Skip to main content

قراءة متأنية لزيارتَي البابا فرنسيس الى الإمارات والمغرب

 

الأب نويل فرمان السناطي

هناك ملامح تتناسق الى حد واسع بين الزيارتين اللتين قام بهما قداسة البابا فرنسيس إلى الامارات والمغرب في غضون أسابيع متقاربة. وثمة أهداف واضحة انعقد من أجلها «المؤتمر العالمي للأخوّة الإنسانية» تمثّـلت في إرساء  قاعدة ثقافة السلام والتأكيد على ما تتوخّاه الأخوّة الإنسانية من قيم وثوابت مثل فتح آفاق الحوار، وإزالة ما يعترضها من  حواجز وصفها البابا بهذه الكلمات: "من يبني الجدران يبقى سجينًا فيها" ومن ثمّ الدعوة لإنماء مبادئ التسامح والتعايش، ورفض خطاب الكراهية والفرقة.

الإمارات- وثيقة الإخوّة الإنسانية ومواجهة التحدّيات

وتكلل مؤتمر الإمارات بصدور «وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» وقّعها في 6 شباط 2019 البابا فرنسيس  مع شيخ الأزهر، الشيخ  أحمد الطيب، كمرجع إسلامي؛ ومع انه ليس المرجع الوحيد في العالم الاسلامي، لكنه يمثل جناحا كبيرا منه. هذه الوثيقة أريد لها أن تؤسس لدور الأديان، وهنا في الاقل ما يخص مهمة كل ديانة من المرجعين المذكورين، في الاضطلاع مع سائر الاديان، بدور حماية السلام العالمي ونشر ثقافة المحبة، مع تأكيد ما سمّته الوثيقة الشراكة الكاملة بين اتباع هاتين المرجعيتين... ولكن تبقى هذه الخطوة لبنة في توعية مطلوبة على نطاق أوسع، لأنه ولجريمة حصلت بنيوزيلاندا حصلت ضدّ مسلمين في مسجد، ليس باسم المسيحية، حصلت للمسيحيين في نيجيريا واماكن أخرى اعتداءات جسيمة باسم الاسلام...

المغرب نحو حرية الضمير ولا لنزعة الاقتناص، أو الضمّ البغيض (Proselytism)

_________________________________________________

إزاء وثيقة الإخوّة الإنسانية، لا نفترض ان المشتركات التي تجمع بين الأديان، تجرّها بالضرورة إلى الانصهار ببعضها ضمن  نزعة "النسبية Relativism" التي لا تتوخاها أي ديانة قائمة بذاتها، وإلا لما قامت ديانة بجانب أخرى، فلكل واحدة خصوصيتها. أمام هذه الخصوصية، يتطور خطاب البابا  فرنسيس في زيارته الى المغرب، إلى حالة أخرى بأنه دعا إلى مجابهة "التعصب والأصولية" بـ"تضامن" جميع المؤمنين، وأيضا جميع الذين يستخدمون فكرهم وضميرهم، مدافعا بذلك عن "حرية الضمير" وليس فقط "الحرية الدينية". جاء هذا في كلمة مار فرنسيس يوم  السبت 30 مارس 2019 بساحة مسجد حسان بالرباط، في افتتاح زيارته إلى المغرب بدعوة من الملك محمد السادس.  وقال: "من الضروري أن نجابه التعصب والأصولية بتضامن جميع المؤمنين، جاعلين من قيمنا المشتركة مرجعا ثمينا لتصرفاتنا". وأضاف "إن حرية الضمير والحرية الدينية -التي لا تقتصر على حرية العبادة وحسب بل يجب أن تسمح لكل فرد بالعيش بحسب قناعاته الدينية- ترتبطان ارتباطا وثيقا بالكرامة البشرية".

ومن جانبه شدّد العاهل محمد السادس ملك المغرب،  في خطابه على العقلانية بعيدا عن الجهل، ودعا أن يكون ذلك ضمن أجواء ابراهيمية،  إذ نوّه بالديانات السماوية الثلاثة بأنها وجدت "للانفتاح على بعضها البعض" بهدف مواجهة التطرّف من خلال التعارف، للتصدّي لتحدّيات الحاضر عن طريق التربية كسبيل لا غنى عنه لمواجهة التطرف، لأن مصدره، على حدّ تعبير العاهل المغربي، هو "انعدام التعارف المتبادل، والجهل بالآخر، بل الجهل وحسب".

وفي الوقت عينه، نعتقد ان القراءة المتأنية لخطاب محدد للبابا فرنسيس   وجهه  إلى كهنة المغرب ورعاياهم ، وجاء على مسمع من الجهة المضيفة من المغاربة، وذلك  خلال القداس يوم الاحد في الرباط، حذّر فيه من أمر أُسيئت ترجمته بجهل أو بعدم دقة وهو ما عناه بكلمة (Proselytism) ومرادفاتها في عدة لغات غربية، وهي الضم البغيض أو الاقتناص (وليس التبشير)، وهكذا تم ترويج المفرجة خطأً بالتبشير ... في قوله: (إن دروب الرسالة لا تمرّ من خلال انشطة "الضم البغيض" من فضلكموالمصطلح يعني " الاقتناص" بينما البابا لا يحذّر من التبشير و لشهادة حق فهي من قانون حقوق الانسان، ولأن التبشير هو التبشير بقيم الانجيل بشهادة الحياة. هكذا فإن البابا  قصد  (Proselytism) تلك النزعة الدعائية "التبشيروية" التي تنجرّ إليها بعض الجماعات الكنسية من غير الكنائس الرسولية.

التصدّي لعدم الدقة المغرض او غير المقصود في الترجمة

وبينما المقال هذا كان قد أوشك على النشر، توالت أصوات عديدة لتشخص ما تم الاشارة اليه من عدم الدقة في الترجمة، منها ما نشره موقع أبونا، عن مقال كتب مع هالة حمصي من جريدة النهار اللبنانية، وصف فعلا كلمة (Proselitismo) الايطالية التي استخدمها الحبر الروماني بالإيطالية، بأنها تعني "الضمّ البغيض" وسبق للبابا الفخري مار بندكتس أن أشار الى ذلك بالقول: "إن الكنيسة لا تنمو من خلال انشطة (الضم البغيض proselitismo)  بل بواقع الجذب والشهادة". وأضاف المقال التوضيحي: ما لا يرغب به البابا هو النشاط الذي يهدف إلى استقطاب الآخرين واستمالتهم إلى المسيحية بوسائل منافية لحرية الإنسان في اختيار معتقده، أو نتيجة استغلال لأوضاع مادية أو نفسية أو اجتماعية، وان البابا يؤكد على أن المسيحي هو مسيحي نتيجة لقاء حقيقي مع السيد المسيح وليس ثمرة استقطاب أو اقتناص...

وبمعنى آخر، فرّق البابا فرنسيس أمام الاكليروس المحلـّي في المغرب بين "عرض الإيمان للآخرين" من خلال الأعمال وشهادة الحياة وبين "فرض الايمان على الآخرين". وبالتالي فإن تصريحاته متوافقة مع تعليم الكنيسة الكاثوليكية الرسمي وتعليم البابوات السابقين.

هذا التوجّه في الاقتناص، مطروح على أي ديانة كانت، فهو يقصي الآخر ويتعالى عليه، ويعدّه مسبقا على خطأ، ويتحرّك على حساب حرية ضميره ومعتقده وتصرفه اليومي  الحرّ. إنه التوجّه الذي يتوخّى منه أصحابه فرض انفسهم وتقاليدهم وطقوسهم وتراثهم على حساب قناعة ضمير الآخر وسلامته، مما لا زلنا نجده في عالمنا وأيامنا.

الزيارة الدينية الطقوسية بين الزائرين وغير الزائرين

وإزاء ما تقدم من خطابات ووثائق تستجيب بفحواها الى تطلعات عالمنا، لا بد من القول إن عطش انسان اليوم، هو حقا بان يتحرر من الجهل ويتحرر إلى أن يعمق معرفة الآخر من مصادره الرسمية وليس عن طريقة الشائعات والترويج المغرض،  ويحترم اختلافه، وليس التصرف على حساب رزقه وعطشه وطعامه وصحته ورغبته في التنقل وحقه في الذهاب الى المستشفى، مثل حقه في استنشاق الهواء. هذا ما يجدر توخيه حفاظا على مكانة الزيارات المقدّسة وأبعادها، كما في أي ممارسات جماهيرية او مليونية، طقوسية كانت أو فولكلورية، حيث يخطط لمساراتها مهنيا وعلميا مع مراعاة عناصر الأمان للجميع. والا فإن موضوع اقصاء الاخر، والعمل على حساب راحته، يمثل صفعة واضحة، في وجه التعايش المتكافئ المحترم، كما يقلل من وقع الزيارة على المتلقي ولا بدّ أن لها إسقاطاتها على الزائر، بما قد يلتفت إليه من ردود أفعال.

وبعدُ إن زيارة البابا في مطلع العام إلى الإمارات، كان لها صداها العظيم في العالم الإسلامي والمسيحي، وزيارته البابوية في هذه الأيام الى المغرب، بما ارسله مع مضيفيه من خطابات – رسائل محمّلة بقيم التنشئة على التعارف والتعايش. هذه الزيارة تزامنت مع زيارة دينية مليونية جرت في بغداد بمناسبة استشهاد الامام موسى الكاظم احد الائمة الاثني عشر عند اخوتنا الشيعة، تبيّن الحاجة إلى المزيد من الحكمة من كل الأطراف، والتوعية بروحانية هذه الزيارة ومعانيها،  بنمط مقبول في بلد  متنوع الأديان والمذاهب والاعراق.