Skip to main content

نعم، إنه الپاپا فرنسيس ... فقير بين الفقراء

 

                                              المونسينيور د. بيوس قاشا

   في البدء

يُعرف الفقر بأنه حالة من الحرمان المادي تتجلّى في أشكال متعددة أهمها:

تناقص مستويات التغذية، تدهور الحالة الصحية، تراجع المستوى التعليمي والوضع السكني. وللفقر مخاطر عديدة منها: مخاطر صحية تتمثل في إنتشار الأوبئة والأمراض، مخاطر إقتصادية تتجلّى في إرتفاع معدلات البطالة، مخاطر إجتماعية وهي الأكثر إيلاماً ونراها في زيادة معدلات الجريمة والعنف والرذيلة والتخلف والعنصرية الجغرافية وارتفاع الغضب الشعبي الذي قد يؤدي إلى أعمال شغب وانقلابات، وموت الآلاف من السكان من الجوع والعوز دون أنْ نفكر أنّ خيرات الأرض ما هي إلاّ لأهل الأرض.

   الكنيسة والفقير

نعم، لا زال الفقر منتشراً رغم ما يتمتع به العالم من خيرات أرضية تنتشر من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. والكنيسة الكاثوليكية لا زالت تفتش عن الفقير أينما كان، لا لكي تكون بجانبه فقط، بل لتحميه من عولمة الدنيا المخيفة، وتوصله صوت المسيح في البشارة الحية، وتُفهمه أن الفقر ما هو إلا دعوة في تمجيد اسم الخالق وفي حمده وشكره، وهذا ديدن الكنيسة الكاثوليكية في الدفاع عن الفقير، ومرات عديدة يرتفع صوتها من على المنابر الدولية والمحلية والإقليمية تنادي بالوقوف مع الفقير.

     وأطلّ الپاپا

في الثالث عشر من آذار (مارس) عام 2013، أطلّ الپاپا بيرغوليو ــ أول پاپا من الأرجنتين كما هو أول پاپا من خارج أوروبا منذ عهد الپاپا غريغوريوس الثالث، وأول پاپا راهب منذ الپاپا غريغوريوس السادس عشرــ الذي اختار اسم فرنسيس، واختياره لإسم "فرنسيس" تيمّناً بقديس الفقراء إذ قال:"إن فرنسيس هو اسم السلام، وهكذا دخل هذا الاسم قلبي"، ولعلاقته بالفقراء فكرت في فرنسيس الأسيزي في الحروب، رجل الفقر ورجل السلام. ولقد روى ــ وهو في مَجْمَع الإنتخاب ــ قال: خلال الإنتخاب كنتُ إلى جانب رئيس أساقفة ساوپاولو كلاوديوهوميس، الصديق الكبير، شجعني عندما أصبحت الأمور خطيرة، وعندما بلغت الأصوات المؤيِّدة لي الثلثين، غمرني بذراعيه وقبّلني وقال لي:"لا تنسَ الفقراء" ــ أطلّ من على شرفة بازيليك مار بطرس، على  جميع المؤمنين المحتشدين في ساحة القديس بطرس ليمنحهم بركته الأبوية الرسولية.

? نعم، إنه الپاپا فرنسيس، وقد أتانا من بلاد بعيدة ومعقدة بقضاياها السياسية، وفيها تقلّد عدة مناصب، وتم إنتخابه پاپا في مَجْمَع يُعتبر الأقصر في تاريخ المجامع المغلقة، كما اعتبرت الصحافة الإيطالية إنتخابه ثورة في تاريخ الكنيسة.

? نعم، إنه الپاپا فرنسيس... عُرف عنه رجل هادئ في مسيرته وفي قيادته الحكيمة حيث الفكر والتأمل والتبصّر. يطلب عون الجميع في صلاة إلى رب السماء. ومقولته الشهيرة "أرجوكم إذكروني في صلاتكم"، كل هذه  الصفات قادته إلى أن يكون متواضعاً وبسيطاً وبعيداً عن كل التكلّفات في التقليدات، ومؤمناً أن الصلاة سبيل في عيش الإيمان. ناظراً إلى قضايا العالم بنظرة صائبة، متفائلة. مؤمناً أن يد الله ستقوده إلى الخير. مشجِّعاً الحوار بين أبناء المسكونة المختلفين في الثقافات والقوميات. وقد أظهر ماضيه في بلاده "الأرجنتين" دلالات عميقة في إتجاه مسيرة الكنيسة. إنه نهج جديد يقود إلى البساطة والتواضع وعيش الفقر، وينشد كنيسة فقيرة وقريبة من الفقراء ومن أجلهم وفي خدمتهم، وهذا ما جعله يتوقف بين الناس ليصافح الجميع وخاصة المعاقين والأطفال، ويقبّل المشوهين والمهمَّشين، فما كان منه إلا أن عمل على تعيين أسقفاً يوزع حسنات الپاپا للفقراء بدلاً من أن يكون بقربه في الإحتفالات الكنسية.

          ? نعم، إنه الپاپا فرنسيس... إنه الفقير الذي بقي يلبس الحذاء الأسود الذي أتى به من الأرجنتين، واضعاً صليب الحديد... إنه الفقير الذي يتسلّل، أحياناً، ليلاً خارج أسوار الفاتيكان لزيارة المرضى والفقراء وفي أحياء فقيرة من روما كما كان شأنه في بلاده، إضافة إلى إتصاله بالكثيرين تلفونياً ليشكرهم ويعزّيهم أو يردّ على طلباتهم. إنه في أرض الفقر يحيا ليعيش فقره، ويكون فقيراً شاهداً لآلام المتألمين والمظلومين من أجل إعلان شأن الحق والحقيقة. وفقره وحبه لهم جعله يعلن يوماً خاصاً عالمياً للفقراء خلال نوفمبر الماضي (2017)... وهذه هي لمسات الپاپا فرنسيس، پاپا الفقراء "كي لا تكن محبتنا بالكلام بل بالعمل والحق" (يو18:3).

? نعم، إنه الپاپا فرنسيس... قريب من الفقراء، فهو لا يملك شيئاً إلا حبه لفقره. يدافع عن فقراء بلاده الساكنين بيوت الصفيح، ومحبته لهم تجعله أحياناً يخاطر في سبيل محبته لهم. كما واصل شأنه مسيرته في ذلك حيث اختار ــ بعد أن أصبح "پاپا" أن يسكن في بيت الضيافة مع الزوار في بيت القديسة مرتا، وليس في القصر الرسولي، ليكون بذلك أول پاپا منذ پيوس العاشر لا يتخذ من القصر الرسولي مقراً دائماً لسكناه. كما ألغى العديد من التقاليد البابوية. غسل الأرجل في السجون في السنة الأولى لإنتخابه، وفي السنة الثانية أعاد رتبة غسل الأرجل في بيت للمعاقين. وفقره يظهر محبته لفقراء الدنيا أجمعهم، وهذا ما جعله يستقبل فقراء مدينة أسيزي، ويوجّه لهم كلمة عفوية قائلاً:"لا يستطيع المسيحي أن يعيش مع روح العالم ذلك أنه يقود إلى الغرور والكبرياء والعجرفة كما ويتعارض مع روح التطويبات"، ودعاهم إلى التجرد من روح العالم الذي يقتل.

? نعم، إنه الپاپا فرنسيس... إنه جواب لسؤال كل فقير ومهمَّش ومرذول... إنه جواب لكل عطشان إلى حيث هو ينبوع الماء الحي... إنه جواب لكل سائل أين أجد خبز الحياة؟، أين هي الكنيسة؟، أين هو إنجيل المسيح المخلص؟، أين هو المسيح الرب؟... إنه صوت المتألمين ونداء المظلومين، يزيل الحواجز بين الشعوب، ويمدّ جسور الوفاق والسلام والمصالحة من أجل بناء القِيَم وحمل الأخلاق عبر مسيرة الإنسان ليسود الخير، فلا طبقات ولا أجناس، حاملاً محبة واحتراماً عبر كلمات تهزّ القلوب بعد أن تفعل فعلها في العقول.    

? نعم، إنه الپاپا فرنسيس... بفقره وتواضعه وبساطة حياته، وبكلماته الرحومة وقوة صلاته الدائمة. علّم الكبار كما أفهم الصغار، كبار الزمن وصغار الدنيا، بأنّ أقوى سلطان هو الخدمة. فدعا الكهنة إلى أن يعرفوا رائحة غنمهم وخرافهم، وأوصاهم أن يسيروا أمام القطيع وفي وسطه وخلفه، وهذا الحب من أجل غنم القطيع، مما دعا قداسة الپاپا إلى يكون على المائدة مع الفقراء مشاركاً آلامهم، يبادلهم الكلمة، فهو لهم ومن أجلهم، فيزرع الأمل هنا والتعزية هناك، وينطلق ليعاني المرضى ويباركهم، ويواسي المعوّقين ويشاطرهم أتعابهم، ويزور المساجين ويَعِدَهم بالصلاة من أجلهم كي يكونوا يوماً ما في حرية إنسانية ببركة رب السماء.

? نعم، إنه الپاپا فرنسيس... يدعونا لنفتح قلوبنا ليسوع. لنساعد الفقراء والضعفاء. لنهتم بالمستضعفين في هذه الحياة. شاهدين لحقيقة إيماننا ومسيحيتنا، وفقرنا لغنى المسيح في الكنيسة كما في المجتمع الذي نعيش فيه. لنهتم بالمرضى الذين يعانون ولا يجدون مَن يهتم بهم. لنزرع الحب ونوزّعه لكي نجده في الآخر. لنساعد ونعلّم الأطفال، ونرعى كبار السنّ ونحترمهم. لنعمل  مع المهمَّشين والغير المقبولين في هذه الحياة لأنهم علامات محبة من قبل السماء. وحينما نعمل ذلك فنحن صورة المسيح الذي أوصانا بالمحبة والخدمة، وفيهم ومعهم تكون لمسات الحقيقة التي نحياها في مسيرة دعوتنا.

   الكرسي الرسولي

لقد أكد مراقب الكرسي الرسولي الدائم لدى الأمم المتحدة ــ في 18 تشرين الأول 2016ــ في موضوع إلغاء الفقر، قال:"إن الفقر يشكّل حلقة مفرغة يكون فيها التهميش السبب والنتيجة في الآن الواحد. فالتهميش يزيد من فقر العائلة البشرية ككل، فيما تهميش الفقراء يعني أيضاً حرمانهم من حقهم في العيش كأحد مكونات العائلة البشرية، وتجريدهم من آمالهم وأحلامهم ونجاحاتهم وإنجازاتهم". كما أكد مراقب الكرسي الرسولي أن إستئصال الفقر يتمّ من خلال إشراك الفقراء في الحياة العامة على الأصعدة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، وهذا يعني دعوة الفقراء ليكونوا "شركاء" بكل ما للكلمة من معنى، وهذا الأمر يساهم في تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وجعلها تعزز الشراكات من خلال الإفادة من خبرة وكلمة أشخاص يواجهون التحديات اليومية التي تطرحها آفة الفقر بصبر وشجاعة.

   الخاتمة

إننا مدعوون جميعاً لنكون فقراء، ونتجرد من ذاتنا، ولهذا بالذات ينبغي أن نتعلم المكوث مع الفقراء. كما نحن  مدعوّون للتجرد من خوف فتح الأبواب والخروج للقاء الجميع لاسيما الفقراء والمعوزين والبعيدين. ولنعمل على أهمية إتّباع طريق الفقر الذي يعني أن نتضامن مع المعوزّ، وما على الرعاة كما يقول قداسة البابا فرنسيس إلا" أن يعرفوا رائحة غنمهم وخرافهم، وأوصاهم أن يسيروا أمام القطيع وفي وسطه وخلفه، وهذه هي الحقيقة ان نكون لله  وان نكون اغنياء بفقرنا ، فهو الذي يغنينا هكذا يقول مار بولس. ولنذهب الى لقاء الفقير حيث ما هو ولندرك ان ربنا من اجل ذلك دعانا والمثل شاهد بيننا انه البابا فرنسيس ،فهو يعلمنا كي نذهب الى حيث السياجات والطرق وندعوهم ليدخلوا الى حيث السيّد الرب ينتظرنا وينتظرهم . نعم أختم فأقول: إنه قام بيننا فقير غني، فأغنانا بصلاته وبفقره... إنه الپاپا فرنسيس... نعم، إنه الپاپا فرنسيس... فقير بين الفقراء... نعم وآمين.