Skip to main content

دستور مصر: في الطريق إلى الاستفتاء !

باحث ومفكر عربي

ما بين استفتاء العام 2012 على دستور "الأخوان" وبين استفتاء العام 2014 على الدستور الجديد ليست أكثر من ثلاثة عشر شهراً، ولكن ثمة مياه كثيرة سارت تحت الجسور كما يقال، مثلما هناك فوارق كبيرة بين الدستورين والاستفتائين، فقد حدث الاستفتاء الأول في ظل حكم الأخوان وهيمنتهم، في حين أن الاستفتاء الثاني يحصل بعد الإطاحة بهم وفي غيابهم. 

كان الإسلاميون يشكّلون الأغلبية في لجنة صياغة دستور العام 2012، وإن شاركتها العديد من القوى الفاعلة في مصر تقريباً، لكن خلافات جوهرية وقعت في المراحل الأخيرة من إعداد الدستور، ولاسيّما بالضد من الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي، والذي وضع فيه ما يصدر عنه (الرئيس) من مراسيم جمهورية فوق المساءلة القضائية. وكانت القوى الوطنية واليسارية والوسطية شبه الليبرالية، قد انسحبت من لجنة صياغة الدستور، احتجاجاً على محاولة الأخوان وضع بصماتهم الأساسية عليه، الأمر الذي جعله مضموناً وشكلاً معبّراً عنهم أكثر من كونه دستوراً لمصر.

ولكن الرئيس مرسي بدلاً من أخذ تلك الاحتجاجات بنظر الاعتبار، تمادى في تجاوزها فدعا مجلس الشعب (البرلمان) الذي يشكّل الإسلاميون غالبيته، إلى وضع مسوّده الدستور الجديد بالسرعة الممكنة، ليتم عرضه على الاستفتاء الشعبي، وهو ما جرى بالفعل، حيث حصلت الموافقة عليه بنسبة 64% من مجموع المصوّتين التي لم تزِد عن 33%، الأمر الذي عرّض الاستفتاء والنتائج التي تمخّض عنها إلى النقد الشديد، إلى حد تقويض الشرعية الشعبية لقلّة المشاركين في الاستفتاء.

وكان النهج الإقصائي الانعزالي والشعور بالغرور الذي اتسمت به حركة الأخوان في التعامل مع القوى الأخرى سبباً في تعاظم حركة الاحتجاج التي اتّخذت طابعاً شعبياً واسعاً، وصلت ذروتها يوم 30/حزيران (يونيو) ويوم 3 تموز (يوليو) 2013، حين قرر الجيش توجيه ضربة استباقية لحسم الأمور لصالح تغيير حكومة مرسي.

وقد عمدت حكومة ما بعد إقصاء مرسي على تعديل الدستور باعتباره أولوية أولى في جدول عملها، فبعد خمسة أيام من إقالة حكومة الأخوان (أي في 8 تموز/يوليو/2013) علّق إعلان دستوري جديد، دستور العام 2012 المُستفتى عليه، ورسم خطوطاً عريضة لعملية جديدة أساسها تشكيل لجنة خبراء قانونية من عشرة أشخاص مهمتها تعديل الدستور، وبعدها تتولى لجنة قوامها 50 عضواً يمثلون الطيف السياسي والاجتماعي والتنوّع الديموغرافي والتعددية الثقافية، تتولّى مراجعة وتعديل المسودّة والموافقة عليها.

ولا شك أن لجنة الخمسين المؤلفة من قيادات وقوى مختلفة، كانت مؤيدة للحركة التي قادها الجيش لإقالة حكومة محمد مرسي، واستبعد منها الإسلاميون بشكل عام والأخوان بشكل خاص، ولم تضم في عضويتها سوى عضوين من مجموع خمسين يمثلون التوجّه الإسلامي، وكانت في أغلبيتها ممثلة لأحزاب غير إسلامية، وإن كان حضورها شعبياً فيه الكثير من التفاوت، قياساً لحركة ألخوان العريقة ذات الثمانية عقود ونيّف.

الدستور المطروح اليوم للاستفتاء يمثل موقف قوى التحالف المناهضة للأخوان وتعكس مسودته عدداً من الاعتبارات التي فرضتها عملية إقالة حكومة محمد مرسي، ومنها:

1- حظر قيام أحزاب دينية (المادة 74).

2- إلغاء تحديد مصادر الشريعة المعيّنة التي سيستند إليها التشريع والإبقاء على النص بعموميته ودون تحديد، كما ورد في مسوّدة الدستور السابق (المادة 219)، كما ألغى نص المادة 44 التي حظرت "المساس أو التجريح بجميع رسل وأنبياء الأديان" وذلك بحكم تفسيراتها المختلفة.

3- إلغاء استشارة الأزهر باعتبارها واجباً، فيما يتعلق الأمر بالشريعة الإسلامية.

وبشكل عام خفّفت صيغة الدستور الجديد من " الصبغة الإسلامية المتشدّدة والصارمة" التي أريد بها طبع دستور العام 2012، كما كانت تصرّ عليه حركة الأخوان والجماعات السلفية.

4- منح الدستور الجديد استقلالاً واسعاً للأجهزة الأمنية ولقوى الجيش وسائر المؤسسات الحكومية الأخرى التي أسهمت في الإطاحة بحكم مرسي. وقرّر إنشاء مجلس أعلى للشرطة يجب استشارته في سائر القوانين التي تتعلق بالشرطة (المادة207)، كما قرر منح كل هيئة قضائية " ميزانية مستقلة" ومنحها استقلالية في " إدارة شؤونها الخاصة" (المادة 185)، ومنح الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا صلاحية اختيار رئاسة الحكومة (المادة 193)، وأنيطت صلاحية تعيين المدعي العام للحكومة بمجلس القضاء الأعلى (المادة 189)، وكانت جميع تلك الصلاحيات من اختصاصات الرئيس حسب دستور العام 2012.

5- اعتبر الدستور الجديد الجيش عماد الدولة منذ أن كان حاكمها محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، وأبدى آيات التقدير " لجيشنا الوطني" الذي حقق " النصر" للإرادة الشعبية الكاسحة في 25 كانون الثاني (يناير) و30 حزيران (يونيو). ونصّ الدستور الجديد مثل الذي سبقه على أن يكون وزير الدفاع ضابطاً عسكرياً (المادة 201) يتم تعيينه من المجلس الأعلى للقوات المسلّحة وذلك خلال الدورتين الرئاسيتين القادمتين (المادة 234)، ويخوّل مجلس الدفاع الوطني بوضع الموازنات ومراجعتها (المادة 203)، ويسمح بمحاكمة المدنيين في محاكم عسكرية (المادة 204) (وهو ما أثار ردود فعل متنوعة من جهات حقوقية داخلية ودولية) سواءً على هذا الدور أو على الصلاحيات الواسعة الممنوحة للأجهزة الأمنية أو  لوزير الدفاع تحديداً.

6- إعطاء صلاحية مكافحة " جميع أنواع وأشكال الإرهاب" للدولة (المادة 237)، ولعلّ مثل هذا التفويض المطلق، كان قد أثار ردود فعل من جانب بعض المنظمات الدولية، خصوصاً في ظل احتدام الموقف بين الحكومة والأخوان، وشيوع أعمال إرهاب وتفجيرات وتخريب لا تزال مستمرة.

7- تضمن الدستور تطوراً مهماً في قضايا العدالة الاجتماعية، وكان لدور الأحزاب اليسارية والوطنية الوسطية وشبه الليبرالية، دوراً في ذلك بحكم أوضاع مصر الإستثنائية، خصوصاً انخفاض مستوى المعيشة ونزول فئات جديدة من السكان دون خط الفقر، إضافة إلى الأمية والتخلّف وسوء الأوضاع الصحية والخدمات التعليمية ومياه  الصرف وغيرها، ولذلك رغبت هذه القوى تعزيز دور الدولة (المادة -8) حيث تم التأكيد على توفير موارد الغذاء لجميع المواطنين (المادة- 79) وضمان المعاشات المناسبة لكبار السن بما يضمن لهم مستوىً لائقاً من المعيشة" (المادة 83) ولعلّ هذا يتطلّب إنفاقاً حكومياً كبيراً نسبياً على الرعاية الصحية والخدمات التعليمية بما فيها التعليم العالي والبحث العلمي.

إذا كان دستور العام 2012 يعكس فلسفة الأخوان، فإن دستور العام 2014 الذي سيتم الاستفتاء عليه يعكس فلسفة النظام الجديد القائم على تحالف بين الجيش وقوى وطنية، فالأول منح مرسي والإسلاميين سلطات كبيرة لتثبيت أقدامهم في الحكم الجديد، مع محاولة لاسترضاء العسكر بمنحهم استقلالاً مؤثراً، في حين أن الدستور الجديد هو نتاج تحالف من داخل الدولة (الجيش) مع قوى شعبية، الأمر الذي أعطى نوعاً من التوازن وإن كانت مرجعية الحسم بيد الجيش، الذي استبعد الدستور مساءلة وزير الدفاع خلال الدورتين القادمتين من مجلس الشعب، الأمر الذي سيعطيه حصانة سياسية وقضائية.

أغلب الظن أن الدستور الجديد الذي سيتم الاستفتاء عليه يوم 14-15 كانون الثاني (يناير) الجاري ستكون نتيجته بالموافقة أي بـ"نعم" وقد تكون بهامش كبير نسبياً، وتقدّر أن تكون المشاركة أكبر من دستور العام 2012، ولكن الأمر لا ينتهي بالاستفتاء، بل إن ما بعد الدستور سيكون هو الأهم، فهل سيستمر التحالف بين الجيش والقوى التي أيّدت إقصاء محمد مرسي، أم ثمة مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية  ستظهر على السطح، خصوصاً مدى استعداد الحكومة لتطبيق مواد الدستور المتعلقة بالعدالة الإجتماعية، في ظل الانفاق الكبير المتوقع، والذي قد يذهب بالمساعدة الخليجية الكريمة والتي بلغت نحو 12 مليار دولار، إلى التبديد في ظل غياب خطط مركزية قصيرة وطويلة المدى، ومثل هذا الأمر سيؤثر على المساعدات الدولية الموجهة إلى مصر، بما فيها المساعدة الأمريكية المتوقفة أو المعلّقة.

مصر مرهقة اقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكنها تحمّل ارهاق سياسي يزيد من صعوبات الحياة في ظل صراعات مستمرة وأعمال عنف وإرهاب، وما تحتاج إلى استقرار سياسي وتوافقات وطنية وإدماج الجميع بالعملية السياسية دون إقصاء، والتوجه لإعادة بناء الدولة العريقة، وردّ الاعتبار لهيبتها ودستورها وقضائها ومؤسساتها بشكل عام، مثلما يحتاج الأمر إلى إعادة بناء علاقاتها الدولية والإقليمية على نحو يعيد لمصر مكانتها الكبيرة وهي مكانة للعرب أجمعين.


صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 15/1/2014