Skip to main content

متى يفقد الشيطان وظيفته؟

متى يفقد الشيطان وظيفته؟

■ عادل سعد
كاتب عراقي


من استنتاجاتي، لا شيطان يعمل بقوة عاصفة، بل يأتي متسترًا بأغلفة صقيلة ناعمة، وقد حملتُ مع هذا الاستنتاج سؤالين كانا يرافقاني أحيانًا: أين يسكن الشيطان؟ ومتى يفقد وظيفته؟ أطرحهما حسب المناسبة، على فقراء أصحاب معرفة بسيطة شفافة، وآخرين يزعمون أنفسهم من النخب..
هل يمكن للعالم أن يعيش في يوم من الأيام بمعزل عن تدخل الشيطان ويكون في منأى من تحريضه؟ لا أعتقد ذلك، قد تحصل برهة زمنية من هذا النوع، لكنها في كل الأحوال تمر كغيوم صيف قائظ ثم تختفي وكأن الشيطان حينها يأخذ قسطًا من الراحة بسبب متاعبه نتيجة العمل (المضني) الذي يضطلع به، خصوصًاً حين يدمن على مشاهدة أتباعه وهم يستنسخون صورهم مقتدين بملامحه.

وتحضرني هنا حكاية نقلها لي الصديق الدكتور عماد الصالحي تقول: إن الشيطان حرك في يوم من الأيام وتدًا لحبل كانت بقرة حلوب مربوطة فيه فاختل توازن البقرة ورفست المرأة التي كانت تحلبها فتبدد الحليب، ثم داست على طفل المرأة الذي كان بجنبها إلى حد وفاته، واستمر مسلسل الحادث بصفحات إضافية، فلأن البقرة قتلت الطفل، استلت المرأة سكينًا حادًّا وطعنتها فنفقت، وحين عاد الزوج إلى البيت وجد طفله وقد مات، والبقرة وقد نفقت، والحليب وقد انسكب على الأرض، وزوجته وكأنها مصابة بلوثة عقلية، فرمى عليها الطلاق، وتطور الحادث إلى خصومة صادمة بين أهل الزوجة وأهل الزوج في نزاع يحكمه الثأر، وحين خضع إبليس للتحقيق بشأن ما جرى زعم أنه لم يفعل كل ذلك، وإنما حرك الوتد فقط، بل إن محامي الدفاع عنه تساءل بمرارة: لماذا يتحمل موكله كل التبعات الأخرى وهو لم يحرك سوى الوتد الذي لا يمثل جريمة، مطالبًا بالإفراج عنه وما زالت القضية قيد التداول على طاولات الرأي العام.
حكاية أخرى عن جبران خليل جبران: أن راهبا مسيحيا انخرط بتضميد جروح شخص مجهول إثر تعرضه إلى اعتداء ارتكبته عصابة استفردت به على قارعة طريق في ضاحية مدينته وأشبعته ضربًا ورمته أرضًا. لقد صادف أن الراهب مر في تلك الساعة هناك فوجده ممددًا فهرع إلى إسعافه وأثناء قيامه بهذه المهمة العلاجية سأله عن هويته؟ فقال: أنا إبليس، أنا الشيطان، فما كان من الراهب إلا وانتفض بعيدًا عنه وهو يصيح به: كيف تريدني أن أسعفك وأنت الشيطان الذي أهاجمك يوميا من على منبري؟ فرد الشيطان قائلا: من مصلحتك أن تعالجني وأبقى على قيد الحياة وإلا تنتفي وظيفتك في حالة موتي، إن مصير وظيفتك الوعظية متعلق بالتحذير مني ومهاجمة أفعالي، كيف يستقيم خطابك بغير ذلك؟ إنك تندد بالشر الذي تنسبه لي وصولًا للخير الذي تعتقده، أليست هذه هي الحقيقة؟!
واستوقفتني إحاطة ذكية وردت في كتاب لتوفيق الحكيم عن لبوس الشياطين من خلال كشف حساب للهندسة الجمالية التي يعتمدونها، والوسوسة التي يواظبون عليها مستخدمين كل الإكسسوارات والدروب المغرية في إنجاز مهمات متنوعة ملامحها الخارجية الورع الزائف.
إن المسبحة الطويلة واللحية الكثيفة، أو مسوح امرأة فائقة الجمال تشع حياء وتغض الطرف، وإن الكلام الخفيض والوعظ المتبل (من التوابل)، وتصنيع هالات لمشاريع هوائية ليست سوى وسائل دبلوماسية عالية الجودة تخفي معها في أغلب الأحيان كمائن شيطانية.
من استنتاجاتي، لا شيطان يعمل بقوة عاصفة، بل يأتي متسترًا بأغلفة صقيلة ناعمة، وقد حملتُ مع هذا الاستنتاج سؤالين كانا يرافقاني أحيانًا: أين يسكن الشيطان؟ ومتى يفقد وظيفته؟ أطرحهما حسب المناسبة، على فقراء أصحاب معرفة بسيطة شفافة، وآخرين يزعمون أنفسهم من النخب، يتصدرون المجالس، وعسكريين من الحرس القديم، وباعة رأي مخضرمين وخصوم تقليديين لأية حكومة، وأصدقاء جمعني معهم مقهى حافظ في بغداد، والأسبق زمنيًّا مع آخرين في مقهى الحجاز بدمشق، أو في مقهى الكوستا في بيروت، وكانت الاستبانة تنتهي في أغلب الأحيان إلى فصل من الضحك، بل واستجمعت أفكار مقال لي بشأنه كنت قد نشرته في هذه الصحيفة الغراء (الوطن) جاء بعنوان (الغابة تصنع أخلاقيات الثعالب) لتصور ما زلت أعتقده عن وجود صلة قربى بين كمائن فصيلتي الشياطين والثعالب، واستعدت من الذاكرة الأبعد مقابلة صحفية أجريتها مع قاتل قبل أكثر من ثلاثين سنة. والأصل في الحادث أنه نفذ كمينًا محكمًا تضمن عملية سطو وقتل، لكنه وقع في قبضة الشرطة وصدر حكم قضائي بإعدامه، كانت مقابلتي معه قبل أيام قليلة من تنفيذ الإعدام به ونشرتها مجلة (ألف باء) وكانت المهمة من أزعج المهمات التي أديتها، سؤالي الأول الذي طرحته عليه: لماذا قتلته؟ فأجاب بكل هدوء: (كان قويًّا) فحسبته يقصد الضحية، واستكمل حديثه: كان هنا، وأشار إلى صدره، ويبدو أنه أدرك عدم فهمي لما يقول، فأسرع مضيفًا: الشيطان.
بخلاصة قاطعة، إجابته اختصرت الطريق إلى الحقيقة خلاف الآخرين، لقد حدد أين يسكن الشيطان، يا للبلاهة، كثيرًا ما نعتقد أنه مجهول الإقامة، والحقيقة غير ذلك تمامًا، إنه في دواخلنا. أما متى يفقد وظيفته؟ القرار بأيدينا أصلًا، مهمته الأساسية مشاغلتنا، ومهمتنا كبح جماحه، يا للمهمة المشرفة حين يقاضي الإنسان ذاته ويحكم لصالح مسؤوليته، عندها فقط يفقد الشيطان وظيفته ويصبح عاطلًا عن العمل.