطراف بتوضيح مواقفها، وكان قد تردّد أيضاً أن عملية الخطف دارت على بعد كيلومترات قليلة من عبور الخاطفين بمن فيهم من جنسيات شيشانية وجماعة جند الخلافة "لواء المسلمين"، ولكن ذلك كله مجرد تكهنات وتقديرات إن لم يتم إجلاء مصيرهما، سواء كانت التهمة موجهةً إلى جهات رسمية أو غير رسمية، سورية أو أجنبية .

ويعكس غموض تفاصيل قضية المطرانين ضبابية الكثير من المعلومات، فهناك من يرجّح وقوع المطرانين في فخ أعدّ لهما سلفاً، وهناك من يفترض أنهما وقعا فيه بمحض الصدفة في منطقة باب الهوى، حيث جرى اختطافهما، لكن قضيتهما لفّها الإبهام منذ اللحظة الأولى ولم تشهد تحقيقاً جدياً من جميع الأطراف، بما فيه التفاوض مع الخاطفين، خصوصاً مع بعض الجهات الإقليمية الوسيطة .

إن اختطاف المطرانين قصد منه زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، فضلاً عن ذلك الضغط على المسيحيين لترك سوريا، وهو ما حصل للعديد من البلاد العربية، ففي العراق تعرّض المسيحيون وكنائسهم ومقدساتهم ووجودهم للتدمير والإقصاء، وتحت مزاعم شتى من التعصب والتطرف، وفي لبنان اضطر مئات الآلاف منهم إلى الهجرة خلال الحرب الأهلية وما بعدها، وقبل ذلك وعلى نحو أشد استهداف مسيحيي فلسطين، الذين لم يتبق منهم سوى 1%، في حين كان عددهم يزيد على 20% من سكان فلسطين قبل الاحتلال . وكان في مدينة القدس وحدها قبل العام 1948 نحو 50 ألف مسيحي، في حين أنه لا يصل عددهم اليوم وبعد مرور أكثر من ستة عقود ونصف من الزمان على خمسة آلاف .

وحتى الآن فإن الصمت الرسمي والسياسي والديني حيال قضية المطرانين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم في سوريا يلف المسألة التي لا تخص المسلمين أو المسيحيين وحدهم، بل تخص حقوق الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية في هذه المنطقة المتعايشة والمتفاعلة والمختلطة بالثقافات والأديان والتنوّعات . 

إن قضية اليازجي وإبراهيم تمس الإنسان بشكل عام بكل مشتركه القيمي والثقافي والروحي والديني، ذلك أن في الديانة المسيحية من عمقنا الحضاري، وإن فيها شيئاً من ذاتنا الإسلامية، كما قال السيد علي فضل الله، مثلما في الذات المسيحية شيء من الإسلام، ولعل جامعهما العروبة .

أما الخاطفون، سواء كانوا أفراداً أم جماعات أم سلطة دولة (بعض أجهزتها التنفيذية) فإنهم يراهنون على النسيان، ليتلاشى الاحتجاج ويصبح مجرد ذكرى، ولذلك تراهم يعمدون إلى التعتيم، بل يثيرون غباراً من الشك لإبعاد الموضوع، بالإهمال وصدأ الذاكرة وازدحام الأحداث ودورة الزمن، بعيداً عن الإثارة وتحديد المسؤولية، خصوصاً استمرار البحث عن هوّية الخاطفين والمرتكبين وترك المصائر المجهولة للمخطوفين باعتبارهم جزءاً من الماضي لا أمل فيه ولا عمل يُرتجى من البحث عنهم أو الانشغال بهم .

لعلّ ذلك ما أراد "ملتقى الأديان والثقافات" أن يبدّده بإصراره على طرح موضوع المطرانين على بساط البحث، باعتباره قضية راهنة وغير قابلة للتأجيل، حتى يتم إجلاء مصيرهما ومصير جميع المختفين قسرياً!

جريدة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 23/4/2014