Skip to main content

مرة أخرى... أنرحل .. أم نبقى .. أم ماذا؟

                                    مرة أخرى...

أنرحل .. أم نبقى .. أم ماذا؟

                                                                                  المونسينيور د. بيوس قاشا

   في البدء

أقولها في حقيقة المسيرة إننا لا زلنا أمام واقع جديد ومؤلم وفي مسيرة متعِبة وفي قلق أخذ من سنّي أعمارنا والخوف من مستقبلنا ومن الآتي إلينا وما الذي سيلاقيه أجيالنا، بل أين سيكون إيمان مسيحيتهم وخاصة في ظروف عشناها بسبب داعش وإرهابه، فاليوم من المؤكد إننا أمام مفترق طرق بل أمام مجهول وضياع لم نشهد مثلهما، فالفرقة قد مَلَكَت على عقول أبناء وطننا، والكراهية أخذت مسارها في قلوبنا، والطائفية المقيتة أصبحت بركة مقدسة، والمصلحة والقومية قد ثبّتتا ركائزهما في بلد كان يُعرَف بحضارته وسموّه بأخلالقه وتفانيه وعلمه وقِيَمه، وهذا قليل من كثير نحن لا زلنا فيه بل لا زلنا نحياه... نعم ونعم. واليوم حضورنا المسيحي مرتبط بتاريخ مميت وبانقسامات ومآسي وآلام لا حدّ لها، فكلٌّ يريد أن يكنز حضيرته ويجمع خرافه، فلا وحدة إلا بالبيانات والتصريحات وهذا ما يُضعف قوتنا ويبقى عائقاً كبيراً إذ أهملنا إدراكنا لمفهومنا الوحدوي لمسيحيتنا دون أن ندرك أن الخراف ليست خرافنا إنما خراف المسيح الحي الذي جمعنا في إنجيل واحد ومعمودية واحدة وإيمان واحد (أف5:4)، فكلٌّ منا يريد أن ينشئ مشاريعه بحسب ما يراه دون النظر إلى الراعي الواحد (حزقيال23:34) بينما يتناقص عددنا وتضعف همّتنا في عيش إيماننا فنقع في حيرة منه، وتملك علينا الأقدار لتقودنا إلى الخسران في كل المجالات... ليس إلا!.

   موت بطيء

نعم، ماذا نقول عمّا يحصل في وطن أحبّنا في صغرنا وأحببناه ونحن في بطون أمّهاتنا؟. نعم، ماذا نقول عن مسيرة شرقنا المعذَّب والمعذِّب بأيامه؟. نعم، ماذا نقول بشأن وجودنا وبحقيقة أرضنا وتاريخ عيشنا في أيام قيل عنها إنها حَسَنة وأصبحت اليوم لنا كابوساً؟، فهل سيكون مصيرنا الإنقراض والضياع ولا حتى ساعة سلام؟. وهنا أسأل نفسي وأسألكم يا كبار زمننا والذين بأياديهم مقاليد دنيانا ودون منازع: هل بدأ الموت البطيء يتسلل إلى أجسادنا فيكسر قاماتنا ويهدد وجودنا؟، وهل سيفرغ وطننا وشرقنا من وجودنا كما حصل يوماً؟، وهل هناك مخطط لطرد الأصلاء بعد وجود دام أكثر من ألفي سنة لفسح المجال أمام جمعيات وافدة بل مستورَدة لتشهد لبقائها؟، وهل أصبحنا في طاعة داعش والإرهاب أو مساعدين له في حالة ضياعنا ورحيلنا؟، أليس هذا كله مبدأه الفساد بينما الإنجيل المقدس يذيع ما أعلمنا به الرب في أنه "سنتألم ونُضطَهَد فلا تجزعوا وستُسلَّمون إلى العذاب وتُقتَلون" (متى6:24-9)؟، وهل أصبحنا لا نفرّق بين حقيقة الإيمان ومآرب داعش؟، وهل لا زلنا ننظر مصالحنا ولا شيء آخر وأصبحنا لا نبالي إلا بها ونسينا شعبنا وقضاياه عملاً بالمَثَل الفرنسي "من بعدي الطوفان"؟... فإن كان الأمر هكذا فبئس لنا!.

   مؤمنون حكماء

نعم، لندرك حقيقة أمورنا وخطورة شهادتنا ومخاوف وضعنا، ولنعلم أن الإنجيل المقدس لا يحمله إلا المؤمنون، ومؤمنون حكماء وليس تعساء. ولنعلم جيداً أنّ هنا كانت ولادتنا وهنا يجب أن يكون موتنا، ولكن مع الأسف أصبح العديد يسألون عن مآربهم وغاياتهم الدنيوية وهنائهم وراحة بالهم وملء بطونهم ووقوفهم صفوفاً لنيل ما قسمته الدنيا من السيد الأخضر كي يخبروا بالمال الحرام بطلبات وإنْ كانت أحياناً كاذبة ومزورة  ومصطنعة. إنها مسيرة هذا الزمن، ولا حاجة لوجوب وصية الرب التي تقول "لا تكذب ولا تشهد للزور" وما أكثرهم في هذا الزمان شهود في الزور والكذب، من أجل غايات فاسدة... أليس كذلك!.

   صبغة وجودك

نعم، هل كُتب علينا الرحيل كي نفرغ بلدنا إلى أوطان تخصّنا بإنسانيتها؟، فغايتنا فيها ليست فقط العيش الهنيء ولكن نتطلع إلى أبعد من ذلك، إلى جمع مبالغ تعوّضنا عمّا فقدناه بدل أن ندرك أن بقاءنا هو قوة لضعفنا، هو صخرة لبنائنا، هو شهادة لإنجيلنا، وإلا ماذا يعني لمّ الشمل، هل نحن مضطَهَدون؟، وإنْ كنا مضطَهَدين أليس ذلك كلام المسيح الحي؟، ألم نعد إلى ديارنا؟، ألم تقف معنا المنظمات الكنسية المسيحية والإنسانية وتعمل من أجلنا ومعنا كي نعود ونثبت في أرضنا كي لا نقول يوماً إنهم سرقونا وسرقوا عقاراتنا وسجّلوها بأسمائهم إنْ لم يكن أولاً السبب سببنا؟، فهل فقدنا ثقتنا بربّنا وبكنيستنا وبأرضنا وبوصيته التي دعتنا أحبّاء وليس عبيداً أو ضيوفاً؟، فالرب قالها دون أن يعلن ذلك في مؤتمرات حنّان وقيافا وهيرودس عبر إعلامهم، بل قال "مَن آمن بي..." (يو25:11) "مَن أحبّني" (يو23:14)، وقال "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو5:15)، أليس ذلك إقراراً بإيمان ورثناه من إيمان أجدادنا وآبائنا وجرن عماذنا؟... وإلا ماذا يعني الرحيل!، وهذا كله يعبّر خير تعبير عن فكر مسيحي وذهنية متجذرة في إنجيلنا، فلا يمكن بل لا يجوز أن يكون الإضطهاد والطرد سبباً في أن يثني عزيمتنا ويُثني همّتنا عن إيماننا بل يجب أن يكون لنا قوة وشهادة وإلا لماذا كتب الرسول بولس رسائله وقال:"هأنذا يُراق دمي" (2طيم6:4-7). إن هذا كله يجب أن يزيدنا إصراراً على الشهادة لمعتقدنا، فرجائنا لا يخيب يقول الرب (مز18:9). فقد سبقنا الشهداء في هذه المسيرة من أجل حياة الحق، وصحيح إنك برحيلك تُبقي على حياتك ولكنك إذا كنت تدري أو لا تدري فإنك تدفن صبغة وجودك فلا يحقّ لك الرحيل أبداً لأنك سئمتَ من الحياة في بلاد محتلَّة أو في وطن أفسدته النيّات، فقوتك معي ببقائك، وحقيقتك في وجودنا أنت وأنا، وشهادتك في إنجيلنا، وإنسانيتنا في عملنا سويةً بمستشفياتنا ومدارسنا وعياداتنا وملاجئ معمّرينا... إنها شهادة المسيحية فلا يحق لك الرحيل بسبب دعوة الدنيا، فالرسولان بطرس وبولس لم يذهبا إلى روما ليعيشا الهناء بل كانا مدركَيْن إنهما سيموتان في عاصمة الرومان المحتلين، ولكن إدراكهما لمسيرة الإنجيل وحقيقته قرّرا الذهاب، أما أنتَ فإنْ كان رحيلك لإعلان بشارة المسيح والإنجيل فهدفك مقدس وطوبى لك، وإنْ لم يكن ذلك فمع الأسف الشديد!.

   صوت البابا

نعم، يقول البابا فرنسيس في رسالته الميلادية إلى مهجَّري العراق وسوريا 2014:"لدينا جميعاً مسؤولية كبيرة ولن تكونوا وحدكم في مواجهتها ولهذا أشجّعكم وأعبّر لكم عن مدى قيمة حضوركم ورسالتكم في هذه الأرض... فأنتم وسط معاناتكم روّاداً لحياة الكنيسة والبلد الذي تعيشون فيه. واعلموا إن الكنيسة قريبة منكم وتؤازركم وسنواصل مساعدتكم من خلال الصلاة والوسائل الأخرى الممكنة. فآلامكم تقدّم إسهاماً لقضية الوحدة ولا يقدَّر ذلك بثمن، إنها مسكونية الدم التي تتطلّب إستسلاماً واثقاً لعمل الروح"، ويواصل قداسته رسالته بقوله:"أنتم في وضع مأسوي وأنتم تعيشون في بيئة غالبية مسلمة ويمكنكم أن تساعدوا مواطنيكم المسلمين على أن يقدموا باستبصار صورة أكثر أصالة عن الإسلام كما يريد كثيرون منهم التعايش بين الجميع وهذا يعود بالفائدة على الجميع وعلى المجتمع. فأنتم مدعوون في المنطقة لتكونوا صانعي السلام والمصالحة والنمو لتعزّزوا الحوار وتبنوا الجسور تماشياً مع روح التطويبات (متى3:5-12) وتعلنوا إنجيل السلام وتكونوا منفتحين على التعاون مع كل السلطات الوطنية والدولية".

   عبر البحار

نعم، الخوف والهاجس إستوليا على نفوسنا ومقدّراتنا، وأصبحنا مطيعين بل خاضعين، وبدأنا نفعل ما نشاء وكما نشاء دون أن ندرك أحياناً إننا قد غيّرنا مسيرتنا الإيمانية بهاجس مزوَّر وبخوف مصطنع لا يتوافق وتعاليم المسيح الحي، وأصبح الإنجيل مثل الحقائق الأخرى، ولا يمكننا أن ندافع عن وجودنا بسبب ما حُشر في عقولنا وما هُدّدت به أفكارنا، وما ذلك إلا تناقض واختلاف حيث أصبحنا نعامل إنجيلنا وكلماته المقدسة بإنجيل كتبناه وسطّرناه للمسيرة المزيفة ولم نعد نستطيع أن نخبر به حتى أجيالنا وتسلسل أولادنا، أليس ذلك أزمة إيمانية؟، فجعلنا من الحقائق المزيفة حقائق سماوية وأهملنا تعاليمه، وأصبحت مسيحيتنا في مسيرة الدنيا التي تروق لنا وتطيعنا لأننا آلهتها، ومن المؤسف إننا قد نسينا عصور الإضطهاد ومآسي الشهداء وأصبحنا لا نهتمّ لمناسباتهم، فشخوص أهاليهم كلهم أصبحوا عبر البحار والمحيطات في دنيا الإغتراب، يأكلون ويسهرون، يشترون ويبيعون ويخزنون (لو28:17) وهذا حقهم الطبيعي، ولكن أين الحقيقة الإنجيلية؟... أقولها وإنْ لن تقبلوها مني فذلك شأنكم، ولكنني أؤمن بما أقول في وجه كبار الزمن والدنيا، فنحن شهود وشهداء، وهذه مسيرتنا الإنجيلية... ليس إلا!.

   شهادة وحقيقة

أحبائي، "لا تخافوا أو تخجلوا من كونكم مسيحيين، يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر، إن العلاقة مع يسوع تجعلكم مستعدين للتعاون مع مواطنيكم مهما كان إنتمائهم الديني"... فعيشوا حقيقة مسيحيتكم في قول الحقيقة في وجه كبار الزمن الذين باعوا الوطن وباعونا دون أن ندري من أجل مصالحهم، لذا فالشهادة ليست بهذه السهولة، والسبب لا زال ثعالب الحياة وحيتان الفساد وبائعو الإرهاب وحاملو الحقد والكراهية يحسبون حساباتهم، ومع هذا أقول لكم: آمنوا إن الحقيقة لن تموت، وستظهر يوماً شئنا أم أبينا، ففي بقائنا شهادة لمسيرة أبنائنا وأجدادنا وحبّنا لتربتنا وشهادتنا عبر صليبٍ حملناه عملاً بكلام المسيح الرب والذي أصبح لنا خلاصاً.

   أقدام ... وصليب

نعم، نرحل أم نبقى! دعوة لنا كي نتمسك بالصلاة وبالحوار مع الله قبل أن نحاور أنفسنا من أجل الشهادة للحقيقة وليس لتزييفها، فعلينا أن نكون طلاباً في مدرسة "تحت أقدام الصليب" فحينذاك لو رحلنا سيكون رحيلنا برفقة صليب المسيح الذي سيقودنا إلى الخلاص، وإنْ بقينا سيبقى الصليب علامة شهادتنا، وسيكون عنواناً في شجرة حياتنا كي تعطي ثمراً صالحاً لجائعي الزمان والدنيا. لذا لا يجوز أن نفقد إيماننا وأخلاقياتنا وإنْ دُمّرت منازلنا ونُهبت وسرُقت وأُحرقت ديارنا وأُنزلت صلبان كنائسنا من قببها، وهذا كله لا يعني أن نجعل إيماننا سلعة للرحيل، ولكن علينا أن ندرك أن الرب خلقنا هنا لنبقى هنا، ودعانا إلى أن ندرك أن الحياة لا تخلو من صليب، وإنه لا قيامة بدون الصليب، وهذا ما يجعلنا أن نجعل من المحنة مخرجاً كما يقول مار بولس:"استفيقوا أن تحملوا" (1كو13:10). فلابدّ من حمل الصليب وبه سندرك أن الحقيقة مهما تعذبت واضطُهدت وزُوّرت وبيعت لا تموت ولا تفنى وإنْ إشتراها كبار الزمن من أجل مصلحة مزيفة... فلا تخافوا مما يحصل، فالحياة لنا بالمسيح يسوع وليس الهناء بالرحيل، وليس البقاء بالهجرة والرحيل، إنه موت الأصالة وضياع ترابنا، فلا داعي الغناء بحب أرضنا، بل مَن يرحل فتلك إرادته وذلك شأنه، ومَن يبقى فذلك حسّه وهذا إيمانه، ولكن لنعلم إننا قوة في وحدتنا، وإننا موت في فرقتنا، ولننتبه كي لا نضيّع مفتاح ملكوت السماوات، فالمفتاح قد ضاع عندما إنشغلنا بأموال الدنيا وأملاك العالم، وجاء الإرهاب فحصد الأخضر واليابس، ففي ذلك مسيحيتنا موضوعها إنسان وشهادة وملكوت، فالمسيح الحي لم يأتي ليؤسس مملكة إقتصادية أو سياسية أو مصلحية بل جاء ليُتمّ مشروع الخلاص... إنه جاء ليطلب ما قد هلك (لو10:19).

   الخاتمة

ختاماً، للمسسيحي حريته الشخصية في البقاء أو في الرحيل عن الوطن، وهجرته نتيجة الأزمات المتلاحقة والحروب المستمرة دون الرجوع إلى الكنيسة ودون أن تكون الكنيسة مسؤولة عن كل تصرفاته، وبالمقابل فالكنيسة تعمل على تحصين مؤمنيها بالإرشاد والصلاة، وعلى المؤمنين المواطنين المسيحيين أن لا يجرحوا ضميرهم المسيحي الذي يُملي عليهم مسؤولية "الشهادة في الإيمان" لتاريخ وتراث آبائنا وقديسينا وشهدائنا، وسيبقى السؤال يتردد في معابدنا ومنازلنا وبيننا: أنرحل أم نبقى أم ماذا؟... نعم ماذا بعدُ!... نعم وآمين.