Skip to main content

ناقة الانبار

 

منذ يوم الجمعة الماضية، وانا احاول ان اجيب على سؤال حيرني كثيرا، وهو: هل ان ما تحدث به خطيب الجمعة في ساحة الاعتصام في الانبار يعبر عن رايه الشخصي؟ ام انه يعبر عن اهلها جميعهم؟.

اذا كان الجواب بان المتحدث عبر عن رايه الشخصي، فلم لم نسمع احدا من ابناء الانبار يستنكر ما قاله، اما اذا كان المتحدث يعبر عن اهل الانبار فتلك مصيبة ما بعدها مصيبة، فالخطاب يدلل على ما يلي:

الف: ان قائله والراضي به والساكت عنه لم يتعلم من التاريخ ابدا، بل يدل على انهم نسوا ما ذكروا به.

باء: انهم يحرضون على اعادة عقارب الساعة الى الوراء، ليس الى زمن النظام الشمولي البائد فحسب وانما الى اكثر من مئة عام خلت.

جيم: انهم يحرضون على احتلال العراق للمرة الرابعة خلال قرن من الزمن.

دال: والاهم من كل هذا وذاك هو انهم نسوا بانهم سيدفعون الثمن كلهم باجمعهم لان من سنن الله تعالى، والخطيب يفترض ان يعرف ذلك اكثر مني كونه يلبس عمامة رجال الدين فوق راسه، انه عندما يريد ان ينزل البلاء على قوم غصب عليهم، فلا ياخذ الظالمين بما فعلوا فحسب وانما يعمم البلاء على العباد اذا سكت الباقون او قبلوا على الظلم ولو بايماءة من اصبع، فكيف باطلاق وتكرار الصلوات والتكبيرات؟.

فهذا القران الكريم يحدثنا عن غضب الله تعالى عندما نزل على قوم ثمود بعد ان عقر احدهم، نعم احدهم فقط، ناقة صالح، عمهم جميعا بالبلاء لانهم جميعا سكتوا على فعل الواحد الشنيع ورضوا به، فلم ياخذوا على يديه مثلا او يستنكروه او يرفضوه وباي شكل من الاشكال.

يقول تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا* إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا* فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا* وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}.

فالذي انبرى لعقر الناقة كان واحدا، وان شقي القوم كان واحدا، اما الجريمة فيصفها الله تعالى بواو الجماعة، وكأن كل القوم عقروا الناقة، فكان العذاب ان نزل عليهم جميعا.

ولشد ما استغربت كيف ان خطيب الجمعة تذكر كل التاريخ السئ منه وغير السئ الا انه نسي هذه القصة القرآنية التي تحمل بين ثناياها وفي كل حرف من حروفها حكمة وبلاغة وانذارا عظيما لكل الظالمين.

ايظن خطيب الجمعة بان بقية العراقيين سيسكتون على تحريضه الطائفي هذا اذا ما ترجمه الى فعل ومشروع يدعمه نظام القبيلة الحاكم في دول الخليج بالاضافة الى تركيا والولايات المتحدة حسب ما زعمه؟.

ايظن بان ضحايا الارهاب والديكتاتورية والنظام الشمولي سيتفرجون عليه وهو يحاول بكل ما اوتي من بلاغة خطابية ان يعيد عقارب الزمن العراقي الى الوراء؟.

ايظن بانهم سيفرطون بقطرة دم واحدة اريقت من اجل طي صفحة الماضي الاسود؟.
انهم جميعا سيقاتلون باسنانهم، ليس دفاعا عن اشخاص او احزاب او مذاهب او اديان، وانما عن العراق وعن دمائهم الطاهرة التي اريقت على ارض العراق من اجل التخلص من النظام الشمولي المستبد ولاقامة البديل الديمقراطي الذي ينعم تحت ضلاله كل العراقيين بالحرية والكرامة، واذا كان السياسيون الذي ورثوا السلطة بعد الطاغية الذليل صدام حسين قد اخطاوا او فشلوا او قصروا او انشغلوا بانفسهم وبمصالحهم الشخصية، فهذا لا يعني جواز التفريط بالمنجز التاريخي، واعني به النظام السياسي الجديد.

ان كل العراقيين وقفوا الى جانب ابناء محافظة الانبار وغيرها عندما تظاهروا واعتصموا مطالببين بحقوقهم الدستورية والقانونية المشروعة والتي لم اسمع ان اثنين اختلفا عليها، حتى الحكومة العراقية، الطرف الاخر من الازمة، اقرت واعترفت بالتقصير والقصور وحاولت ان تصحح بعضا منها.

وانما ايد العراقيون مطاليب المعتصمين لانها حقيقية ودستورية، اما ان تتحول الى خطابات يقطر منها السم الزعاف من الحية الرقطاء الممتدة من المحيط الى الخليج، واعني بها التمييز العنصري والطائفي الذي ابتليت به الشعوب العربية والاسلامية بشكل عام، فلا مجال في ان يقف العراقيون الشرفاء على التل يتفرجون على ما يجري ابدا، فالتمييز الطائفي والتحريض على التعصب الطائفي وتحويل الانظار عن الواقع باتجاه حروب وهمية، طائفية تارة وعنصرية اخرى، ان كل ذلك ما لا يجوز السكوت عنه ابدا.
نحن مع كل متظاهر سواء كان في الانبار او في غيرها ومع كل معتصم شريطة ان تتمحور مطاليبه في اطار الدستور والقانون، وليفعل ما يشاء وقتها، وليطالب باسقاط اي كان الا العراق ووحدته والنظام السياسي والديمقراطية فان كل ذلك خط احمر لا يستهين به او يتهاون عنه العراقيون ابدا، فاذا كانت المحاصصة والتوافقات الممجوجة والحزبية الضيقة والخلافات السياسية قد فرقتهم فان وحدة العراق ووحدة شعبه وتعايش طوائفه ستوحدهم، ومن يشك في هذا الكلام فليجرب، والتجربة اكبر برهان، طبعا ان لم يتعلم من تاريخ العراق، فكم مرت على العراق تحديات عظيمة كادت ان تحذفه من خرائط الجغرافيا، الا ان العراقيين ظلوا صامتين وصامدين لا تهزهم ازمة ولا يفرقهم تحدي، وكلنا نتذكر اعوام 2006 و 2007 عندما حاول الارهاب الذي صدره لنا نظام القبيلة الفاسد الحاكم في دول الخليج والمدعوم بفتاوى التكفير التي ظل يصدرها فقهاء البلاط والمغطى بالاعلام الطائفي المضلل، عندما حاول هذا الارهاب ان يهزم العراقيين ويفرق جمعهم ويدمر تجربتهم، الا انهم وقفوا له بالمرصاد حتى هزموه، ولم يتخلف عن واجبه الوطني لا شيعي ولا سني ولا عربي ولا كردي ولا مسلم ولا مسيحي ولا اي عراقي من اية شريحة اجتماعية كان، ولهذا السبب فان الارهاب لم يميز وقتها بين عراقي وآخر، وبين محافظة واخرى، وان ما نراه اليوم من محاولات فلوله لتصفية ابناء الصحوات (وكلهم سنة) الذين كان لهم الفضل الاكبر على العراق في التصدي للارهاب وتنظيماته الاجرامية، خير دليل على ما اقول.

ولقد صدق رسول الله (ص) الذي قال {اذا فسد العالم، بكسر اللام، فسد العالم، بفتح اللام} وها هو التاريخ يعيد نفسه ليظهر علينا مرة اخرى وعاظ السلاطين وفقهاء السوء وعلماء البلاط ليسمعونا كلاما طائفيا يحرض على العنف والكراهية والبغضاء بين ابناء الوطن الواحد، في مسعى منهم للتصيد بالماء العكر.

فيا ايها الانباريون، خذوا على ايدي فقهاء السوء قبل ان يعم عليكم غضب الله جميعا.

اثبتوا للراي العام ولكل العراقيين بانكم غير راضين على مثل هذا الكلام الطائفي التحريضي.

اثبتوا لنا بانكم اكثر وطنية مما يتصور علماء السوء عندما يطالبون من يقف خارج الحدود للتدخل في شؤوننا، فاذا اخطا مسؤول (شيعي) فسكت مثلا عن تدخل ايران في شؤون بلاده او استقوى بها على ابناء بلده، فهل ان ذلك يبرر للمسؤول (السني)الاستقواء بتركيا مثلا او قطر او المملكة العربية السعودية؟ اي منطق اعوج هذا؟.

اثبتوا للعالم بانكم قادرون على انتزاع حقوقكم الدستورية والقانونية من دون تدخل من احد، وبلا تحريض على العنف والكراهية والبغضاء.

لنسمع صرختكم في الجمعة القادمة تدوي في السماء عاليا وانتم تتبرأون من كلام المحرضين من فقهاء الفساد، قائلين (كلا كلا لعلماء السوء) و (الشعب يريد اقصاء فقهاء السوء عن منصات الشرف).

والا... فالساكت عن الحق شيطان اخرس.

و... الظالم والساكت عن الظلم والراضي به شركاء ثلاثة.

فاذا نجح علماء السوء في التحريض الطائفي فستكونون شركاءهم في الجريمة.

واذا تسببت خطاباتهم الطائفية في اشعال فتيل الحرب الطائفية بين ابناء الوطن الواحد فانتم شركاءهم، ولات حين مندم، اذ لا مجال وقتها للتهرب من المسؤولية ابدا.

واذا استجاب من هو خارج الحدود لنداءات علماء الوسوء بالتدخل، ان بالمال او بالسلاح او باي شئ آخر، فانكم مسؤولون عن تداعيات مثل هذه التطورات الخطيرة.

وتذكروا دائما بان لكل فعل رد فعل، والبادئ اظلم، اليس كذلك؟.

ايها الانباريون: اصغوا الى نداء العقل ودعوا خطاب الشيطان جانبا.

حكموا العقل والمنطق على التطرف والتزمت، حكموا خطاب الحب والوئام والاتحاد والشراكة والوحدة والاحترام المتبادل على خطاب الكراهية والتحريض الطائفي.

حكموا عقلاءكم، وعندكم الكثير والحمد لله، من علماء وفقهاء وفضلاء وسياسيين ومثقفين وشيوخ عشائر، ولا تفسحوا مجالا للمجانين منكم، وهم قليلون بحمد الله.

فمعكم معكم لا زلتم مع الوطن ومع النظام السياسي الجديد ومع الحاضر بعيدا عن الماضي، ومع الحكمة والعقل والمنطق بعيدا ان التزمت والتطرف والعنف بالكلام.

حافظوا على شرعية اعتصاماتكم ودستوريتها وقانونيتها بالابتعاد عن التطرف والعنف والتحريض على النظام السياسي، ودعوا التاريخ يحاكم نفسه، فان عدتم اليه عاد غيركم اليه كذلك، ولكل قدر.

ان مشاكلكم مع الحكومة في بغداد سياسية وليست طائفية والدليل على ذلك ان هناك شرائح اجتماعية في الوسط والجنوب تعرضت للظلم كما تعرضتم له، وسلبت بعض حقوقهم الدستورية كما سلبتم، وتجاوز عليهم السياسيون كما تجاوزوا عليكم، فلماذا كل هذا التحشيد الطائفي؟ ولمصلحة من؟.

هل تتصورون بان الحنين الى الماضي يمثل حلا لمشاكل العراق الحالية؟ ام ان الجدال السياسي المستند الى العقل والمنطق والحكمة هو الذي سيوصلنا الى الحلول السياسية اللازمة، والتي يعاني منها الجنوب كما الشمال، والوسط كما الغرب، فلماذا الركون الى الطائفية كلما مررنا بازمة سياسية؟ ولماذا التسلح بالتحريض المجتمعي كلما مررنا بمشكلة؟.

ولشد ما اضحكني خطيب الجمعة عندما خاطب الكرد بتلك العبارات السخيفة التي اضحكت الثكلى، فاين كان هذا العبقري، يا ترى، عندما ارتكب النظام الشمولي البائد افضع جرائمه بحق شعبنا الكردي المسالم؟ لماذا لم يتذكر وقتها بان الكرد مسلمون وانهم امتداد للمناطق الغربية من البلاد؟.

لماذا لم نسمع منه حسيسا، حتى، عندما ملأ النظام الشمولي البائد العراق بالمقابر الجماعية؟ لماذا لم يتذكر آيات الظلم والعدل حينها؟.

ايها الخطيب، اعرض عن هذا واستغفر لذنبك، ولا تحاول ان تكررها بالحديث الطائفي، فان التحريض على تدخل دول الجوار لعب بالنار، وستحرقك قبل ان تحرق غيرك.

لا تظن بان صمت الحكمة عند الاخر دليل ضعف او خوف ابدا، وتخطئ اذا ظننت بانك تخيفه بالصراخ.

انها ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين على ما اعتقد، اليس كذلك؟.

25 شباط 2013

 

NHAIDAR@HOTMAIL.COM