Skip to main content

عن الكرد والنجف والثقافة

 

عربية - الكردية، فهو أمر جدير بالتأمل، لا سيّما وهو يأتي في ظل أوضاع ملتبسة وتوترات محسوسة . وإذا كان مثل هذا الملتقى قد اتخذ من الثقافة عنواناً فهو أمر يستحق التوقف عنده للدلالة والمعنى، بعدما طغت السياسة على كل شيء .

وبعد كل هذا فإن اختيار النجف، المعلم الحضاري، الديني والمدني العلمي والثقافي في الآن لانعقاد الملتقى، سيكون له مغزى كبير، فللمكان ذكرى وذاكرة ووقع خاص، فالنجف السعيد أو ما تكنّى ب “خدّ العذراء”، أو الغري أو المشهد، التي تحتضن الملتقى تستمر كأنها سفرٌ مستديم، بل أقرب إلى ملحمة درامية يجتمع فيها الأبطال والضحايا، المرئي واللامرئي، المنظور والمتخيّل . وهذه النجف الحاضنة للفقه وعلوم اللغة والقرآن والأدب عرفت قصائد الحب ورسائل الغزل، وعلّمت أبجديات الحرف الثوري الأول، مازجة الفلسفة بالشعر والسياسة بالثقافة والتمرّد بحب الناس .

كانت الثقافة عنوان الملتقى، وهي شأن راق في عقول النجفيين ونخبهم، فالمدينة العربية تحتضن الثقافة الكردية، وذلك لعمري تعبير عن رحابة صدر النجف وإيمانها بالتعددية والتنوّع . والنجف حين تنظّم مثل هذا الملتقى، إنما تريد تأكيد دورها الحضاري والثقافي، كحاضرة مستمرة للثقافة، بكل ألوانها وتجلّياتها .

والنجف حين تنفتح على الآخر، تريد أن تقول إنها مدينة “مدنية” بكل معنى الكلمة، عربية اللسان، مفتوحة لاستقبال الوافدين، وهي جامعة كونية وسوق تجاري عالمي . وهي مدينة تتجاور فيها المدارس الدينية والحوزة العلمية لدرجة التماهي أحياناً، مع الفكر المدني الحر في هارموني عجيب، حتى إن كان من باب جوار الأضداد، وتاريخياً وعلى الرغم من طابعها المحافظ، فقد كان الفكر المنفتح يجد طريقه مبكّراً إليها، وهو ما لفت إليه السيد مصطفى جمال الدين في كتابه “الديوان” .

ولأن النجف حاضرة لا يمكنها أن تعيش من دون الآخر، فهي تجد تكاملها معه، هي أقرب إلى ملتقى أممي لا يعرف التعصّب، تتعايش فيها الأقوام واللغات والسلالات من أصقاع شتى، يدرسون في جامعتها التي مضى عليها أكثر من ألف عام، منذ أن جاءها الإمام الطوسي سنة 448 هجرية، لهذا فإن انعقاد ملتقى الثقافة العربية - الكردية في النجف حدث غير اعتيادي .
ولعلّ انعقاد ملتقى الثقافة العربية- الكردية، كان مناسبة للحديث عن حكاية الحوار العربي- الكردي، لما له من علاقة بثقافة التواصل والتفاعل والمشترك الإنساني، انطلاقاً من موقف متميّز لليسار العراقي الذي كان قد بلور فكرة حق تقرير المصير للكرد منذ العام 1935 واتّخذ قراراً في الكونفرنس الثاني العام 1956 بالانطلاق من الفكرة الأولى إلى بلورة “الاستقلال الذاتي”، في إطار بحث مشروع عن الهوّية والوحدة القومية، وصولاً إلى الحكم الذاتي منذ مطلع الستينات، فالفيدرالية منذ مطلع التسعينات، وقد استند في ذلك إلى قراءة فكرية للتنوّع الثقافي وللأبعاد والقيم الإنسانية المتعلقة بالحقوق السياسية بالدرجة الأولى وتساوقاً مع التطور الدولي . ولعلّ ذلك ما تشرّب به أكثر من جيل، وشكّل أحد الهواجس المستمرة، وإنْ كانت زاوية النظر إليه مختلفة أحياناً، بين من يكون في السلطة ومن يكون خارجها، وبين التيارات المتشدّدة والاتجاهات المنفتحة 

وكانت قضية الكرد قد اختفت من الأروقة الدولية، منذ الالتفاف على معاهدة سيفر الصادرة في العام 1920 التي اعترفت بجزء من حقوق الشعب الكردي، بإبرام اتفاقية لوزان للعام ،1923 لكنها عادت مجدداً، كما يؤرخ لها كانت بصدور القرار 688 عن مجلس الأمن الدولي في 5 إبريل/ نيسان  1991 بعد غزو القوات العراقية للكويت، وهو القرار الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين . وقد حدث ذلك إثر مشاهد الهجرة الجماعية للكرد بعد فشل الانتفاضة في جنوب وشمال العراق (كردستان) في حينها .

وحكاية الحوار العربي- الكردي طريفة، فقد التأم (خارج العراق) في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن في العام ،1992 وشارك فيه عدد من الشخصيات العراقية العربية وفي مقدمتها السيد محمد بحر العلوم، عامر عبدالله، الدكتور حسن الجلبي، هاني الفكيكي، محمد عبد الجبار وآخرون، إضافة إلى نحو 20 مثقفاً عربياً من السودان وسوريا ومصر ولبنان والسعودية وفلسطين وليبيا وتونس والبحرين . أما من الكرد، فقد شارك محسن دزئي وابراهيم أحمد ولطيف رشيد ومحمود عثمان وهوشيار زيباري وعمر شيخ موس ومحمد هماوندي ومحمد قرداغي وسامي شورش وآخرين . وكُتب عنه الكثير .

وكانت المبادرة، ثقافية، فكرية، إنسانية، لا سيما الشعور بالحاجة للإجابة عن أسئلة تاريخية، إضافة إلى مشكلات “راهنة” آنذاك، أفرزتها ما تعرّض له الشعب الكردي من اضطهاد وعسف، إضافة إلى الشعب العراقي بشكل عام . وكان الفريقان الكرديان قد رحّبا بالمبادرة وتبنّيا فكرة عقد دورة ثانية للحوار العربي- الكردي، لكن الأمر لم يحصل بسبب القتال الكردي- الكردي الذي استمرّ نحو 4 سنوات (1994-1998) وراح ضحيته مئات من الأبرياء، إضافة، إلى خسائر مادية ومعنوية كبيرة .

في أواخر العام 1998 نضجت فكرة حوار عربي- كردي، وتم الحصول على موافقة القاهرة لانعقادها، وتوّلى الحزبان التحضير لها، وحضر جلال الطالباني ومحسن دزئي وهوشيار زيباري ومحمود عثمان وعدنان المفتي وعادل مراد وعمر بوتاني وعزيز محمد وبهاء الدين نوري وعبد الخالق زنكنة ولطيف رشيد وسامي عبد الرحمن وآخرون، كما حضرت شخصيات مصرية مرموقة مثل أحمد حمروش ومحمد فايق وسعد الدين ابراهيم وحلمي شعراوي ومحمد السيد سعيد وآخرين، لكن الحضور العربي العراقي كان ضعيفاً ولم يحضر سوى عدد محدود، وهو أقرب إلى الحضور البروتوكولي وقد أبديت مثل هذه الملاحظة عند حضوري لمؤتمر القاهرة للجهات المنظّمة . ولم يشارك في المؤتمر كرد تركيا وكرد إيران وكرد سوريا، كما لم تكن هناك مشاركة عربية “أخرى” .

وكان من المفترض انعقاد دورة ثالثة للحوار العربي- الكردي في العام 2001 بحضور نحو 80 شخصية عربية ويوازيها نحو 80 شخصية كردية تمثّل فاعليات وأنشطة فكرية وثقافية وحقوقية وسياسية مختلفة، بما فيها من المنفى، وجرت الاستعدادات اللازمة لذلك وبُذلت جهود مضنية ربما ستسنح الفرصة للحديث عنها، لا سيما وكان صلاح بدر الدين (قيادي كردي من سوريا) قد اشتغل على تأسيس جمعيات للصداقات العربية- الكردية وحضر عدداً من المؤتمرات دعا فيها إلى ذلك، كما كان عدد من المنظمات الدولية والحقوقية بشكل خاص قد اتّخذ قرارات بتأييد حقوق الشعب الكردي بما فيها حقه في تقرير المصير، لكن الخلافات بين الحزبين حالت دون ذلك، وانحلّت اللجنة التحضيرية التي كان لي شرف عضويتها كمبادر للفكرة .

وبعد الاطاحة بالنظام السابق وعلى الرغم من ظروف الاحتلال، جرت محاولات في كل من أربيل والسليمانية لعقد عدد من المنتديات والملتقيات السياسية تحت عناوين الحوار العربي - الكردي بعضها لم يخلُ من طموحات شخصية ومهرجانات عامة، وكنتُ قد اقترحت تأسيس كيانية ثقافية جديدة للحوار، خصوصاً في الوسط الثقافي للتواصل الإنساني بين المثقفين العرب والمثقفين الكرد، لتنظيم ملتقى للحوار بين مثقفي الأمم الأربعة الترك والفرس والعرب والكرد، بما يساعد على التفاعل والتلاقح الثقافي، وسيكون مفيداً إيجاد مرجعيات للحوار ومأسسته .

ولعلّ تأسيس معهد عربي- كردي سيكون في غاية الأهمية ويمكن توسعه إلى معهد للثقافات الشرقية، لا سيما للشعوب المتجاورة، بهدف تنشيط حركة التواصل والنشر والترجمة والاطلاع على آداب وفنون وثقافات كل طرف بما لدى الطرف الآخر، إضافة إلى التحدّيات والمخاوف التي تواجه الهوّية المشتركة للعرب والكرد والهوّية الخاصة لكل منهما على انفراد ومنها:

* محاولة عزل الكرد عن المحيط العربي، وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في العلاقات وتقديم ما هو خلافي وإشكالي .

* اعتبار العرب والعروبة مسؤولين عمّا حدث للكرد من اضطهاد وعسف شوفيني، وتحميل العرب والعروبة ارتكابات النظام السابق وآثامه .

* اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب لمطالبتهم بحق تقرير المصير وإقامة كيانية خاصة مستقلة، وتحميلهم مسؤولية ما حدث وما يحدث بعد الاحتلال . ومثلما ينبغي التمييز بين عروبة الحكّام المستبدين وعروبة العرب، فإن ضيق أفق بعض النخب الكردية الانعزالية لا ينبغي أن يتحمّله المثقفون الكرد، تمثيلاً لإرادة العيش المشترك من الطرفين .

* تقديم ما هو طارئ ومؤقت وآني من قضايا شائكة ومعقدة، على حساب ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى .

* عدم اكتراث بعض عرب العراق بمسألة كرد إيران وكرد تركيا وكرد سوريا وحقوقهم المشروعة، مثلما يتم اظهار عدم اكتراث بعض كرد العراق أو غيرهم من الكرد بالعلاقات مع “إسرائيل” وبحقوق الشعب العربي الفلسطيني .

وكصورة لعقد سياسي واجتماعي جديد للعيش المشترك، يمكن للمثقفين العرب تبديد مخاوف الكرد، من خلال الاعتراف بحقوقهم، لا باعتبارها منّة أو هبة أو هديّة، بقدر كونها إقراراً بواقع أليم، فضلاً عن مبادئ المساواة والشراكة والمواطنة، مثلما يمكن للمثقفين الكرد تبديد مخاوف العرب بتأكيد اعتبارهم جزءاً من العراق في إطار حق تقرير المصير الذي اختاروه عبر النظام الفيدرالي .


صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء في 15/5/2013