Skip to main content

مدعوون مع مريم

بمناسبة صلوات الشهر المريمي

                                                      المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء

واقعنا عالم في بلبلة متواصلة، وشعبنا في مسيرة مشوَّشة، والإضطرابات تتعاقب، والمآسي هي من صميم تاريخ البشرية، والإرهاب لا زال يعمل في عدة محاور ليفسد مسيرة الحياة، وحب الأنا وإكراه الآخر من مقدسات الحياة، وحقيقة الدنيا بفساد كبار زمانها، والكذب رسالة سامية يحملها الحاقدون والكارهون لتشويه صور الأبرياء لغايات في الغيرة والكراهية، وازداد عدد التجّار الذين يتاجرون بقدسية الحقيقة والوجود بسبب ضياع كرامة الإنسان وحقيقة الحياة .

وفي عالم كهذا، يشعر العديد من ذوي الارادة الصالحة وفقراء الروح ونحن أبناء الله إننا معزولون ويائسون، ويأخذ الشك محله، والتجربة الإيمانية تهب قوية لفتور السبل المسيحية... أمام كل هذه البلبلة أدركتُ عبر تأملي نحو مسيرة مريم أن الرب يريد أناساً ممتلئين رجاءً لا يخيب، رجاءً موعده في الله الآتي إلينا، وليس الرجاء الذي يعطيه انسان الدنيا وكبارها ومواعيدهم ،  وما هذه الدعوة إلا أن نذهب إلى مريم كما ذهب صاحب العرس في قانا ونقول لها "لم يبقَ معنا خمرٌ" (يو3:2).

          مريم رحمة

          يعلمنا الكتاب المقدس أن كل ما خلقه الرب هو" حسن" (تك1) ، وأن أهم حَدثٍ في التاريخ حَدَثَ على ألأرض هو تجسد الرب من مريم في مغارة. فمنذ خطيئة الإنسان الأول بانت رحمة الله، فغفر للعائلة الأولى، وجعل عداوة بين الحيّة والمرأة بانتظار أن تأتي بنت حواء "مريم" لتدوس رأس الحيّة (تك15:3). وعبر نشيد الرحمة الذي انشده زكريا الكاهن ، بهذه الرحمة وعد الله الآباء (لوقا 72:1) ، وعد بها شعب عرف أنه مدعو لكي يحمل اسم الله، ولكن وعده لم يتوقف عند زمن من الأزمنة بل هو وعد لجميع الأزمنة إلى أن يأتي وقت يجمع الله في المسيح كل ما في السماوات وعلى الأرض ( لوقا 75:1). فالعهد الجديد ما هو الا بداية ثانية للعهد القديم، إنه عمل الله الذي وعد فكان صادقاً في وعده "فأرسل الله ابنه مولوداً من امرأة.." (غلا4:4). حَدَثَ في تدبير الخلاص، أرسل الله ملاكه (لوقا 26:1)  والملاك يدلّ على حضور الله ـــ إلى عذراء في الناصرة. إنها مريم، مخطوبة شأنها شأن كل فتيات عمرها. لم تتميز مريم في الخارج عن بنات الناصرة، بل اختيار الله لها هو الذي يميزها. ونداء "السلام عليكِ" نداء الفرح والسلام، هو البركة التي تملأ قلوبنا وحياتنا وبيتنا. نالت مريم ملء البركة "ممتلئة نعمة" ( لوقا 28:1) ، نالت أن تكون أمّ ابن الله،  حين أعطانا الله ابنه أعطانا كل شيء، وكانت مريم أول مَن تسلّم هذا العطاء فانتقلت مريم من الإصغاء إلى الخوف والسؤال قبل الجواب النهائي "أنا أَمَةُ الرب" (لو38:1).

          مريم مسيرة  

من هنا تميزت مسيرة مريم عن أي مسيرة بشرية أخرى، وعرفت أنه يكفي للمؤمن أن يرى الحاجة لكي يلبّيها.ها هي ذي العذراء في مسيرة نحو اليصابات( لوقا 39:1  ) ... كما هو الحال مع السامري في مسيرة نحو العمل الصالح (لوقا 25-37) . حملت مريم يسوع ليحمل إلينا يسوع بركات وحب الآب السماوي لأبناء البشر. فما حصل لمريم من أمومة ومن قبض نور هو ما يحصل لنا نحن أيضاً إذا عرفنا كيف نسمع كلام الله ونعمل به( لوقا 30:1   ) ، وكيف نستقبل الله في قلوبنا فيكون لنا قبض نور. قبلت مريم كلام الله "وكانت مريم تحفظ هذا الكلام وتتأمّل به في قلبها" (لو19:2). بهذا الكلام وبهذا التأمل بلغت مريم أسمى درجات الكمال في حياتها وطاعتها للرب. إنها التلميذة الأولى التي جسّدت نموذجاً للحياة الجديدة في المسيح. لقد فتحت مريم لنا طريقاً جديدة لنلتقي إبنها، إنه طريق الصلاة والتأمل والرجوع إلى الذات والخضوع لإرادة الآب. هكذا أصبحت مريم طوباوية، واشتركت في المهمة الرسولية فعاشت المسيح وشهدت له. ولم تؤسس الكنيسة ولم ترأسها بل رمزت إليها وعاشت دعوتها كأمّ تلد أبناءً جدداً لحياة جديدة... إنها المؤمنة والمعطية والمتأملة والمتألمة مع ابنها، إنها أم الكنيسة .

          مريم سراج

إذاً علاقة مريم بيسوع ـــ قبل أمومتها الجسدية له ـــ هي علاقة على مستوى الإيمان بالبشرى والطواعية التامة لإرادة الله. تكون مريم مثالاً للعلاقة الإيمانية التي تربط كل مؤمن بيسوع وتوطّد معه أواصر القربى، لا مكان للحم والدم فيها ( متى 17:16) بل فقط للإيمان بالبشرى التي أتى يسوع من أجلها. نعم، مريم هي حقاً أمّ يسوع بالجسد، إنها الجسدية، فملاقاتها بابنها هي أبعد من أن تشرحها العلاقة البشرية التي تربط الأمّ بابنها.لقد برهنت مريم خلال حياة يسوع وبعد قيامته وصعوده وببقائها بين التلاميذ الأُوَل على أنها الشاهدة الأولى لابنها، لقد كانت حقاً سراجاً مضيئاً أمامهم(يو 35:5)  ينير دربهم ويهديهم إلى المسيح، وهكذا بقيت وما زالت في أيامنا ـــ بواسطة ظهوراتها ـــ نوراً يهدي الناس إلى الإيمان.

مدعوون مع مريم

مع مريم نحن أبناؤها وأبناء الله في آنٍ، ومع يسوع نحن أخوة وأبناء الله في آنٍ، ويكون الحظ لكل منا بأن يكون بدوره لا مسيحاً فقط ولا ابناً تابعاً لمريم بل يكون بدوره مسيحاً آخر وابناً لله، وبدوره يكون ـــ على غرار أبينا الذي في السماوات ـــ أباً للآخرين وأخاً بالرحمة. بعد أن ألغى الإنسان الله ألغى أخاه وقتله، أما مريم فراحت تحمل الفرح إلى مَن ماتت فيها قوى الحياة ( اليصابات)، وبهذا سارت مريم مسيرة معاكسة لبداية الخليقة. بدأ الإنسان يرفض الله فكانت الخطيئة، وجاء جواب مريم كجواب الإنسان على نداء الله وفق مخطط المحبة الذي وضعه الآب منذ الأزل. على هذا المستوى الإيماني نحن مدعوون مع مريم لأن نبني على الأرض عائلة، عائلة الله الآب التي أتى يسوع ليجمع إليها وفيها كل المؤمنين بالله. إن الروابط التي ترتكز عليها هذه العائلة أقوى بكثير من روابط اللحم والدم لأنها تبقى للحياة الأبدية، أما روابط اللحم والدم فتزول مع زوال الحياة.

مريم بشرى

إن مريم كانت خادمة للبشرى، بشرى الخلاص والسلام. في قلب هذه البشرى تجد مريم مكانها الحقيقي وتلقى الإكرام اللائق بمقامها. البشرى السارة "الإنجيل" تلقّتها مريم وآمنت بها فنشأت علاقة كيانية. فالبشرى ليست خبراً بل هي شخص ابن مريم... إنها بشرى يسوع المسيح ابن الله الذي صار إنساناً. ببشارة الملاك أصبحت مريم مؤتَمَنة على ابن الله الذي أخذ إنسانيته منها، ووقَّفت حياتها على خدمته.إن هذه البشرى "الإنجيل" كانت محجوبة عن الجميع إلا عنها هي. لقد عاشتها في العمق كما تعيش الأمّ خبرة الأمومة " أما مريم فكانت تحفظ هذا الكلام كله وتتفكر به " ( لوقا 19:2). عاشتها بخبرة إيمان فريدة جعلتها تزداد يوماً فيوماً بثقة وتعلّق بالذي اختارها، فكانت معه في مسيرته حتى النهاية المفجعة على الصليب مشاركة له سر الخلاص ، ومن ثم القيامة المجيدة ، والصعود إلى السماء. ويمكن القول أن مريم كانت المبشِّرة الأولى بابنها، والخبيرة بامتياز في سرّ ابنها، وهي بالتالي مثال وقدوة لكل مؤمن، بل لكل رسول .

صوت مريم

على هذا المستوى الإيماني نحن مدعوون مع مريم للسير نحو الاخر حاملين معها المسيح ونوره وبشارته فهي تقودنا لتقول لنا " افعلوا ما يأمركم به"(يو5:2)  كي نكون معها بناة لارض السلام والمحبة،  رغم جريمة داعش ، ومنصتين الى صوت مريم بعدما اعلنّا "ليس لهم خمر " ( يو2:1-11)  ولم يعد بامكاننا ان نواصل العرس بسبب فسادنا وكراهية شبكة عيوننا اللذان لايسمحان لنا ان نرى الا انفسَنا . نعم ، لقد فتحت لنا مريم طريقاً جديداً لنلتقي ابنها، إنه طريق الصلاة والتأمل والرجوع إلى الذات والخضوع لإرادة الآب. لنسأل ؟ هل سمعنا نداء الرب كما سمعته مريم؟ ام لازلنا نلهو بالدنيا وما فيها ونعمل من انفسنا الهة الدنيا بعد ان اصبحنا عبيدا للحقيقة المزّيفة ، والكراهية المشروعة،  والفساد المقدس ،  وننسى ان الاله الحقيقي في المذود بيته ، ومع الابرص والاعمى مسلكه ، وعلى الخشبة موته ، ونحو السماء كانت قيامته ، فلننتبه لئلا يسيطر علينا الضباب والقلق والتراخي،وتجارة الحقد والكراهية ، وتشويه سمعة الاخرين ،  وربما بدأ يعشعش في صدورنا كما سيطر على واحات مسيرتنا ،  فإذا ما أصابنا ذلك ليس لنا إلا أن نعود بتصحيح مسار الضمير ، وحقيقة الايمان ، ومسلك الحياة ، وبكل ايمان وثقة .

في الختام

 لنسمع ثانية صوت مريم ، ولنجعله يتردد في داخلنا "هأنذا أَمَةُ الرب" ( لوقا 38:1)، فالله اختار مريم لمهمة ما بعدها مهمة،إنها سماوية أرضية ، الهية بشرية ، اشترك فيها الاله والانسان، وهو يختار كل واحد منا، للشهادة للحقيقة دون كذب او رياء ،  والحقيقة تدركها السماء كما ادركت مريم حقيقة الحياة فآمنت واعطت حياتها .  عسى ألا يكون جوابنا ابن ساعته فنرى مصالحنا وننسى حقيقة مسلكنا ، فنصرخ " اصلبه اصلبه" (لوقا 21:23)  ، بدل " لم يبق لنا خمر"  من اجل طلب معونته في العمل اليومي خدمةً ومحبةً وعطاءً، شهادة لحقيقة الحياة وطاعة لرب السماء وفي ذلك نحن مدعوون مع مريم وهي مثالنا نعم مريم مثالنا ، نعم وامين .