Skip to main content

هاجس البديل

 

   يقضي العراقيون حياتهم بحثا عن البديل، فلا تتحدث مع احدهم عن الوضع الراهن، حتى يبادرك بالسؤال: وما هو البديل؟ وهذه الحالة ليست جديدة مع الجيل الحاضر، فلقد سمعناها من آبائنا واجدادنا، وهم بدورهم سمعوها من آبائهم واجدادهم، انها حالة عراقية فريدة، يتوارثها الاحفاد عن الابناء عن الاباء عن الاجداد، ولقد وصل الحال بهم انهم باتوا يسالون عن البديل اذا ما تقدم احد ببديل، اي انهم يسالون عن بديل البديل، ولطالما كتبت عن ضرورة تغيير قانون الانتخابات، مثلا، لنضمن تغييرا في تركيبة مجلس النواب القادم، من خلال عدة مقترحات تسهم في صياغة البديل، اذا برسائل القراء تترى علي تسالني عن البديل.

   ان الشعوب الناجحة لا تسال عن البديل او تنتظر من يصنعه لها لانها هي التي تبادر الى صناعته وخلقه خلقا بنفسها بلا واسطة، اما الشعوب الفاشلة فلا تبادر الى التغيير قبل ان تضمن البديل، وياليتها تبادر الى صناعته بنفسها، ابدا، انما تنتظر من يصنع لها البديل ليقدمه لها جاهزا وعندها ستفكر هل ستغير ام لا؟.

   يروى ان مجموعة من الشباب (التنابل) كانوا يعملون عند صاحب مزرعة، ولشدة كسلهم وعدم مبادرتهم لاي عمل، قرر سيدهم ان يضعهم في عربة دفع ثلاثية العجلات ويذهب بهم الى البحر ليرميهم فيه ويتخلص منهم، فمر بالطريق بصاحب مطعم (باججي) فساله عن علة هؤلاء الشباب، فقص عليه قصتهم، فطلب منه صاحب المحل ان يتركهم تحت مطبخه خارج المحل يرمي لهم فائض طعام الزبائن فياكلوا ويشربوا مجانا بدلا من ان يرميهم في البحر، فهم بعد صغار في العمر سيتعلمون معنى الحياة اذا كبروا.

   سالهم سيدهم: ما رايكم بهذا الاقتراح الذي تقدم به (الباججي)؟ ام نستمر في سيرنا الى البحر؟ اجابوه: ومن الذي سيصنع الثريد بفائض الطعام الذي يرميه لنا (الباججي)؟ اجابهم الاخير: اكيد انتم، فانا علي ان ارمي لكم ذلك وعليكم ان تثردوا لتاكلوا، عندها اشار الشباب لسيدهم بعلامة فهم منها ان اغذ السير فالمقترح ليس عمليا، فهم كانوا (تنابل) لدرجة انهم لم يكونوا على استعداد لان يهيئوا الطعام لانفسهم من مفردات مائدة دسمة تصل اليهم بالمجان، لان ذلك، حسب رايهم، بديلا ناقصا وغير مكتمل، فاما ان يجهز الثريد (المجاني) بالكامل او ان يرميهم سيدهم في البحر، ليريحوا ويستريحوا.

   هذا هو حال بعض الشعوب والتي اخشى ان يكون الشعب العراقي من هذا الصنف لا سامح الله.

   فيوم ان كنا في المعارضة نقاتل الطاغية الذليل صدام حسين ونظامه البوليسي الشمولي كان العراقيون يتساءلون: وما هو البديل عنه اذا ما سقط النظام وتغير الوضع؟ وقبلنا، يوم ان كانت الاحزاب والحركات الوطنية تسعى لتغيير الوضع السياسي البائس سواء في العهد الملكي او ما قبله او ما بعده، كان السؤال الوحيد الذي يردده العراقيون، هو سؤالهم عن البديل.

   وها نحن اليوم بدانا نكرر نفس السؤال عن البديل للوضع الراهن، فلقد بدا الكتاب والشعراء والقادة والسياسيون والعلماء والفقهاء والخطباء والمثقفون والمفكرون وابن الشارع والعامل والفلاح والمهندس واستاذ الجامعة، والكبير والصغير والمراة والرجل والطفل الصغير، كلهم كلهم يسالون: ما هو البديل يا ترى اذا اردنا ان نغير الحال نحو الافضل والاحسن؟.

   في عهد الطاغية كانت ماكينته الدعائية تخيفنا ببدائل مرعبة فتقول: اذا سقط القائد الضرورة فسيكون البديل حربا اهلية او اقتتالا طائفيا او انهيارا شاملا، واليوم تهددنا ماكينات السياسيين الدعائية بالقول: اذا تغير الوضع فالبديل سيكون حربا كونية او انهيارا مجتمعيا او ما الى ذلك، فيما سمعت احدهم يقول: لو سقطت هذه الحكومة فسوف لن يبقى شيء اسمه (تشيع) وكأن حكومتنا العتيدة هذه هي التي حفظت التشيع (1400) عاما مضت على الرغم من عظم التحديات وحجم المخاطر التي مرت عليه طوال هذه القرون.

   قد يقول قائل: وهذا ما كان وسيكون بالفعل اذا ما تغير الوضع السياسي، فلقد صدقت نبوءة الطاغية الذليل فعندما سقط النظام تحول العراق الى نظام الغاب، وهو ما سيحصل اذا ما تغير الوضع الحالي.

   نعم، كل هذا صحيحا، ولكن: اتدرون لماذا؟.

   لان العراقيين لم يفكروا ابدا بالبديل ولذلك لطالما اتاهم البديل جاهزا على طبق من ذهب، ولهذا السبب ياتي في كل مرة على غير ما يشتهون ولا ينطبق على مقاساتهم، لا السياسية ولا الاجتماعية ولا الثقافية ولا اي شيئ آخر، ولو ان الشعب ياخذ بيده زمام المبادرة في كل مرة يحتاج فيها العراق الى تغيير سياسي واصلاح في بنى الدولة لجاء البديل متوافقا مع رغباتهم.

   انهم لم يحملوا انفسم ذرة عناء ايجاد البديل او خلقه خلقا على ايديهم، انهم يريدونه في كل مرة جاهزا.

   لماذا ياتي البديل في بلاد الغرب، وكذلك في الدول النامية كالاسيوية مثلا، ومنذ عقود، متوافقا مع حاجة المجتمعات الغربية، ولا ياتي كذلك عندنا؟ لماذا لا تتراجع احوال المجتمعات الغربية الى الوراء عند كل عملية تغيير سياسي؟ فيما هي كذلك في مجتمعاتنا؟ فالحال من سيء الى اسوأ، لماذا؟.

   ان على العراقيين ان يتداولوا سؤالا واحدا فقط عندما تتدهور اوضاع البلاد والعباد، والسؤال هو: هل اننا بحاجة الى التغيير ام لا؟ فاذا وصلوا الى قناعة اكيدة تدعم نظرية التغيير عندها سيبادرون فورا الى خلق البديل الافضل والاحسن، من دون ان ينتظروا البديل او يكرروا السؤال: وما هو البديل اذن؟ فكل عراقي مسؤول عن البديل، وان اي شعب يتساءل عن البديل وينتظره من الاخرين، انما هو يعيش المشاكل التالية:

   اولا: مشكلة ثقافية، تتمثل في تسلحه بالحجج من اجل الهروب من المسؤولية، والا فان الشعب الذي يتحمل مسؤولية التغيير لا يعدم البديل ابدا.

   ثانيا: مشكلة في الرؤية، تتمثل في انسداد الافاق امام عينيه، فان عدم قدرته على انتاج البديل من داخل الذات الوطنية، يشير بالاضافة الى ذلك، الى انعدام الثقة بالنفس، ولذلك تراه يبحث عن البديل اما في العواصم الاقليمية او في عواصم المجتمع الدولي.

   ثالثا: مشكلة سياسية ــ عملية، فهو يتصور بان الله تعالى خلق هذا السياسي او ذاك القائد او ذلك الزعيم ثم كسر القالب فلم يعد ينتج مثله في طول البلاد وعرضها، او كأن ارحام النساء عقمت فلم تلد ما يشبهه او افضل منه، وان هذه المشكلة يعود جذرها الى ثقافة (عبادة الشخصية) التي تتميز بها الشعوب المتخلفة، فالزعيم اوحدا والقائد ضرورة والمسؤول لا بديل عنه، والرمز مرسومة صورته في القمر او في السماوات العلا او على صفحات ماء البحر، واذا غابت صورته لحظة عن نواظرنا فاسمه محفور على شغاف القلب.

   ان الشعوب المتخلفة المبتلية بعبادة الشخصية لا يمكنها ان تتصور تغييرا ابدا، بل انها لا تجرؤ على رؤية التغيير في المنامات فضلا عن الواقع، ولذلك تراها تقبل بكل شيء، كالتخلف والتراجع والموت والحياة الذليلة والبؤس والحرمان، شريطة ان يبقى بسطال القائد الضرورة فوق راسها حاكما بشموخ.

   ان المجتمع الذي يعبد الاشخاص يخشى التغيير، كما ان من يربط مصيره بمصير القائد الضرورة هو الاخر ترتعد فرائصه من كلمة التغيير، لانه لا يتصور نفسه من دون ولي نعمته.

   رابعا: غياب السنن الكونية في طريقة تفكيرهم، فهم يتناسون مثلا ان الحياة تتغير لا محالة وان الظروف تتبدل حتما، فمن لا يبادر الى التغيير بارادته سيفرض عليه التغيير فرضا وهو مكره، وشتان بين تغيير يبادر اليه المرء فهو ياتي حسب ما يريد ويشتهي ومتطابقا مع مصالحه العليا، اما الثاني فعادة ما ياتي باجندات الاخرين شاء المرء او ابى، وتلك هي الصورة المتكررة في بلادنا وللاسف الشديد.

   خذ مثلا على ذلك، ما نمر به اليوم في العراق، فمن جانب يعتقد كل العراقيين بان الحال يجب ان تتبدل على الاقل لاسباب داخلية تتعلق بالامن والخدمات والحياة المعيشية وغير ذلك، ومن جانب آخر فان الهاوية التي تقف على حافتها المنطقة والتي بدات ظواهرها من القاهرة وبعدها تونس، على ما اعتقد اذا لم تستوعب الرسالة جيدا، لن تستثني العراق من اجنداتها، ولذلك يعتقد العراقيون بضرورة وحتمية احداث تغيير ما، ولكنك عندما تحاول ان تبدا التغيير الذي يبدا بخطوة يهب بوجهك الجميع ليتساءلون: وما هو البديل؟ وكأن التغيير المرجو يجب ان يحصل في جزر الواق واق او في جبال الهملايا، ليس لهم فيه دخل، فلماذا عليهم ان يفكروا فيه؟ او على الاقل ان يحاولوا؟.

   اما اذا شهدت احدى البلدان تغييرا من نوع ما، هب الجميع ليعبر عن امنياته بان يحصل نفس التغيير وبنفس الطريقة في بلاده، فاتذكر، مثلا، يوم ان عرفنا ان مشاهدة الدخان الابيض يتصاعد من مدخنة الفاتيكان فهو دليل وعلامة على توافق مجلس الكرادلة على تسمية البابا الجديد، قال الجميع، ويومها كان قادة الكتل يبحثون في موضوع تسمية رئيس مجلس الوزراء بعيد الانتخابات النيابية الاخيرة، وقد مر على ذلك عشرة اشهر، قال الجميع: متى سنشهد الدخان الابيض يتصاعد من مدخنة (اجتماع اربيل)؟ واليوم وعندما بادر المصريون الى التغيير الاخير، تمنى الجميع ان لو عندهم (سيسيا) عراقيا، وهكذا، ناسين او متناسين ان لكل شعب ولكل امة ظروفها وخصوصياتها، لا يجوز ابدا استنساخ التجربة في اي ظرف كان.

   انا اقترح على العراقيين ما يلي:

   الف: ان لا يتحدثوا بمشكلة الا ويشفعوها بالحل المقترح، ليكون حديثهم عن المشاكل حديثا بناءا، والذي يختلف عن الحديث الهدام بكونه يحمل معه البديل او الحل المفترض او المقترح، اما الثاني فلا يتعدى تعداد المشاكل وذكرها من دون اية بدائل او حلول، الغرض منه تهديم البناء بلا بديل وتحطيم معنويات الشارع.

   ان هذه الطريقة من الحديث والتفكير ستدفع بالجميع وبلا استثناء الى ان يفكروا في الحلول وقد يساهموا في تنفيذها، ما يساهم بدوره في توعية الشارع بالحلول وليس بالمشكلة فقط، فمن السهل على المرء ان يتحدث في المشاكل ولكن من الصعب ان يتحدث عن البديل او الحل المقترح.

   باء: ان يصرفوا من اوقاتهم في الحديث عن البدائل اضعاف الوقت الذي يصرفونه في الحديث عن المشاكل، فهي موصوفة بالكامل، لاننا نعيشها يوميا وهي تعيش معنا بشكل يومي، اما الحلول المقترحة فهي الغائبة او المغيبة، ولذلك فاذا تحدثنا عنها كثيرا وكررنا الحديث عنها فسنبلورها بشكل سليم وواضح، كل حسب خبرته واختصاصه وموقعه في المجتمع، وتاليا سنصنع رايا عاما لصالحها، وبالتالي لصالح التغيير.

   ان الحديث في المشكلة فقط هو حديث العاجزين، لانه حديث سهل وميسور لا يحتاج الى كثير عناء، اما حديث البدائل والحلول فهو حديث العقلاء والحريصين والمبادرين، وهو الذي يحتاج على جهد عقلي ما.

   جيم: ومن اجل ان لا يكون حديثهم في المقترحات والحلول نظريا وفي الهواء، فان عليهم، فردا فردا، ان يكتبوا ويدونوا ما يعتقدونه صحيحا وسليما، لايصاله الى من يهمه الامر، اما بشكل مباشر او بشكل غير مباشر، او على الاقل لصناعة راي عام يضغط باتجاه التغيير والاصلاح بالتي هي احسن، وذلك قبل فوات الاوان، شريطة ان يدع كل العراقيين عبارة (ميفيد) جانبا، فلا يتسلح بها احد كائنا من كان، فالظرف والمرحلة في غاية الخطورة فاذا ثقب احد مركبنا فسوف لن يسلم احد ابدا، والله المستعان.

   18 آب 2013

NHAIDAR@HOTMAIL.COM