Skip to main content

عاشوراء

 

مختصر سلسلة محاضرات القيت في الفترة (1 الى 13) محرم الحرام عام 1435 للهجرة الموافق (4 الى 17) تشرين الثاني 2013 ميلادية، في مجلس {هيئة اهل البيت (ع)} في عاصمة ولاية فرجينيا، ريجموند، في الولايات المتحدة الاميركية

(1)

   الشعائر، ومفردها الشعيرة، بمعنى العلامات وهي التي تهدي الانسان وتدله على شيء ما.

   ولقد وردت الكلمة أربع مرات في القران الكريم وكلها بشان الحج، حدد فيها الله تعالى علاماته ودلالاته، لعباده الذين ينوون حج بيته العتيق، فلا حج من دون الالتزام بها، وكلها رمزية، كما في قوله تعالى:

   {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم}.

  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

   {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

   {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.

   ومن خلال سياقات الايات هذه يتبين لنا بان الله تعالى رسم معالم العبادة من خلال تحديد العلامات المطلوب التوقف عندها واحترامها وعدم تجاوزها، والا فان العبادة تكون في خطر.

   كما تدلل الايات الكريمة على ان العلامة  لا تراد لذاتها وإنما لما تدل عليه، فعلامة المرور مثلا في الشارع العام لا تراد لذاتها وإنما للدلالة على حالة الطريق، ليهتدي بها السائق فلا يتعرض لحادث او يواجه مشكلة، ولذلك فعندما اعتبر القران الكريم (البدن) وهي السمينة الضخمة من الإبل، من شعائر الله تعالى فهو لم يقصدها لذاتها وانما لما اريد له الا وهو تقوى الله تعالى، من خلال الاختبار الذي يمر به المؤمن في الحج، وفيما اذا كان سيلتزم بهذه العلامة ام يتجاوزها ولا يحترمها، فقال تعالى { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} فالله تعالى لا يحصل من هذه الشعيرة على شيء ابدا وانما ما يناله الحاج من التقوى، والتي تعني خوف الله تعالى والتزام حدوده، اي شعائره وعلاماته التي حددها سلفا للحاج والمعتمر.

   ان الطريق الذي تكثر فيه علامات المرور الواضحة تقل فيه نسب الحوادث، والعكس هو الصحيح، وكذلك هو الطريق الى الله تعالى، فكثرة الشعائر تقلل من نسب الانحراف، والعكس هو الصحيح.

   فالاضحية في الحج، وهي من شعائر الله تعالى بنص القران الكريم، لا ينال منها الله تعالى شيئا وإنما يناله التقوى، اي ان العبد الحاج ألذي يسترشد بشعيرة الأضحية، من المفترض ان تنتهي به هذه الشعيرة الى تقوى الله عز وجل، فإذا ضحى بالبدن من دون ان يهديه ذلك الى التقوى فذلك يعني انه لم يهتدي بهذه الشعيرة، العلامة، فما فائدتها إذن؟.

   اذن، فشعائر الله تعالى، حددها المشرع ليهتدي بها العبد في طريقه الى خالقه، فهي ليست لذاتها وإنما لهدف اخر أسمى وأجل، الا وهو تحقيق الغاية القصوى من وجودها، واقصد بها مرضاة الله عزوجل، من خلال الاسترشاد بها والسير على هداها.

   وهكذا، فكل شعائر الله تعالى تحمل رمزية معينة وحدود مرسومة هي المقصودة منها.

   ولقد استنبط الفقهاء من هذه الآيات مشروعية الشعائر الحسينية على اعتبارها علامات تهدي الى التقوى والعمل الصالح، وهي الاخرى ليست مطلوبة لذاتها وإنما لهدف أسمى وأجل واكبر، الا وهو تقوى الله عزوجل، على اعتبار ان شعائر سيد الشهداء (ع) تهدي المرء الى الله تعالى وتقوده الى مرضاته، فإذا أنتجت هذه الشعائر خصوصية التقوى فذلك يعني انها تركت اثرها في شخصية الانسان، اما اذا لم تنتج ذلك، فهي عبث ولقلقة لسان وادعاء فارغ، حالها حال من يحج فيؤدي كل المناسك الا انها جميعا لن تترك فيه اي اثر، فما الفائدة إذن؟ اولم يقل رسول الله (ص) يصف من يمارس العبادة بلا اثر {رب تال للقرآن والقرآن يلعنه} على الرغم من ان قراءة القران من شعائر الله تعالى.

   المطلوب، إذن، ان نبحث عن رمزية الشعائر الحسينية لنهتدي بها للتي هي أقوم، وفي كل واحدة منها مثل هذه الرمزية، فالدمعة ترمز الى المظلومية، ولذلك علينا ان لا نكون ظالمين، والدم يرمز الى الجهاد، ولذلك علينا ان نجاهد انفسنا وأهواءنا من اجل ان تستقيم شخصيتنا الاجتماعية، وكذلك لنجاهد من اجل ان لا نبرر للظالم او نخذل مظلوما، ولبس السواد، علامة على الحزن الذي يجب ان يحرضنا على فعل كل ما بوسعنا من اجل ان لا تتكرر كربلاء مرة اخرى، فيقتل الحسين (ع) في كل يوم.

   ان تكرار التراجيديا يوميا في العراق، وما يتعرض له اليوم شيعة الحسين (ع) من حرب إبادة شعواء لهو دليل على ان الشعائر الحسينية التي نمارسها هذه الايام في ذكرى الطف لم تهدنا الى ما يمنع من تكرار الطف، وهذا سببه خطا الفهم والاستيعاب.

   ان عاشوراء وشعائرها وعلاماتها ونتائجها تنتج قيادات شجاعة وكفوءة قادرة على حماية نفسها وشعبها ومبادئها، فعندما لا تنتج شعائر الحسين (ع) اليوم مثل هذه القيادات فهذا يعني اننا لم نستوعب عاشوراء ودروسها.

   ان القيادات الجبانة لا يمكن ان تنتمي الى عاشوراء وان تزينت بعمامتها وعباءتها وخواتمها، فعاشوراء رمز الاباء والشجاعة والعزة والكرامة، فأين قيادات اليوم من كل ذلك؟ ودماؤنا تسيل انهارا في شوارع العراق؟.

(2)

   لم يشأ الحسين (ع) ان يفجر موقف الرفض والتحدي في اللحظة الاولى من المواجهة مع والي الطاغية يزيد على مدينة جده (ص) المدينة المنورة، الوليد بن عتبة، ولذلك سعى الى ان ياخذه باللين والرفق عندما دعاه اليه اثر وصول خبر هلاك الطاغية معاوية بن ابي سفيان ابن آكلة الاكباد، فقال له:

   { مثلي لا يبايع سرا، فاذا دعوت الناس الى البيعة دعوتنا معهم، فكان أمرا واحدا}.

   انه (ع) كان يحاول توظيف الوقت لحين بلورة مشروعه الرسالي في اذهان الراي العام.

   ولقد كان الوالي امام خيارين؛ فاما ان يقتنع بكلام الامام فيدعه ينصرف بلا اي تصعيد امني او عسكري، وبذلك يكون الامام قد وظف الزمن لصالحه، فاذا دعا الوالي الناس الى البيعة العامة فعندها سيشهر الامام موقفه امام الملأ ويكشف عن نواياه الحقيقية في رفض البيعة باسلوب حضاري وبأرقى وسائل الاعلام، اذ سيسمعه اكبر عدد ممكن من اهل المدينة المنورة، وجلهم صحابة، وهي وقتها حاضرة العالم الاسلامي ترنو اليها عيون المسلمين في كل مكان، ولهذا السبب استعجل الطاغية يزيد اخذ البيعة من اهلها قبل الاخرين.

   او ان يرفض الوالي كلام الامام فيستعجله البيعة، الامر الذي استعد له الامام من خلال اصطحابه لعدد من فرسان بني هاشم الذين وقفوا على اهبة الاستعداد عند باب الوالي، للتدخل فورا باشارة من الامام اذا ما صعد الوالي من الموقف واقتضت الضرورة.

   ولولا مروان بن الحكم لسارت الامور كما رسم وخطط لها الامام، الا ان تدخله السلبي افسد الطبخة، ان صح التعبير، فما كان من الامام الا ان يعلن موقفه بصراحة ووضوح وشجاعة في تلك اللحظة الحساسة.

   من هذا الموقف الحسيني الشهم، نستفيد الدروس التالية:

   الف: لا تكن جبانا، ولا تكن متهورا، بل ادرس الظرف جيدا وضع كل الاحتمالات نصب عينيك، قبل ان تتخذ قرارك النهائي، حتى تلك الاحتمالات غير المتوقعة فان على القائد البارع والناجح ان ياخذها بالحسبان من اجل ان لا يؤخذ بموقف جديد، فالوقت قد لا يسمح له بان يفكر به فيؤخذ على حين غرة.

   ان الشجاعة تعني القوة بتعقل، وهي تختلف عن التهور بعقلانيتها، فما فائدة ان يرمي القائد نفسه في الازمات او يسعى لصناعتها قبل ان يخطط للامور ويتدبر العواقب؟.

   باء: وظف المنطق والهدوء باعلى درجاته، فقد يلين، بتشديد الياء الثانية، اقسى القلوب ويستميل اليك اشد المواقف، ولذلك فعندما امر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام واخاه هارون للذهاب الى الطاغية المتجبر الذي كان يدعي الربوبية، فرعون، لتبليغه الرسالة، خاطبه بالقول  {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي* اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.

   فاذا كان الحديث مع الطاغوت بلين، فكيف سيكون حديث بعضنا مع البعض الاخر؟ لماذا نستخدم العنف اللساني عندما نتحدث مع بعضنا؟ لماذا لا يتعلم الاب كيف يتحدث برفق ولين مع ابنه؟ لماذا لا تتحدث الام برفق مع ابنتها وهي تعلمها وتزكيها وتؤدبها؟ لماذا يتعامل المسؤول مع المواطن بعنف وقسوة؟ لماذا ينتقد المواطن الحاكم بقسوة في اللسان؟ لماذا لا ندرب انفسنا على الحديث بهدوء ولين؟.

   لقد وردت الكثير جدا من الروايات عن رسول الله (ص) تحث على اللين والرفق فلقد قال (ص):

  {إن من موجبات المغفرة بذل السلام، وحسن الكلام} {من خير ما ظفر به الإنسان اللسان الحسن} وفي وصية له (ص) لبعضهم {أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح} وعنه (ص) {لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه} فيما يقول امير المؤمنين (ع) {ان لسان المؤمن من وراء قلبه، وان قلب المنافق من وراء لسانه: لان المؤمن اذا اراد ان يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فان كان خيرا ابداه وان كان شرا واراه، وان المنافق يتكلم بما ياتي على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه}.

   وعن ابي جعفر الصادق عليه السلام في تفسيره للاية المباركة {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} قال {للناس كلهم}.

   وباللسان يداري المرء الناس، فلقد قال رسول الله (ص) {انا امرنا، معاشر الانبياء، بمداراة الناس كما امرنا بأداء الفرائض، او بتبليغ الرسالة} والمداراة، كما هو معروف، نصف العقل، كما ورد في الاثر.

   ان للاسلوب في طرح الفكرة وفي الحوار مع الاخر دور مهم جدا في عملية التفاهم المتبادل والاقناع، ولذلك نرى ان القران الكريم رسم لنا طريقا استراتيجيا رائعا للاسلوب، فقال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ولا يتحقق ذلك الا اذا كان المحاور على علم وبصيرة ووعي بما يريد قوله، واثق من نفسه، غير شاك بعقيدته، فقال تعالى متحدثا على لسان رسوله الكريم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فيما رفض تعالى للمحاور ان يوظف الكلام البذيء والاساليب القذرة في الحوار، كما يفعل اليوم كثيرون، فقال تعالى {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لان توظيف الطرق الملتوية في الحوارات دليل على افلاس اصحابها، اما صاحب الحق الواثق من نفسه فان سلاحه الحوار بقوة المنطق وبالدليل العلمي الرصين، وبمراجعة متانية لكل خطب ورسائل واحاديث الامام الحسين (ع) فسنجد انه جسد كل معاني الحكمة وهو يجادل جيش البغي وقادته الطاغية يزيد والدعي ابن الدعي وابن سعد وغيرهم، على الرغم من عظم الجريمة وخطر الفعل الذي ينوون اقترافه بحق سبط رسول الله (ص) الا ان كل ذلك لم يبرر للامام الخروج عن المنهج السليم والقويم في التعامل والحوار مع الاخر ايا كان.

   اننا اليوم باحوج ما نكون الى ان نتعلم فن الحوار والجدال بالتي هي احسن، سواء فيما بيننا او مع الاخر ايا كان، وعلى مختلف الاصعدة الفكرية والسياسية والثقافية والعقدية وغير ذلك، اما سياسات التشهير والتسقيط  والسب والشتم والتهجم ورش الغسيل القذر، فان كل ذلك لا يخدمنا ابدا ونحن نسعى لاقناع العالم بما عندنا وبما نحمل من منهج حسيني رسالي عظيم.

 

 (3)

   الحسين (ع) خط، ويزيد لعنه الله تعالى خط، لا يلتقيان ابدا مهما امتدا في التاريخ والمستقبل، ولقد اوضح الامام الحسين (ع) هذه المعادلة بشكل واضح وجلي بقوله مخاطبا والي يزيد على المدينة المنورة الوليد بن عتبة بعد ان حرضه مروان بن الحكم على قتل الامام او اجباره على اخذ البيعة فورا { إﻧﺎ أھل ﺑﯾت اﻟﻧﺑوة، وﻣﻌدن اﻟرﺳﺎﻟﺔ، وﻣﺧﺗﻠف اﻟﻣﻼﺋﻛﺔ، وﻣﺣل اﻟرﺣﻣﺔ، ﺑﻧﺎ ﻓﺗﺢ ﷲ وﺑﻧﺎ ﯾﺧﺗم، وﯾزﯾد رﺟل ﻓﺎﺳق، ﺷﺎرب ﻟﻠﺧﻣر، ﻗﺎﺗل اﻟﻧﻔس اﻟﻣﺣرﻣﺔ، ﻣﻌﻠن ﺑﺎﻟﻔﺳق، وﻣﺛﻠﻲ ﻻ ﯾﺑﺎﯾﻊ ﻣﺛﻠﮫ، وﻟﻛن ﻧﺻﺑﺢ وﺗﺻﺑﺣون، وﻧﻧﺗظر وﺗﻧﺗظرون أﯾﻧﺎ أﺣق ﺑﺎﻟﺧﻼﻓﺔ واﻟﺑﯾﻌﺔ} فالعبارة (مثلي) تشير الى الخط الذي يمثله الامام، اما (مثله) فتشير الى الخط الاخر.

   خط الحق هو خط الحسين (ع) ومن والاه وتشيع له وسار على نهجه والتزم به وجسده في حياته اليومية، وخط الباطل هو خط الطاغية يزيد ومن والاه وتشيع له ودافع عنه وبرر له وسار على نهجه.

   ليس الزي هو الذي يميز بين الخطين، وليس الانتماء بالهوية هو الذي يميز بينهما، وليس التاريخ او الجغرافيا او الاسم والرسم او العنوان والشعار، هي التي تميز بين الخطين ابدا، انما الذي يميز بينهما هو المعاملة والسلوك اليومي، اولم يقل جد الحسين (ع) {الدين المعاملة}؟ فكم من مدع للتشيع وهو يخوض في خط يزيد؟ وكم من مدع لحب الحسين (ع) وهو يخوض في نهج الطاغية يزيد؟ وكم من (معمم) او (سيد) او (شيخ) او سم ما شئت واذكر من احببت من عناوين وازياء ورموز، تخوض في الخط الاموي؟.

   خط الحسين (ع) ليس ادعاءا ابدا، وهو ليس انتماء بالهوية او بالتوارث ابدا، كما انه ليس حكرا لاحد دون احد، انه خط يستوعب كل الناس في كل زمان ومكان، وان من يشيعوا الحسين (ع) مجرمون، وان من يسجنوا الحسين (ع) في انتماءاتهم الضيقة كذابون، فخط الحسين (ع) لا يحده شيئ من التاريخ والجغرافيا ابدا، فلماذا نغلق الانتماء على انفسنا فحسب وندعي ان الحسين (ع) لنا دون غيرنا؟ ومن قال باننا اولى بالحسين (ع) من غيرنا؟ الم يستشهد بين يديه في كربلاء في عاشوراء غير المسلم؟ وغير الشيعي؟.

   ان من يدعي الانتماء الى خط الحسين (ع) عليه ان يتميز على الاقل بواحدة من صفاته وخصاله الحميدة، فلا يكون جاهلا ولا يكون متعصبا ولا يكون متطرفا ولا يكون كارها لغيره محبا لنفسه.

   فلقد وصف الامام امير المؤمنين عليه السلام اتباع خط الحسين عليه السلام بقوله في وصيته الى ابنه السبط الحسن المجتبى، فقال له:

   { يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ، وَاعْلَمْ، أَنَّ الاْعجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الاْلْبَابِ، فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ}.

   ان من ينتظر ان يقدم له الناس كل شيء من دون ان يقدم لهم اي شيء، ليس في خط الحسين (ع)، كيف والحسين (ع) قدم كل شيء من اجل الانسان؟ وان الذي يظلم فلا ينصف الناس من نفسه، يظلم زوجته ويظلم ابنه ويظلم زميله ويظلم شريكه ويظلم الرعية ويتجاوز على المال العام، ويحمي شرار قومه، حزبه او عشيرته او منطقته لا فرق، ويعرض خيار قوم آخرين للخطر، ليس في خط الحسين (ع)، كيف والحسين (ع) حجز القلب عندما صف اهل بيته واصحابه في ساحة المعركة؟ وكان قد قال لهم {نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة}؟ الم يصطحب رسول الله (ص) اعز الناس اليه في يوم المباهلة، واقصد بهم ابنته الزهراء وبعلها امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وابنيها سيدا شباب اهل الجنة الحسن والحسين (ع)؟ ليعلمنا الايثار والفعل قبل ان نطلب من الاخرين شيئا؟ قال تعالى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.

   ان الانتماء الى عاشوراء يحتم على صاحبه الفعل قبل القول، والمبادرة قبل الطلب من الاخرين، فلا يناقض قوله فعله، وعمله دعوته، ولقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ولقد جسد رسول الله (ص) واهل بيته هذه الحقيقة في كل قول وفعل، فهذا امير المؤمنين (ع) يحدد لنا موقع رسول الله (ص) في ساحة المعركة قائلا {كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه} كما انه (ع) يتحدث عن نفسه فيقول {وقَدْ أَرْعَدُوا وَأبْرَقُوا، وَمَعَ هذَيْنِ الاْمْرَيْنِ الفَشَلُ، وَلَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ، وَلا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ} فلا يسبق كلامه فعله، او ادعائه عمله وانجازه، ابدا، وهو القائل {أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَة إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَا كُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا}.

   وان من مميزات انصار الحسين (ع) المبادرة كما كان امير المؤمنين (ع) الذي يصف نفسه بالقول {فَقُمْتُ بِالاْمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَعْتَعُوا، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللهِ حِينَ وَقَفُوا، وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلاَهُمْ فَوْتاً، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا، وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا، كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ، وَلاَ تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ.

لَمْ يَكُنْ لاِحَد فيَّ مَهْمَزٌ، وَلاَ لِقَائِل فيَّ مَغْمَزٌ} لماذا؟ {وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاج مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً}.

   ان انصار الحسين (ع) على بينة من امرهم، واثقون بانفسهم، لا يناقض قولهم فعلهم ولا تسبق دعوتهم غيرهم فعلهم بانفسهم، ولذلك يتركون دائما اثرا طيبا، بصدقهم مع الله تعالى ومع انفسهم ومع الاخرين.     

(4)

   الناس اصناف في المجتمع، فمنهم من يخرج على السلطة لشر ما، وهم الخارجون عن القانون، همهم التجاوز على القانون واثارة الراي العام وبث الفرقة في المجتمع، وهذا هو الاشر من الناس، وجمعه الاشرار.

   الثاني، هم الذين يخرجون على السلطة لا لشيء الا ليعرفوا بانهم ضدها، على قاعدة (خالف تعرف) سواء كان هذا الخروج يحقق مصلحة ام لا؟ وسواء اثمر شيئا ام لا؟ وهؤلاء هم البطرون، وهم المتسرعون ذو حدة وعنف، خاصة الذين يمتلكون المال الكثير، فيسخرونه لثورة بلا معنى ولحركة بلا هدف، قد يظنون انهم يفعلون خيرا، الا انهم ليسوا كذلك، ولقد تحدث عنهم القرآن الكريم بقوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.

   الثالث: وهم الذين يخرجون على السلطة ليفسدوا في الارض، فهم اما قطاع طرق او لصوص او قتلة وارهابيون، ولقد تحدث عنهم القرآن الكريم بقوله {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهذا الصنف من الناس هو الاخطر في المجتمع وعليه لانه يصيب الامن المجتمعي والسلم الاهلي في مقتل، فهو تهديد مستمر ودائم لهما، ولذلك شدد المشرع في عقابه.

   الرابع، هم الظالمون الذين يخرجون على السلطة فيظلمون ويعتدون ويتجاوزون، وذلك عندما تتعرض مصالحهم الخاصة للخطر، وهؤلاء هم كذلك همهم التجاوز ليس على السلطة وانما على النالس، لاثارته على السلطة بلا هدف، وبالتالي ليستفيدوا من حالة الهرج والمرج التي يصاب بها المجتمع جراء افعالهم الدنيئة، انهم الوصوليون والنفعيون الذين يرون من حولهم من ثقب مصالحهم الخاصة فقط، فاذا كانت آمنة فالحاكم برايهم افضل الموجودين مهما ظلم الناس، اما اذا تعرضت للخطر فعندهم السلطة اسوا ما هو موجود، حتى اذا كانت قد حققت نسبة عالية من العدل والمساواة في المجتمع.

   انهم فئة الظالمين، لانهم لا يقدرون السلطة مهما كانت عادلة، ولا يساهمون في استتباب الامن والمساعدة في تحقيق الاهداف العليا للمجتمع، لانهم انانيون واستئثاريون، ليس من مصلحتهم ان يستقر البلد.

   اما الحسين بن علي عليهم السلام فقد خرج على السلطة لتحقيق ثلاث غايات مقدسة حصرا، ليس منها الشر والبطر والفساد والظلم، الا وهي، كما وردت في نص وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية عندما غادر مدينة جده رسول الله (ص) المدينة المنورة مهاجرا الى مكة المكرمة، يقول فيها:

   {إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين}.

   اهداف واضحة جدا، ومبتدا ومصير واضح جدا هو الاخر، فمحور عاشوراء (قبول الحق) ليس للانا فيها مكان، وليس للظلم فيها مكان، وليس للدنيا فيها مكان.

   هذا يعني، انه:

   اولا: لا تكون الحركة الاجتماعية سليمة اذا لم تحقق شيئا من هذا.

   ثانيا: لا يكون طلب السلطة امرا سليما اذا لم يحقق شيئا من هذا.

   ان الذين يقودون ثورة ما من دون التفكير الجدي في سبل تحقيق الاصلاح او التغيير المجتمعي الحقيقي او التزام السيرة التي تنتهي الى تحقيق العدل والمساواة والتكافل الاجتماعي، لهي حركات وثورات وسلطات فاسدة لا تغني ولا تسمن من جوع.

   اما الذين ظلوا يرفعون شعار الجهاد والنضال والثورة على الظالم لازاحته عن السلطة والوصول اليها لتحقيق اهداف المجتمع في الحرية والمساواة والعدل، ثم يتبين، فيما بعد، بانهم كانوا يريدون السلطة لذاتها، فبمجرد ان يصلوا الى السلطة وياخذوا بزمام الامور اذا بهم يمارسون ما كان يمارسه الطاغوت من ظلم وقهر وتعسف وتمييز ولصوصية وتجاوز على حقوق الناس وصناعة الازمات وغير ذلك، ان هؤلاء ابعد ما يكونوا عن الحسين (ع) وقيمه ومبادئه وان رفعوا شعاراته وحملوا راياته واقاموا مجالسه في وزاراتهم ودوائرهم ومكاتبهم الرسمية، فلقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {لا يخدع الله عن جنته} فاذا كان السذج من الناس والبسطاء من العامة تخدعهم الشعارات واللافتات والرايات العالية ودموع التماسيح التي يذرفها امثال هؤلاء على الحسين (ع) فيسيرون وراءهم مغمضي العيون لا يفقهون شيئا، يصفقون لهم وينعقون خلفهم، فان الله تعالى لا تخدعه المظاهر، فيومهم قريب، وحفر الدنيا قائمة لهم حتى قبل حفر النيران.

   انهم يتاجرون بالحسين (ع) ويتاجرون بالدمعة، ويتاجرون بمعاناة الضعفاء.

   انهم التجار الذين يوظفون قيم وعواطف اقدس نهضة في تاريخ البشرية بعد البعثة النبوية الشريفة، من اجل تحقيق مآرب دنيئة ومصالح ضيقة، للاستمرار في سلطة زائلة لا تساوي شيئا مقابل الحقيقة.

   والسؤال: ما هي الظروف السياسية والاجتماعية التي تحتم على المصلح ان ينفض عن نفسه غبار السكون والسكوت ليقود عملية الاصلاح؟.

   يقول الامام الحسين (ص):

   {ايها الناس: ان رسول الله (ص) قال؛ من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناكثا عهده مخالفا لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير}.

   وقبله (ع) حدد ابيه الامام امير المؤمنين (ع) فلسفة السلطة بقوله {اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَان، وَلاَ الْتمَاسَ شِيء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الاْصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ} كيف؟ من خلال المواصفات التالية التي ينبغي ان يتصف بها امام العدل {وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالاَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الجَائِفُ لِلدُّوَل فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْم، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلاَ الْمَعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الاُمَّةَ}.

   فالسلطة من اجل الاصلاح والامن والكرامة والحرية والعدالة والتكافل الاجتماعي، وان اية سلطة لا تحقق ذلك في المجتمع فهي سلطة باطلة، حتى اذا اتشحت بسواد عاشوراء واقامت على الشهيد المآتم، ونشرت في الطرقات قدور الطعام.

 (5)

   يكفي ان يتعرض مواطن واحد للظلم ليثور المجتمع ضد السلطة، فلماذا لم نجد ذلك يحدث اليوم على الرغم من تراكم الظلم ليس ضد مواطن واحد وانما ضد اغلبية المجتمع؟ سواء في العراق او في غيره؟.

   لقد ذكر، بتشديد الكاف، الامام الحسين (ع) جيش البغي بهذه الحقيقة، في محاولة منه لتحريضهم ضد الظلم والظالم بقوله في احدى خطبه، مبينا الخيط الابيض من الخيط الاسود في قضية الامرة:

   {أيها الناس إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد(ص) أولى بولاية هذا الأمر من المدعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان}.

   فعندما ينزو على السلطة من هو غاصب لها، مكره الناس على ما لا يريدون، ثم يمارس الظلم والعدوان ضد المجتمع، فعندها يجب ان يفكر المجتمع بالاصلاح والتغيير، فمتى يستسلم الناس للظالم، اذن؟.

   هنالك،مجموعة اسباب هي التي لا تدع المجتمع ان يفكر بالثورة على الظلم والخروج على النظام السياسي الظالم والفاسد، منها على سبيل المثال لا الحصر:

   اولا: سيطرة المصالح الخاصة الضيقة والانانيات على حركة المجتمع، فعندما لا يفكر المواطن بغير مصالحه الضيقة ويترك المصالح العامة يعبث بها الحاكم بحجج واعذار مختلفة، فان الثورة وعمليات التغيير الاجتماعي تكون بعيدة المنال جدا، ولذلك فان المجتمع الذي يصاب بمرض الانانية لهو مجتمع ميت لا حياة فيه، فاذا غلبت الـ (أنا) الـ (نحن) فان المجتمع يموت، بعد ان تموت احاسيسه ازاء بعضه.

   ولقد حث المشرع في الكثير من آيات القرآن الكريم، وكذلك رسول الله (ص) واهل بيته (ع) على مبدا التكافل الاجتماعي للحيلولة دون سيطرة الانانية على ثقافة المجتمع، سواء من خلال الحث على اهمية احساس الفرد بمعاناة المجموع، او من خلال الحث على الايثار ورفض الاستئثار والاحتكار، او غير ذلك.

   يقول تعالى عن الايثار {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وعن الحب الاجتماعي والتراحم يقول تعالى {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وعن الرحمة المجتمعية يقول تعالى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.

   اما رسول الله (ص) فيقول {ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا} و {من غش فليس منا} و {لا ضرر ولا ضرار} و {ليس منا ذو حسدٍ ولا نميمةٍ ولا كهانةٍ ولا أنا منه} و { ليس منا من وسَّع الله عليه ثم قتَّر على عياله} و {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ومن لم يوقر كبيرنا ومن لم يعرف لعالمنا حقه} و {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به} و {مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى} و {ملعون ملعون من ضيع من يعول}.

   اما امير المؤمنين (ع) فيقول في وصيته للحسنين عليهما السلام {وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ لِلاْجْر، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً} ويضيف (ع) {أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ الصِّيَام}.

   ويضيف (ع) {اللهَ اللهَ فِي الاْيْتَامِ، فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُم.

   وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ}.

   ويوسع الامام في المسؤولية الاجتماعية ويشدد عليها بقوله {واعلموا أنكم مسؤولون حتى عن بقاع الأرض وبهائمها}.

   لماذا كل ذلك؟ الجواب: لان مصير المجتمع واحد ومصالحه متداخلة، ولذلك قال تعالى في الدماء تحديدا، وهي اعظم الجرائم التي ترتكب في المجتمعات {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.   

   ثانيا: اشتراك كل المجتمع او اغلبه بمرض السلطة في اللصوصية والتجاوز على حقوق الناس والفساد المالي والاداري وغير ذلك.

   لقد اشار الامام الى هذه الحقيقة عندما حاول ان يحدث جيش البغي بالحق ليكشف لهم الحقائق ويبصرهم موقفهم المخزي فرفضوا الاصغاء اليه، فقال لهم عليه السلام:

   {ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إلي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاص لامري غير مستمع لقولي، قد إنخزلت عطياتكم من الحرام وملئت بطونكم من الحرام، فطبع الله على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟}.

   فاذا رايت مجتمعا مظلوما ومع ذلك قابلا بحاله لا يغير ولا يبدل ولا يسعى للتغيير ولا ينتقد الحاكم الظالم ولا يحرك ساكنا، فتاكد بان هذا المجتمع متورط بما تورط به النظام السياسي، من مفاسد ومظالم، لماذا؟ لان الفاسد لا يتحرك ضد فاسد، وان اللص لا ينتقد لصا بفعلته، وان ظالما لا ينتقد ظالما على ظلمه، فاذا كان المجتمع كحاكمه لصا وظالما ومعتديا بعضه على بعض، ياكل الحرام كالحاكم، ويتجاوز على حقوق الايتام كالحاكم، ويسرق لقمة العيش من جيرانه كالحاكم، فكيف تنتظر منه ان يقود ثورة ويتحرك لتغيير ما عليه من قول او فعل؟.

   لنعد الى قول الامام الانف الذكر من اجل ان نعرف جيدا ظروف الثورة، اية ثورة، انها:

   الف؛ الظلم والجور.

   باء؛ نكث العهود والوعود الانتخابية.

   جيم؛ مخالفة الدستور والقانون.

   دال؛ الآثام والعدوان على الحقوق.

   هذه هي مبررات الثورات الاجتماعية التغييرية، فاذا وجدت في المجتمع وتورطت بها السلطة ولم يغير الناس لا بقول ولا بفعل، فهذا يعني ان الله تعالى سيورط المجتمع بما تورطت به السلطة.

   ففي المأثور {أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ أَنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ، قَالَ : يَا رَبِّ، هَؤُلاءِ الأَشْرَارُ، مَا بَالُ الأَخْيَارُ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي، وَكَانُوا يُؤَاكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ} والعكس هو الصحيح، فاذا وجدت في المجتمع فئة صالحة، ولو قليلة، فان الله تعالى قد يدفع بها غضبه وعقابه وانتقامه عن كل المجتمع، فعن رسول الله (ص) ان الله تعالى يقول {إني لأهمّ بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرتُ إلى عمّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين في الله، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفته عنهم} وعنه (ص) عن الله تعالى في حديث قدسي شريف {إنّ الله تبارك وتعالى إذا رأى أهل قريةٍ قد أسرفوا في المعاصي وفيها ثلاثة نفرٍ من المؤمنين، ناداهم جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه:

   {يا أهل معصيتي: لولا مَن فيكم من المؤمنين المتحابّين بجلالي، العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي، والمستغفرين بالأسحار خوفاً مني، لأنزلت بكم عذابي ثمّ لا أبالي}.    

   وبقراءة سريعة لحال الشعوب المظلومة فسنجد المعادلة صحيحة مئة في المئة.

   انها سنة الله في عباده، فهل من عاقل يعتبر ويتعظ، فيغير؟.

(6)

   للحق رجال، وللباطل رجال.

   للاصلاح رجال، وللتخريب رجال.

   للبناء رجال، وللهدم رجال.

   عاشوراء كانت من اجل الحق وللاصلاح والبناء، لذلك كان رجالها استثنائيين في كل شيء، في صفاتهم ومواقفهم وتضحياتهم وفي كل شيء، فمن يريد الحق والاصلاح والبناء يلزمه ان يتعلم منهم، فما الذي تميز به رجال عاشوراء، الذين وصفهم سيد الشداء (ع) بقوله {فإنى لا أعلم أصحاباً ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي، فجزاكم الله عنى خير الجزاء؟} او كما قال عنهم عندما سالته اخته العقيلة زينب (ع) للاطمئنان على موقفهم من اخيها { أخي حسين، هل استوثقت من أصحابك؟ هل بلوتهم؟ هل اختبرتهم؟ أخاف أن يسلّموك عند الوثبة، أخي حسين جرّبهم واختبرهم} فرد (ع) عليها قائلا {والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه}.

   1ـ التحرر من كل شيء، والعبودية لله وحده، فلم يخافوا من القتل ولم يستسلموا لاغراءات الطاغوت، ولم تضللهم دعايات الحكم الاموي، فكانوا المصداق لقول الله تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فعندما اطلق سيدهم الامام الحسين (ع) صرخته {هيهات منا الذلة} كانوا ممن شملتهم الصرخة باصدق واعمق معانيها.

   ان الذي يتبع المطامع لا يمكنه ان يبني شيئا، وان الذي يعبد الطاغوت او يعبد شخصية القائد او المسؤول لا يصلح شيئا ابدا، لان الاصلاح والبناء واقامة الحق يتعارض والعبودية لغير الله، خاصة للاهواء والشهوات، ولهذا السبب كانت من اولى مهام الرسل والانبياء هي تحرير الناس من عبودية غير الله تعالى، والى هذا المعنى اشار الامام امير المؤمنين عليه السلام بقوله {لاَ يُقِيمُ أَمْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ إلاَّ مَنْ لاَ يُصَانِعُ، وَلاَ يُضَارِعُ، وَلاَ يَتَّبِعُ الْمَطَامِع} فالذي يصانع في الحق، اي يداري فيه، لا يقيمه، كما ان الذي يتشبه في عمله بالمبطلين لا يصلح الامور، فهو يفسد اكثر مما ي