Skip to main content

وإن كانت أيامنا قاسية.. فالميلاد بيننا

المونسينيور د. بيوس قاشا

في البدء

يقول بولس الرسول "ولما تمَّ ملءُ الزمان، أرسل اللهُ ابنَهُ( كلمته)  ، مولوداً من امرأة تحت الناموس، ليُفدي الذين هم تحت الناموس" (غلا 4:4)... هكذا كان مخطط ربّ السماء... إنها مسيرةُ الله نحو شعبِهِ الخاطئ ، فتجسَّدَ وسكنَ بيننا، وكما يقول القديس أوغسطينوس "نزل اللهُ إلينا ليرفَعَ الإنسانَ إليه"... إنها مسيرةُ حبٍّ وإيمانٍ تجسّدت بظهور الملاك مُعلناً فرحةَ ولادة طفل المغارة قائلاً للرعاة:"إنكم تجدون طفلاً ملفوفاً مُضجَعاً في مذود" (لو12:2).. إنه الحملُ الذي يُبطِلُ حِملانَ التقادم .إنه الكلمةَ التي أيَّدَها الروحُ القدس كان هو نورُ الناس، وفيه كانتِ الحياة، واللهُ كان الكلمة (يو1:1)" إن الله يبشركِ بكلمة منه إسمه المسيح" ( سورة عمران 38)  .وما الميلاد إلا هذه الحقيقة، إنه رسالةُ السماء لأبناء الأرض، ولكن لا أحدَ يُدركُ ذلك إلا الذي "وُلِدَ من عَلُ"( يو7:3).  ورسالتنا في أيامها قاسية ، وقساوتها بسبب الخطيئةُ التي لا زالت تعملُ في قلب الإنسان كما تشاء وكما يشاءُ هو، ولا مجال لنبذِها، فهي حلالٌ في حرام، وهي سيدةُ الموقف وسيدةُ العبيدِ والأحرار. هي عاشقةُ لوط وحبيبةُ هيرودس وشهوةُ داود، كما هي خطيئتُنا اليوم.فاليوم كلُّ شيءٍ مُباح، هكذا تُعلنه العولمةُ المزيَّفةُ عِبْرَ تلفازِها ومذياعِها والفيسبوك وآي باتِها، ويبقى صوتُ البابا بيوس الثاني عشر يرنُّ في الآذان بصداهُ الواسع "أنَّ الناسَ يؤمنونَ أنْ لا خطيئة اليوم".

فساد مقدس

أيامُنا قاسية، فقد شُوِّهت حضارتُنا بتشويهِنا للاخر المختلف، بِتُهَمٍ باطلة وبفسادٍ مقدس، وتبقى الدنيا لطالبيها يزمّرونَ فيها ويرقصون، وبكبريائِهِم يَقيسون مسافات الحياة ليكونوا فيها أمراء، بينما الحقيقة هي ان المولود في المغارة ما هو الا "الطريق والحق والحياة" (يو6:14)، كما أننا نقدّس الدنيا ونكرِّسُ أزلامَها في الأمر والنهي. فيها نعبدُ صَنَمَ الخطيئةِ والوثَنَ والإنسانَ، ونجلس على الكراسي لنحاكِمَ الآخرين الأبرياء كي نبرِّءَ أنفُسَنا نحن المتَّهمين، ونستأزر بالمناصبِ ونبخّر الفسادَ ساعاتِ الفجرِ والصباح والظهرِ والغروب والمساء، وكل ذلك مدَّعين أنّ الجنةَ واحةٌ لأحلامِنا، فنُعلنُها جنّةً موعودة كي يدومَ زَيفُهُم في تدمير الآخرين وقتل الحقيقة في صحّتها ورسالتِها المقدسة.فهم يقتلون ويحرقون ويهدّدون ويدنّسون باسمِ الدين كلَّ كلمةٍ وكلَّ عملِ الله الذي بناهُ بحبِّهِ لخليقتِهِ، فشوَّهوا مسيرتَه وغيّروا مفاهيمَهُ.

صورةالله

أيامُنا قاسية، نعم هُجِّرنا من بيوتِنا، ولا زال الألمُ حتى الساعة يملأُ قلوبَنا ويخيِّمُ على صدورِنا، والغفرانُ سلعةٌ بِعناها ولم نشتريها. ورغم ذلك فالمسيحية لا تكرهُ أشخاصاً فهم صورةُ الله إذ قال:"وخلق اللهُ الإنسانَ على صورتِهِ" ( تكوين 1) ، بل نكرَهُ أعمالَهم وشرورَها، وبسببها تُشوَّهُ صورةُ الخالق. وان كانوا يعملون  على قصرِ ثيابهم ،  وتطويلِ لِحاهم  ، وعنترةِ شواربِهم، وتنوع تسريحاتِهم ، وقّصات شعر رؤوسهم  ، باختراعاتِ عولمية مزيفة وآيات مفبركة. ولم يبقَ لنا إلا أن ندركَ عددَهُ ولونَه، ولكن لا حيلةَ في ذلك فالخالق العظيم أسمى، وعالِمٌ بكلِّ شيء فقد قال:"شعورُ رؤوسِكم كلُّه مُحصى" (متى 30:10). كما أرادوا أن نكونَ من أكاديميةِ الرحيل. وأخذنا نحملُ حقائِبَنا وإنْ كنا في بطونِ أمَّهاتِنا بدعوةٍ من إرهابٍ أو حوّاء أو مكاتبَ بيع التذاكر والتأشيرات بشرعيتِها أو بسرقَتِها، ونسينا أنّ الوطنَ أغلى من الإنسان، والترابَ مُلْكُ الأُصلاء. وما قيمةُ الإنسان بدون وطن. فالوطن حضنني في رحمِ أمّي، والوطن أرضعني حليبَ ترابي، والوطن هلَّلَ معي يومَ فرحي، والوطن أعادني إليه بالسلام يومَ نهاية عمري. إنه لأبي ولإبني ولحفيدي مهما طالَ أو قَصُرَ عمرُ الإنسان. ولكن الفساد والخطيئة جعلاهُ بعيداً ومرذولاً ومُداساً، وننتظر منه ساعةَ تموتُ رحمتُهُ، وما يزيد من قساوتِها وجود الفكر الداعشي الذي لا زال يكفّرنا ويضعنا في صفوف الغرباء. كما إنّ الخطابَ الديني لا زال ينشد بأننا لا ندخل جنَّةً قد ورثوها لحسابِهِم، وما ذلك إلا رسالةُ إبادةٍ وتدميرٍ للمكوِّن الأصيل. فقد أباحوا لأنفسِهِم التدميرَ والتهجيرَ والإستيلاءَ على أموالِهِم، ومن المؤسف إنه تشويه لحقيقةٍ، ولا يعرفون إلى أين هم سائرون، فقد أضاعوا بوصلة الحياة كما أضاعوا كلَّ شيء.

حصاد الحقيقة

أيامُنا قاسية، فاليوم بدأنا نخافُ حتى من ظلِّنا. بإطلاقةٍ واحدةٍ يكتبون لوحةَ قبورِنا. عِبْرَ أصواتِنا ينكرونَ حقيقتَنا، يسرقون أرضَنا ويقولون تلك مُلْكٌ لنا. إنها ايامٌ فيها يشوِّهونَ صورَ قديسينا. لم يعدْ لنا مكانٌ نسمعُ فيه حُكمَنا ونُعلنُ فيه حقيقتَنا وخوفَنا، فنكتبُ رحيلَنا لساعةِ الدنيا، ولا يكونُ للدموعِ آهاتٍ وحَسَراتٍ بل هزيمةٌ من دُنيانا.فبسبب خوفِنا تركنا بيوتَنا وحاراتِنا، قُرانا ومدنَنا، وأمست كنائسُنا بلا أنشودة، واصواتُ أجراسِنا خرساء، وهلهولةُ العرسِ بُحَّت أصواتُها، كما لا زالت قبورنا تنشد مصلّيها فلا من مجيب، وربما كان الضياعُ كما قال تلميذا عمّاوس:"وهل كان قلبُنا ملتهباً بنا" (لو32:24). ولكن مهما كانت الحياةُ قاسيةً بمسيرتِها ستبقى أرجلُنا تحرثُ أرضَنا وتزرعُ الرجاءَ والأملَ في حقولِ قلوبِنا، وسنبقى ننتظر حصاد الحقيقة بثمارٍ تعلنُ أزمنةَ التاريخ ومسيرةَ الحضارة، وسنبني قُرانا وكنائسَنا، وستبقى أجراسُنا تدقُّ وتُنشدُ "المجدُ للهِ في العلى...".

صراعات مذهبية

أيامُنا قاسية، فقد غرقنا في صراعاتٍ مذهبية وقومية وطائفية، بل أكثر من ذلك صراعاتٍ عشائرية وقَبَلية ومحلية وحتى وظيفية، ولا يجوز أبداً أنْ نموتَ ساكتين، أو أن نصمتَ صمتاً مخيفاً ومريباً أو أنْ نرحلَ خوفاً، فالمسيح السيد المولود يقول لنا:"أنا معكم حتى انقضاء الدهر" (متى 20:28). وأملُنا بحكَّامِنا المخلصين، وبرؤساءِنا الأمناء والأوفياء على رعايتِنا، بل أكثر من ذلك أملُنا في الذي أحبَّنا حتى الموت بأنه يكون معنا. فالأيام أيام الشهادة والحقيقة وليست أيام الكذب والتزوير،  والفساد ، والمصلحة ، والعمومية ، والعشائرية،  والطائفية المقيتة. كما أن الكثيرون يقولون لنا كلاماً جميلاً وطيباً ومعسولاً، وكثيرون يفتحون لنا أبوابَ بلدانِهِم وما ذلك إلا علاماتٌ إنسانية، ولكن لا يكفينا قولاً بل ما نحتاجه هو، نحتاج قانوناً يحكم لنا بحقوقِنا، ويفعّلون ما في نيّاتِهِم أقوالاً كي تحمل دستوراً وطنياً يحمي الترابَ والوطنَ والمواطن دون النظر إلى الديانة والأقلية والأغلبية.

تقسيمات شعبنا

أيامُنا قاسية، فلا مكانة لنا من الإعراب في مسيرةِ الوطن، والأغلبية شيعية مسلمة وأخرى سُنيّة مسلمة، والثالثة كردية سُنيّة وفيلية ثم التركمانية والشبك، ثم نحن المكوِّنات. ومن المؤسف هذه تقسيماتُ شعبِنا، فأين محلُّنا نحن وهذا إقرارُ التاريخ ومسيرةُ الأيام وليس إقرارَ أشخاصٍ. وكأنه مخطط إبادتِنا، وما أكبره وما أقساه. والتاريخُ مليءٌ بالمؤامرات وإنْ كان التاريخُ نفسُهُ ليس مؤامرة بل حواراً وتعايشاً. فهم يبغون اليومَ اقتلاعَ جذورِ المسيحية من الشرق باضطهادِ مؤمنينا علناً أو خفيةً، باشكالٍ مختلفة ، ولكن لنعلم أنه مهما كانت الصِعاب ومهما زاد الظلمُ والإضطهاد ستبقى المسيحية تبني جسورَ الحوارِ في كسرِ حواجزِ الإختلاف. وهذا ما يدعونا إلى عدم الهرب من الشرِّ والألم بل أنْ نقاومَ هبوبَ العواصفَ وأمطارَ الشتاء وسيولَ المياه ورياحَ الإضطهاد، وإطلاقةَ الحقد والكراهية، فلا نقبل أنْ نَفنى ونموت، فإمّا أنْ نوجدَ كشعبٍ أصيل وإلاّ فلا حقيقة في مسيرة الزمن لأنَّ معركَتَنا ليست مع اللحمِ والدم بل مع الأرواحِ الشريرة (متى 17:16).

لسنا هنا للبكاء

مهما تكن أيامنا قاسية فهي تدعونا إلى أن نغيّرَ ونعبرَ إلى الحافةِ الأخرى من جحودِ الإيمان وإيمان العاطفة إلى إيمانٍ نابعٍ من دماءِ الشهداء، فكانوا أوفياءَ لنكون نحن أمناء، ونحمل مسيحيَّتَنا ليس على أفواهِنا بل في عيشِنا عمقَ رسالةِ عماذِنا. ومسيحيتُنا ليست أنشودةً وتنتهي بل رسالة سامية تُنشدُ "قد حلَّ الولدُ المطلوب، ضمنَ المذودِ فوقَ التبنِ". فنحن لسنا هنا للبكاء رغم الأيام الظلامية والجاهلية، ونحن لسنا خرافاً بل نحن ضميرُ الشرق، ، نحملُهُ في مسيرةِ حياتِنا، ، في طريق الحضارة والثقافة والبناء. فنحن لا نموت، لأننا في  شرقِنا لنا رسالة، إنها رسالةُ الحوار والمحبة.

الخاتمة

          نعم ونعم، أيامُنا قاسية، ومع هذا فالميلاد آتٍ ، إنه يسكن بيننا، في ولادته يثمر  الرجاءٍ ويزهر الأمل ، حلَّ بيننا لأنه أحبَّنا، وفيه تمَّ ملءُ الزمان ، وليس زمانَ الأيام والساعات فقط، ولكن بمولدِهِ كانت حقيقةُ الخلاص، واكتمل مخططُ الله فهو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبر8:13 ). نعم، سنبقى نحملُ رسالةَ الخير والسلام والغفران، وسنبقى نُنشد مع الملائكة "المجدُ للهِ في العلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناس المسرَّة الصالحة".فمهما كانت ايامنا قاسية سيبقى الرجاء وافرا في مسيرتنا ومالئاً قلوبَنا كي لا نخاف ، إنه الرجاء ،إنه الميلاد ، إنه تجديدٌ لأيماننا  ولمسيحيتنا ، فالنبي اشعيا يقول " أَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّئاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ ( اشعيا 6:9). هذه هي الحقيقة تنشدها سماء الحياة ويبقى الوطنُ شاهداً لها . وما أجمَلَها فقد كتبناها بدمائِنا شهادةً بل إعلاناً. وعِبْرَ تربةِ وطنِنا نعلنُ عماذَنا ومسيرةَ إيمانِنا... نُعلنُ حبَّنا الموعودَ، وبكلماتِ إنجيلِنا نُعلنُ وَسْمَ حقيقتِنا... إنها حقيقةُ المحبة. فما نحتاجه أنْ نعزّزَ علاقاتِنا، ونثبِّتَ حقوقَنا في دستورِنا أولاً، ثم لا يجوز أنْ نهدأَ أو نسكتَ أو تُرهِقنا الحياةُ فالواجبُ أهم من أن نبقى نطرقَ أبوابَ الداعين من الأوطان. وما علينا إلا توحيدَ كلمتِنا ومبدأَ مسيرتِنا وهدفَ غايتِنا ورسالتِنا، وما ذلك إلا لأجل أجيالِنا كي لا نكون مهمَّشين أو منسيِّين.فإيمانُنا ليس إلا بولادةٍ طفلٍ إسمه يسوع المسيح الحي ،. فكل يوم ، هو ميلاد، وكل يوم ، هو تاريخ ومسيرة، وكلُّ يوم ، رسالة تنمو وتزدهر،  في عقولِنا وأفكارِنا. وليبارك صاحب العيد بلدنا وشعبنا وليحل السلام والامان في ربوع ديارنا من أجل عودة  مهجرينا الى ديارهم نعم وامين . نعم ولد المسيح هاليلويا .