Skip to main content

عذراً...كلمتان في مسيرة الحياة

عذراً...كلمتان في مسيرة الحياة

 

                                                                           المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء

            عندما ننظر إلى تاريخ عالمنا وحالته الحاضرة بعلومه وتقدمه وبدواعشه تغمرنا التعاسة والقلق حيث نرى ونسمع ونشاهد ما يحدث وما يحصل من إجرام وظلم وفساد، وما تنتجه الكوارث من مآسي وخسائر بشرية ومادية، والأدهى ، أن الإنسان الذي مارس قديماً إجرامه ووحشيته على أخيه الإنسان ما زال يقوم اليوم  بالاعمال عينها. وبسبب هذه التناقضات الصارخة كثرت هموم الإنسان ومشاكله، وأصبحت مسالك الحياة خطرة، ولا زال البشر الأبرياء يتألمون من آفات الحروب والنزاعات التي تلقي  بثقلها على الحياة الخاصة، فردية كانت أم عامة، وأصبح وجودنا نحن المسيحيين في الشرق قضية موت أو حياة. نعم، إنها مرحلة شديدة الخطورة ولا نعلم مداها وتبعاتها، هل هي على المدى القريب أو على المدى البعيد!.

هذا حالنا:

            هذا هو حالنا أمس واليوم، ففي الأمس القريب والبعيد ثمّة توترات وصراعات نشبت منذ البدايات بين البشر كما بين أتباع المسيح حول السلطة والأولوية، وكذلك خلافات في البقاء والوجود، وهذه كلها كانت مليئة بمشاعر الحسد والغيرة والأنانية والبغضاء والكراهية، كما نخرت في جسم الكنيسة الواحد، في حين أن الرب وصية واحدة أعطانا وهي" وصية المحبة الإلهية"(     ) ، لذلك نرى الكثيرين ومنهم الأقربين تعساء أكثر من كل الناس لأنهم لم يعيشوا هذه المحبة بكل أبعادها، بل بالعكس فقد راحوا يعيشون أحياناً إنسانهم القديم الذي لا يصير أو يرفض أن يصير إنساناً. وكما كان حال التلاميذ أمس هكذا حالهم اليوم إذ ليس أفضل من حال مَن سبقوهم.

            يكفي أن نلقي نظرة سريعة إلى حالهم اليوم لنرى كم أن هناك خصام وانقسام ونزاع وصراع،  وعشائرية وطائفية وقومية ومحسوبية بدل الوئام والإنسجام والسلام ووحدة الهدف والغاية، وهذا ما يجعلنا أن نرى أيضاً كم أن مشاعر الغيرة والحسد والحقد والكراهية والإنفرادية والمصلحية تعتمر قلوب الكثيرين منهم ، ويستثمرون هذه بدل تلك، وهذا ما يجعلني أن أقول أننا لم نستفد من عِبَر الماضي البعيد والقريب، ولم نحصد ثمار آلامنا وهزيمتنا وتهجيرنا كي نكون في الوحدة والتماسك والتجديد واحترام القيم في قول الحقيقة عبر مسيرة الحياة.

رسالة حقيقة :

            أقولها، إذا أردنا أن نكون أوفياء لمسيحيتنا علينا أن لا نخاف مظالم الناس بل نعلنها للملأ بكل شجاعة، كما علينا أن نبقى في مقاومة الظلم والعنف والفساد، وكفانا أن نُجلس الفاسد في أولى الصفوف ونبجّلُه بما لا يستحق، ونستقبله بأجمل ترحيب وكأنه أمير أُرسل من قِبَل ربّ العباد، وهذا ما يجعل رسالتناالمسيحية رسالة خنوع وليست رسالة حقيقة. وصحيح أنه لم نُخلَق ولا يجوز أن تكون مهمتنا الدخول في صراع، بل لا يجوز أيضاً أن نكون خانعين أمام المظالم وعبيداً سيئين أمام محبّي المصالح الضيقة وإرادتهم الفاسدة وشهواتهم الشريرة وشهاداتهم المزيَّفة والزورية.

حواء الامس:

            صحيح نحن المسيحيين عانينا ولا زلنا، واحتملنا الآلام بصبر وإيمان ولا زلنا حتى الساعة، والخوف يملأ قلوبنا من الآتي إلينا، ولا زال لبعض منا بذرة الإيمان لديهم لا تدعهم يغادرون أرض أجدادهم، ولكن كما كانت حواء بالأمس ،لا زالت اليوم تلعب دور الرحيل والهجرة بطرق بائسة مدَّعية أن الله لا يتذكّرهم، وأن أقرباءها ينتظرونها في أرض الله الواسعة، فتُفسد حياة الشهادة في أرض الأجداد من أجل الرحيل نحو أرضٍ تدرّ لبناً وعسلاً، فتُهدي لآدم تفاحة ألكترونية ، لأنه لا يمكنها أن تبقى صامتة أمام ما يحصل دون أن تلعب دوراً في إفساد بذرة الخليقة على صورة العلي ومثاله (تك26:1) من أجل أن تجعل من حب الأرض ضياعاً وفقداناً وموتاً، وهذه علامة من علامات الزمن... إنها أميرة الدنيا أمام آدم الضعيف، ووزيرة الجنة أمام الثقافة الإلكترونية، وفي هذا فقدنا الإنسان وفقدنا قيمته كما فقدنا الأرض ومُلكيتها، وغفلنا عن نداءات المعابد وخدّامها في أن نكون شهوداً وشهداء ليس إلا!.

حياة وموت:

            من المؤكد أننا بقدر ما نتغنّى بالمسيحية ورسالتها وعظمة إنجيلها إنْ لم نحياها كمسيحيين فأي دينونة تنتظرنا؟، وكيف سنقف أمامها؟، فعلينا أن نصغي ونحفظ ما كُتب إلينا وما سلّمنا إيّاه سيد السماوات حيث عاشه الكثيرون ولم يكن يوماً كلاماً ونظريات، بل كان المسيح بيننا ومن بعده رسله، وما تلك إلا وديعة الإيمان. ولنعلم أن الله يريد أن يجلب الحياة حيث يوجد الموت، وكفانا من الفقر الإيماني والروحانية الصحراوية، فلا زلنا نفتش عن المال والسلطة بينما الحقيقة تدعونا إلى أن نقرأ كتاب حقيقة إيماننا ووجودنا ومسيرتنا لندرك أنه كتاب مؤلم بسبب انقساماتنا وطائفيتنا ومصالحنا. ولا يجوز أن يبقى الإنجيل بعيداً عن مسيرة حياتنا، فإذا استمر التباعد بيننا وبين معابدنا ورجالها ، فلن يكون هناك مستقبل لمسيحيتنا ولمسيحيينا في أرضنا وربما نقرأ السلام في آخر المطاف.       

مواطنة واصالة :

إنني أخاف أن تضيع المواطنة والأصالة في أرض أجدادنا بسبب انقساماتنا وفي ذلك سنشابه الجنود الذين "ليتم الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة" (يو19: 23- 24، مز22: 18). ، كلٌّ يريد حصّته ويرحل، وفي هذا أخاف أيضاً أن يمحو التاريخ وجودنا بعد الذي نشهده على ساحة الوطن وساحة بخديدا من خلاف واختلافات، من مصالح وعشائريات، من طوائف وكيانات، من تكتّلات وتشكيلات، من أقوياء وضعفاء، من فقراء وأغنياء، من آدم وحواء، من مصالح وفساد، ويُكتَب بدلَ هذا التاريخ الأصيل الذي عاشه أجدادنا وآباؤنا وبُناة ديارنا ومعابدنا وكنائسنا وحضاراتنا، يُكتَب تاريخاً مزيَّفاً يهوى مصالح البشر وأهداف الحركات والأحزاب والتكتّلات والطائفيات والأئتلافات ، بأسطر حماية الفاسد المعروف والذي يحميه كبار الزمن، فما ذلك إلا تدمير لحقيقة التاريخ ومسيرة المسيحية في أرض الوطن المباع مع الشعوب الأصيلة، وإعلانٌ بزوالنا من حقيقة أرضنا بسبب غايات ومسمّيات وديموغرافيات متعددة لأنه لا مجال للأصلاء أن يُظهروا حقيقتهم خوفاً من أقرانهم البائسين والفاسدين الذي يطلقون شعارات فارغة لكسب عددٍ من الأبرياء الأصلاء، لذا فمن المؤكَّد أن حقيقتهم ستموت يوماً شئنا أم أبينا إذا ما استمرت حالة انقساماتنا في مسيرتنا المؤلمة كما هي اليوم.

            إنني أتألم حينما أرى المواطن البريء سلعةً تُباع وتُشترى، وهذا ما أراه في مسيرة الوطن وما نجده، ومن المؤسف هذا حال الكثيرين أمام رجال الدنيا وكبار الزمن وحرّاس المعابد، وكما يقول المَثَل "الفقير فقير وإنْ لبس ثوباً من ذهب"، فكفانا كبرياءَنا وحمايةَ مصالحنا ، وعن أناس عُرفوا بفسادهم والذين سرقوا قوت المهجَّرين وأحوال المواطنين. فحتى ما يبقى شاهد الحقيقة وفقير الدنيا مكبَّلاً بالسلاسل ومقيَّداً بأوامر مصلحية وسلطوية، وربما أحياناً يُمنح الفقير والشاهد جرعةً مسمومة للتخلّص من شكواه وصراخه ليبقى الفاسد متربّعاً على عرش الدنيا المزيَّف بسندٍ ودعمٍ وحمايةٍ من كبار الدنيا ومن أجل تجارة المصالح، وننسى أن ننظر إلى يسوع الحي الذي علّمنا وسار أمامنا ليرشدنا إلى طريق الحقيقة في" مقاسمة الفقراء والخطأة"  ( متى 11:9) وشهود الحقيقة مسيرتهم.

شاهد وفقير:

            ما أكثر الذين يتراكضون وراء المال الحرام على حساب الأيتام والأرامل والمهجَّرين والنازحين الذين يفتشون عن امتيازات ليست من حقهم وليست مكتوبة بأسمائهم، بينما الشاهد والفقير يبحثان عن لقمة عيش ومكان آمن ليستقرا فيه داخل الوطن وخارجه. أين الضمير الذي يسمع نداء واستغاثة الشاهد؟، أين النخوة المسيحية التي تشهد لحقيقة الإيمان؟، فإنني حتى اليوم كنتُ أفتخر بوطني وبشعبي، وإنني أخاف لعلّني أكون من الذين يخجلون حتى من جوازاتهم، فأكون لاجئاً، فلا آذان تسمع الحقيقة، ولكن بدلا منها نجد أيادي تحضن الفاسدين ليس إلا!.

 إن أشد الأخطار هو أن يتخلّى المسيحيون عن رسالتهم وشهاداتهم التي يمكن إيجازها بالإبتعاد عن الصليب ومسيرته، ويهملون آيات الإيمان والصبر والرجاء حتى تنقضي هذه الأيام السوداء. فلا يمكن للمسيحيين أن تزول مسيحيتهم إذا أرادوا لها ذلك. فالكنيسة مع الوطن ومع كل مواطن، وهي ليست لحاكم أو نظام، مرتفعة فوق الجميع، ومهمتها ربط كل شيء بالمسيح يسوع. فما نحتاجه أن نتعامل بالضمير وليس بالمنصّات والمنابر ، والتهديد والوعيد، بالغيرة والكذب ، ولا يجوز أن يكون رجال المعابد والعاملين فيها ، تابعين لأحزاب أو حركات أو جمعيات لغاية أو لغايات، فلننتبه هناك مصالح عديدة تُمَرَّر ومخططات بين ظهرانينا وخلف شخوصنا. فلنكفّ عن تقطيع بعضنا البعض وزرع بذور الطائفية المقيتة، ومَن لا يستطيع فعل شيء في هذا المجال عليه أن لا يكون حجر عثرة في طريق المسيرة المسيحية والإيمان الإنجيلي، ومَن بإمكانه أن يعمل فليعمل لأجل شعبنا المظلوم والإصطفاف معه إنْ كان شخصاً مستقلاً أو حركةً أو حزباً سياسياً أو منظمة كبار كانوا ام صغاراً، فلا يوجد في التاريخ إلا مَن يدخل التاريخ، ولا تفتخر الكنيسة إلا بأشخاص أخضعوا ذواتهم شهادة للحقيقة من أجل الشعب البائس. فحامل مشعل الإيمان _ وإنْ كان ضعيفاً أمام أقوياء الزمن والذين بيدهم سلطة الدنيا المزيفة _ فهو لا يمكن أن يحني قامته لغير السيد المسيح الحي، وهو يدرك أن شهادته ما هي إلا حمل هموم شعبه وفكر المتألمين والمظلومين دون الانغماس في ترّهات الدنيا.

مرحلة حاسمة:

            إنتبهوا، أقول ، لا تشوّهوا صورة الأصيل والمواطن البريء وإبن شعبكم، بل اسمحوا له بتحقيق وجوديته وإنسانيته فهو اليوم مرهون كما أن صورته مرهونة بعدة عوامل وبعدد من الأسباب ومن أجل غايات، واعملوا أن يحلم بمستقبل ينقله من حالة يائسة وبائسة إلى كرامة إنسانيته ليكون حراً مستقلاً، فهو الركيزة الأساسية وكلنا أبناء هذا الشعب الجريح، فلا يمكن بعدُ أن تكون الطائفية أو العشائرية أو المحسوبية هي مَن تحمي شعبنا وخاصة نحن على أبواب الانتخابات، فإنها خطوة مهمة للغاية في اختيار الناس الكفوئين لخدمة الوطن والشعب والكنيسة، وليس لأنه من قوميتي أو طائفتي أو طاعةً لفلان وفلان واحتراماً لمنصب ومركز، فلا يجوز أبداً أن يكون الناخب شاهدَ زور فمن هنا يبدأ الفساد وهنا تبدأ الخطيئة ، ويبدأ التغيير... إنها مرحلة حاسمة. نعم، إنها دعوة كي نداوي إنشطارنا، كي لا تخيّبنا عواقبه بعد أن نكون قد ضيّعنا مسار طريقنا بانتماءاتنا المختلفة لمصالح متعددة منها كبريائية وأنانية، فالإنقسامات للمسيحيين ما هي إلا خسارة فادحة واضطهاد من أنفسنا لشعبنا، و"أعداء الإنسان أهل بيته" (متى36:10). فلنفتح أعيننا لمسيح الإيمان وليس لمسيح التاريخ والثقافة، فإذا ما كان لنا إيمان عميق به سنرى كل شيء قد تغيّر بقوته ونعمته وبشهادتنا الحقة.

الخاتمة :

            ختاماً: فاليوم أبناء شعبنا ليسوا جائعين إلى الخبز وليسوا عطاشى إلى الماء بل إلى سماع كلمات الرب إذ يقول:"كونوا واحداً كما نحن واحد" (يو21:17)، "أنا والآب واحد" (يو30:10)، لأنني أُدرك أن سبب ضعف الكنيسة في شرقنا ووطننا حاجتها إلى الصليب الضائع منها. فكل إنسان يشتكي ويصرخ من ظلم وقع عليه ويلوم الله على كل شيء، والحقيقة إننا محتاجين أن نعود إلى الصليب بحقيقة الخلاص وشهادة الحقيقة التي علّمنا إياها ربّ الحياة يسوع المسيح ، فشعبنا يتقوى ويمتلئ رجاءً وشجاعة عندما نرى المسيحية التي نتكلم عنها، عندما نرى السيد والإنجيل الذي نحبه، ونرى أشخاصاً يحبون ويجسّدون هذا الإيمان حتى النهاية... فشعبنا صليبنا، وعلينا حمله بكل فرح وإيمان وليس كسمعان القيرواني جبراً ومصلحةً، فأنتم لا تستعطون شيئاً من أحد حينما تطالبون بحقوق شعبكم. فكفانا نقطّع بعضنا البعض، وان كنّا ضحية السياسات الفاسدة ، لنعمل من اجل عودتنا الكريمة وبناء سهلنا وديارنا ومعابدنا وتلك رسالة ووصية الاجداد في أن " لا نخاف" ( متى 28:10) . فإنْ كان شعبنا مظلوماً فلأنكم حافظتم على فسادكم ومصالحكم وغاياتكم ومناصبكم... فلا تبيعوا شعبكم وأرضكم لأنكم أمراء الديرة بل كونوا خدّاماً لبناء الديرة، ولا تكن أسماءكم في الحصاد ومنجلكم مكسور، وايضا لا تنزلوا الى المعركة وانتم غير مسلحين بايمان المسيح الحي . . نعم إنه ايماننا بالمسيح ، إنهما كلمتان وبس ..نعم وآمين.