Skip to main content

روسيا وأوكرانيا.. حزام الأزمات

 

عادت روسيا كقوة فاعلة بعد أعوام من الانكفاء والتراجع منذ انحلال الاتحاد السوفييتي، في العام 1991، وبالتحديد منذ عهد بوريس يلتسن، فقد سعت الولايات المتحدة بمختلف الوسائل والأساليب لإضعافها عبر خلق حزام من التوترات حولها، ولا سيّما على طول الامتداد مع القوقاز، والأمر لم يبدأ بأوكرانيا، بل كانت قبلها جورجيا ومروراً بأرمينيا وأذربيجان ووصولاً إلى قرغيزستان.

لقد حاولت واشنطن أن تجد في هذه المناطق موطئ قدم لها عبر خلق المتاعب لروسيا، تارة من خلال تشجيع أعمال الارهاب، وأخرى زرع الخلاف بين دولها وشعوبها، وثالثة عبر وضع المزيد من المشاكل أمام روسيا، لكن روسيا على الرغم من ضعفها وتراجعها، إضافة إلى هزيمتها في البلقان ولا سيّما في يوغسلافيا، ومن ثم انفصال كوسوفو عن صربيا، استطاعت إحراز انتصارات راكمتها لتجني ثمارها تدريجياً منها: نجاحها في الحرب على الارهاب في الشيشان، مثلما ألحقت هزيمة بجورجيا الموالية للغرب، وخصوصاً في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، كما تمكنت من إحداث تصدّع كبير في أوكرانيا وثورتها البرتقالية، وقيزغيريا وثورتها الوردية.

روسيا تقول إنها تقف ضد "بلقنة" المناطق المحيطة بها ولن تسمح لواشنطن بتجاوز ذلك، وواشنطن تقول إن روسيا تحاول مدّ نفوذها إلى الجمهوريات التي استقلت عنها بوسائل مختلفة فبعد أن خرجت من الباب تريد العودة من الشباك. ولعلّ ما حدث في شبه جزيرة القرم كان اختباراً للقوة ومجسّاً حقيقياً لاستعداد موسكو على المضي أبعد من ذلك للتمسك بمواقع نفوذها القديمة - الجديدة. فشبه جزيرة القرم تشكل موقعاً استراتيجياً مهماً لروسيا، وتشرف على البحر الأسود وكامل منطقة القوقاز ووجهتها نحو أوروبا، وبالتالي فإن مدّ روسيا نفوذها لهذه المناطق يعني السعي لإعادة تركيب الخارطة الجيوبولتيكية انطلاقاً من الحقائق الجديدة على الأرض.

وكانت الخطوة الثانية لاختبار القوة بعد انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، هو الاستفتاء الذي أجري في جمهوريتين (مقاطعتي) لوغانسك ودنيتسك حول حق تقرير المصير في 9 أيار (مايو) الجاري والذي أعلن فيه عن تأييد الاستقلال عن أوكرانيا بنسبة زادت على 89% لمجموع عدد المصوّتين الذي تجاوز 70 % من أصل روسي أو ناطقين باللغة الروسية، وينتظر إما تأسيس جمهوريتين مستقلتين أو الانضمام إلى روسيا لاحقاً مثلما فعلت شبه جزيرة القرم.

طرحت التغييرات التي حصلت في أوروبا الشرقية وفي أعقاب الحرب الباردة وانتهاء الصراع الأيديولوجي أو تحوّله من شكل إلى آخر، المسألة القومية والهوّية الفرعية على بساط البحث، خصوصاً في ظل انعدام المساواة والشعور بالغبن الذي لحق بالهوّيات الفرعية على حساب الهوّيات العامة. 

لقد حاول الغرب تشجيع جورجيا للانضمام إلى حلف شمالي الأطلسي العام 2008 بهدف محاصرة روسيا من الخاصرة القوقازية، لكن ردّ روسيا كان اجتياح قواتها لأبخازيا وأوستيتا ذات الأغلبية الروسية، ونرى إن مثل هذا السيناريو يعيد نفسه بالنسبة لأوكرانيا، فأغلبية سكان شبه جزيرة القرم، إضافة إلى مقاطعتي لوغانسك ودنينسك من الروس أو الناطقين بالروسية، ومن يدري فقد ينتظر الأمر خاركوف وكذلك أوديسا، تحت الحجة ذاتها.

لا تقلّ أوكرانيا أهمية عن جورجيا، بل تزيد عليها وهي التي قال عنها لينين: إذا فقدت روسيا  أوكرانيا فإنها ستكون قد فقدت عقلها، سواءً الموقع الاستراتيجي الجيو سياسي والمناطق التي يشكّل فيها الروس أغلبية، وخصوصاً المناطق الحدودية، إضافة إلى أن غالبية المعامل بناها السوفييت في الجنوب والشرق الأوكراني وتعتمد في تصديرها على السوق الروسية، مثلما يعمل نحو مليونين من الأوكرانيين في روسيا.

وإذا كان الحضور الروسي أصبح الرقم الصعب في المعادلة السورية، فإن الانشغال الأوكراني بأوراسيا يشكل الاختبار الحقيقي للقوة ليس على مستوى الإقليم، بل على المستوى العالمي، لأنه سيعيد رسم الخرائط الجديدة للمنطقة ويحدد دور روسيا كقوة عظمى جديدة بعد انكفاء وتراجع.

لقد اتّخذت الأزمة الأوكرانية منذ البداية أبعاداً واضحة ومحددة، الأولى تتعلق بالجيوبوليتيك ودور روسيا الجديد، والثاني يتعلق باستعادة أو ضم شبه جزيرة القرم والثالثة أعادت طرح مسألة الهوّية على بساط البحث، لا سيّما للقاطنين الروس في أوكرانيا، ورابعاً وضعت مسألة الحدود على بساط البحث، خصوصاً في ظل النفوذ والتمدّد الروسي.

وطرحت التغييرات التي حصلت في أوروبا الشرقية وفي أعقاب الحرب الباردة وانتهاء الصراع الآيديولوجي أو تحوّله من شكل إلى آخر، المسألة القومية والهوّية الفرعية على بساط البحث، خصوصاً في ظل انعدام المساواة والشعور بالغبن الذي لحق بالهوّيات الفرعية على حساب الهوّيات العامة، وتحت مبررات مختلفة، وهو الأمر الذي أدى إلى انفصال واستقلال العديد من البلدان، فانقسم الاتحاد السوفييتي السابق إلى 15 دولة وكياناً ويوغسلافيا تحوّلت إلى 6 كيانات وأقاليم، وانفصلت تشيكوسلوفاكيا لتقام بدلاً عنها جمهوريتا التشيك والسلوفاك، وهكذا.

وحتى داخل كل دولة شعرت التنوّعات الثقافية والدينية والإثنية، بالرغبة في التعبير عن كيانيتها على نحو مستقل أو يضمن لها التعبير عن هوّيتها وحقها في تقرير مصيرها، وقد حاولت القوى الكبرى دائماً إثارة الحساسيات ونقاط الضعف باستغلال هذه القضية المثيرة، وهو ما يحصل في أوكرانيا حالياً، حيث ترافق ذلك مع نزعات قومية، أوكرانية ذات صبغة قومية مثل إلغاء قانون اللغات الإقليمية، الأمر الذي حرّض الروس الأوكرانيين أو الناطقين بالروسية في أوكرانيا ودفعهم للبحث عن هوّيتهم الخاصة في مواجهة هوّية الأوكرانيين الذين يشكّلون أغلبية، يضاف إلى ذلك التوجه الأوكراني نحو الغرب الذي يثير حفيظة الروس سواء في أوكرانيا أو في روسيا، وهو الأمر الذي دفعهم للبحث عن السبيل للعودة لحضن الأم الدافئ "روسيا" وهو ما حصل بالنسبة لشبه جزيرة القرم، وقد يحصل للمقاطعتين الجديدتين بعد إعلان نتائج الاستفتاء بحق تقرير المصير بالانفصال عن أوكرانيا.

لقد اختارت روسيا طريق المواجهة مع الغرب في ساحة تستطيع اللعب فيها، وهي تملك الكثير من الخيارات والبدائل بيدها، في حين أن أوراق الغرب محدودة وشحيحة، وهو الأمر الذي يشجع روسيا على المضي في مشروعها، وخصوصاً مع وجود قيادة بوتين التي لها مثل هذا الطموح.

وإذا كانت روسيا قد دعت إلى احترام إرادة السكان وضرورة إجراء حوار بين المكوّنات المختلفة للشعب الأوكراني، فلأنها تدرك إن الأمر الواقع سيصبح واقعاً، فحاولت تكثيف ضغوطها المتزايدة على أوكرانيا، بتهديدها بوقف شحنات الغاز الطبيعي ابتداء من 3 حزيران (يونيو) القادم إذا لم تسدّد كييف مسبقاً ثمنها، وهو ما عبّرت عنه شركة الغاز الروسية العملاقة "غاز بروم"، وكان رئيس الوزراء ديمتري ميديديف خلال لقائه الرئيس التنفيذي للشركة الكسي ميلر، قد قال: إنهم يملكون المال للقيام بهذا الأمر. نعلم أن أوكرانيا تلقّت أموالاً من صندوق النقد الدولي بقيمة 3.19 مليارات دولار... وأضاف حان الوقت لوقف الدلال.. أبلغوهم أن عليهم الدفع مسبقاً. 

وروسيا عندما تصمم على ذلك فلأنها تدرك أن حماية خاصرتها يعني إضعاف خصمها عبر عمليات اقتطاع وضم دون أن تنسى أن عدوّها حاول بناء حزام للأزمات حولها، لجعلها تعود إلى ستارها الحديدي التاريخي، مضافاً إليه اليوم "العقوبات"، لكن التمدّد الروسي الجديد كان سريعاً وماكراً!


باحث ومفكر عربي

جريدة اليوم السعودية، 23/5/2014