Skip to main content

حقوق الإنسان: سلاح أميركي

 

سعت الولايات المتحدة لفرض  فلسفتها ونمط حياتها وطريقة عيشها وثقافتها على العالم، عندما أصبحت القوة العظمى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً وعمرانياً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وزعمت أنها تمثّل ما أطلقت عليه «العالم الحر» بما فيه من قيم ليبرالية، تمجّد من الحرية والفردانية والسوق.
وإذا كانت قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان قد انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية وتكرّس بعضها في ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر عن مؤتمر «فرانسيسكو» العام 1945 بتوقيع 51 دولة عليه، فإن الحوار والنقاش اكتسب بُعداً عالمياً امتدّ لنحو ثلاث سنوات ما بعد قيام الأمم المتحدة، تتوّج بصدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول العام 1948، الذي يعدّ تطوراً مهماً يقاس به تقدّم الأمم والشعوب والدول والجماعات البشرية، لا سيما مدى تمثّل الحقوق والالتزام بها واحترامها.
واعتبر الاعلان الشجرة الوارفة التي تفرّعت عنها نحو 100 اتفاقية دولية، لا سيما بعد صدور العهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في العام 1966 كاتفاقيتين دوليتين شارعتين، ودخلا حيّز التنفيذ في العام 1976 واعتبرا أساسين للشرعة الدولية لحقوق الانسان.
وخلال فترة الحرب الباردة التي يمكن تأرختها بصيحة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل بضرورة اتحاد العالم الحر لمواجهة «الخطر الشيوعي» في العام 1947 واشتداد الصراع الآيديولوجي، فإن قضية حقوق الإنسان كانت واحدة من القضايا التي ثار الصراع حولها، واحتدم الجدل بشأنها، ولا سيّما محاولات توظيفها.
وإذا كان الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ثمرة انتشار الأفكار الديموقراطية بعد القضاء على الفاشية والنازية، حيث وردت الإشارة إليه في ميثاق الأمم المتحدة سبع مرّات، فإن إبرامه كان بمبادرة من بعض دول أميركا اللاتينية وبكفاح دبلوماسي، كان للعلاّمة اللبناني شارل مالك دور مهم فيه وفي صياغته. ومن المفارقة فإن الإعلان لم يلق اهتماماً يُذكر من الولايات المتحدة أو من دول غرب أوروبا عموماً، كما تحفظت عليه الدول الاشتراكية، الاّ أن الاهتمام اللاحق بقضية حقوق الانسان من جانب الولايات المتحدة، كان أحد وسائل الصراع ضد المنظومة الاشتراكية، خصوصاً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث كانت واشنطن تبرز أهمية الحقوق الفردية في مواجهة تمسك الاتحاد السوفياتي بالحقوق الجماعية، وتقدِّم الحقوق المدنية والسياسية، على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو الأمر الذي كان حلبة صراع ممتدة على امتداد خريطة العالم.
وخلال عهد الرئيس كينيدي تعززّت مجموعات ما يسمى بـ: تروست الأدمغة «ترسانة العقول» التي تعبّر عن مصالح المجمّع الحربي - المالي والصناعي، لشن هجوم فكري ضد الكتلة الاشتراكية، وفقاً لنظرية بناء الجسور التي قال عنها جونسون: إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار ونمط الحياة لاختراق المعسكر الاشتراكي، الذي كان يبدو منيعاً من الخارج، لكنه في واقع الأمر كان هشّاً من الداخل باستعادة فكرة جون بول سارتر.
ولم تتوان واشنطن أن تفرض رؤيتها الخاصة بحقوق الإنسان ديبلوماسياً وعبر جهد دعائي وسياسي لسنوات طويلة، ففي مؤتمر للأمن والتعاون الأوروبي الذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة إلى كندا والولايات المتحدة حدّد بيانه الختامي في 1 آب 1975، اعتبار مبادئ حقوق الانسان مبادئ آمرة Jus Cogens في القانون الدولي، أي ملزمة، وجرى التأكيد على الحقوق الفردية والمدنية والسياسية، مع إشارات إلى الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي كان سيعني، إن ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان ارتقى إلى صيغة أعلى ذات صفة إلزامية، من خلال القوى المتنفذة في العلاقات الدولية، التي استخدمته بصورة انتقائية، وكان ذلك بمثابة رأس الحربة في سياسة جيمي كارتر وما بعده رونالد ريغان.
ولم تتورع واشنطن باستخدام جميع الوسائل لتحقيق أهدافها، بما فيها توظيف مجلس الأمن والأمم المتحدة لمصلحتها، وخصوصاً بعد ضعف وانحلال الكتلة الاشتراكية، وغالباً ما كانت تلجأ إلى سلاح العقوبات بأشكالها المختلفة.
وكانت بعض الحكومات تتجه لمقايضة قبول واشنطن عن أوضاعها الداخلية، بما فيها السكوت عن حالة حقوق الإنسان، مقابل مصالح اقتصادية وقواعد عسكرية وشراء أسلحة وصفقات تفضيلية، وغيرها من المزايا والامتيازات التي تمنحها للولايات المتحدة، مقابل غضّ النظر عن حالة حقوق الإنسان.
وكانت مفوضية حقوق الإنسان وفيما بعد المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، هو من يقوم بمهمة الضغط على البلدان التي تنتهك حقوق الانسان، وإن كان في الأمر ثمة شيء إيجابي، يتعلّق بالضغط على الدول لاحترام حقوق الإنسان ومطالبتها بالالتزام بالمعايير الدولية، لكن واشنطن كانت تستغلّه لأغراض مصلحية وأنانية ضيقة، حيث تستثمر التقارير الدولية أحياناً لمصالحها الخاصة، لكن التطور الدولي على هذا الصعيد قاد إلى أن تكون تلك التقارير «واجباً» على الدول اليوم تقدّمه سنوياً لتبين التقدّم الحاصل في حالة حقوق الانسان في بلدانها، ولم يعد تقرير وزارة الخارجية الأميركية كافياً لتوجيه التهمة إلى الدول والحكومات، بل أصبحت حتى الولايات المتحدة من يقدّم تقريره الخاص باحترام حقوق الانسان، أيضاً أسوة بالبلدان الأخرى.
وبحكم وزن واشنطن وثقلها الدولي فإن تقارير وزارة الخارجية الأميركية، كانت تؤثر على مجلس حقوق الانسان، بل أن هناك تسرّباً أحياناً يأخذ طريقه بشكل أو آخر إلى بعض المنظمات الدولية بما فيها ذات الصدقية العالية، وذلك وسيلة للابتزاز والبازار السياسي، ولكن هذا السلاح أخذ يستخدم ضد واشنطن لاحقاً، وأتذكر أن وزير داخلية أحد البلدان العربية في أواخر التسعينيات عاتبني إزاء الحملة ضد بلده، فما كان مني الاّ أن أطلعته على التقرير السنوي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان الذي تضمّن تقارير عن 22 بلداً عربياً، فضلاً عن فصل خاص ضد سياسات ونهج الولايات المتحدة، الممالئ «لإسرائيل» وممارساتها العنصرية في فلسطين واستمرار احتلالها للأراضي العربية المحتلة وتنكّرها لمنظومة حقوقه كاملة، ولا سيما حقه في تقرير المصير، ناهيكم عن الموقف إزاء مفهوم «الإرهاب الدولي» الذي يستخدم بطريقة انتقائية وازدواجية.
اليوم تحاول روسيا تغيير قواعد اللعبة، فهي التي تقوم بكشف انتهاكات حقوق الانسان في الولايات المتحدة، بل إنها تستخدم هذا السلاح بعد أن احتكرته واشنطن لعقود من الزمان، وحتى لو كان استخدام هذا السلاح لاعتبارات مصلحية أو لظروف الصراع بين موسكو وواشنطن، فإن جانبه الأخلاقي يبقى مهماً، علماً أن ظروف الصراع اليوم مختلفة عن الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي السابق.
لقد اطّلعت على تقرير صدر عن وزارة الخارجية الروسية بعنوان «حالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأميركية»، حيث تم فيه رصد عدد من الانتهاكات في الولايات المتحدة خلال العام المنصرم، سواءً المتعلّقة بالحريات والحقوق والتمييز العنصري والعرقي، وقضايا التعذيب والقتل خارج القضاء (لا سيّما خارج الولايات المتحدة) والمعاملة السيئة للسجناء وتنفيذ عقوبة الاعدام، ورفض واشنطن التصديق على العديد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان، مثل اتفاقية منع التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل والاتفاقيات الخاصة بالعمالة المهاجرة والمهاجرين.
وعلى صعيد الحرّيات رصد التقرير انتهاكات ضد 80 صحافياً تعرضوا للضرب من جانب الشرطة وتتسع ظاهرة التخلي عن الإعلاميين بسبب آرائهم السياسية وانتقاداتهم للادارة الأميركية. أما بخصوص الضمان الصحي فيذكر التقرير أن أكثر من 40 في المئة لا يتمتعون به، وأن ما يزيد على 46 في المئة من السكان لا يملكون منزلاً، وأن شبكة المياه والكهرباء لا تصل إلى نحو 20 في المئة من السكان، وأن هناك نحو 12,8 مليون عاطل عن العمل.
ولعلّ التقرير الروسي الذي اقتفى أثر تقارير وزارة الخارجية الأميركية، استند إلى العديد من المصادر وإلى بعض المنظمات الحقوقية والدولية، ومثل هذا الأمر سيكون مساهمة في إثارة النقاش والجدل حول أوضاع حقوق الانسان في الولايات المتحدة بشكل خاص، والعالم بشكل عام، وهو وجه إيجابي للعولمة، حتى وإن كان القصد منه نفعياً، فموسكو المتهمة بالانتهاكات تحاول اتهام واشنطن بها، في جزء من الصراع في العلاقات الدولية ما بعد الحرب الباردة، حيث يصبح المتهِمْ متهمّاً والمهاجم مدافعاً، والأدلة كثيرة.

صحيفة السفير اللبنانية  العدد رقم  12453 الجمعة 12/4/2013