Skip to main content

وجودنا صليب دائم

وجودنا صليب دائم

                                                             المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء

صحيح إن عالمَ اليوم عالمٌ مريضٌ في روحه وجسده وحواسه ، وإن كل ما في العالم يخيف ويزرع الهمّ، ويغدو الإنسانُ أكثرَ شراسةٍ في كراهيته لأخيه الإنسان إذ لا يرى فيه إلا عدواً ومنافساً.هذا ما نراه، وما نسمعه، وما نشاهده عبر التلفاز والمذياع وحديث الإعلام بجميع جوانبه وعديد منابعه وهذه كلها تؤرّق وجودنا ومسيرة أيامنا،اقولها شهادة للحقيقة نحن اليوم أمام مفترق طرق بل أمام ضياع مقياس زمننا وإشارات مسيرة حياتنا،نعم ،انها  أزمنة بائسة وأيام سود ونهارات متعبة وليالي مخيفة وسط المصالح المتبادَلَة والضمائر المشتراة، وفي زمن يُقدَّس فيه الفاسدون ويُبجَّل فيه شهود زور ومنافقون.

ايام قاسية

هل تعلمون إننا في وطن لا نعرف اين محلّنا وأين مكاننا بل نفتش عن ديارنا ونخاف أن نسكن فيها لأن الزمن غدّارٌ والأيام قاسية،وما نحن الا مرادهم وارادتهم  والأغلبية مسلمة بشيعتها وسُنّتها، والثانية كردية بسنّتها وفيليّتها، والتركمانية بعدها تتقدم  ومعهم الشبك والكاكائيين، ثم نحن يُقرأ إسمُنا وإسم وطنِنا، وما غايتهم إلا تقسيمات طائفية مهينة لمكونات الوطن المختلفين وخاصة الأصلاء منهم، ومن المؤسف إنهم يريدون أن يكتبوا تاريخاً جديدا كما فعل السابقون لمصالحهم وطائفيتهم ... ما هذا المسلك المشين؟، وما هذه الطرق البائسة؟، وما هذا القانون ؟، وما هذه الإرادة السيئة والمشبوهة؟.

عرش الامراء

ما أكثرهم في الدنيا شهود زور وكذّابون من أجل حقائق مزيفة ومنصباً مسروقاً ودولاراً مباعاً لأنانية دنيوية في تشويه حقيقة الإنسان بحماية كبار الدنيا وهمّة أوليائها الفاسدين والطائفيين والإعلاميين المدجَّجين بسلاح الدمار، والذين يجعلون أنفسهم علماء ومفسّرين وإداريين وقادة في زوايا حقيقة الحياة ليسكنوا في عرش الأمراء وينسون أنهم في ذلك ما هم إلا منتسبو الزوايا المظلمة الذين إذا كُشِف أمرهم أصبحوا علكة لسان من القاصي والداني، إذ "ليس خفيٌّ إلا سيظهر ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (لو17:8).

حقيقة ارضنا

نعم ، مرة يقولون لنا أنتم أصلاء ويبعدوننا عن حقيقة أرضنا ويوقّعوا لنا جوازات رحيلنا، أو يقبلوننا نازحين ومهجَّرين، أو ينعتوننا بأقليات بائسة، وفي ذلك لا سلاح لنا إلا الطاعة والخضوع والقبول بما حصل وما حلّ وبما يحدث لنا شئنا أم أبينا، فالتاريخ شاهد لمسيرة آبائنا وأجدادنا كيف كانوا أمراء الزمن عليهم في دنياهم وفي سهولنا وودياننا وأراضينا، وكم كانت الحياة بهية بشروقها على حضارتنا وثقافتنا، أما اليوم فنحن نباع ونُشترى بثلاثين من الفضة كما حصل للمسيح الحي، بل بأبخس الأثمان ليس إلا!!!.

فقراء الزمن

هل تعلمون يا أبناء شعبنا إن اختلافنا في المواقف المسيحية يعود إلى إننا قد بعنا أنفسنا واشترينا دولاراً مسروقاً من كبار فاسدين، وضيّعنا سياستنا، وفشلنا في إظهار مطالبنا، وتعرضنا إلى ضغوط كبيرة كي نبيع أرضنا لأطرافٍ قد ملكت إرادتنا وملأت بطوننا خبز الدنيا الجائع، وأصبحنا نخاف من ظلنا ومن سبب وجودنا ونحيا بلا حماية وحراسة حتى أراضينا التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا المخلصين المؤمنين الذين عملوا في كل مجال لينقلوا إلينا ملكيتها ونحن اليوم لا ندرك ذلك جيداً لأننا بعيدون عن الصلاة ومناجاة ربنا، وثانياً عن روح إنسانيتنا وعمق إخوّتنا، ولم نعد ندرك ماذا يعني الغفران والمسامحة "أترك كل شيء على المذبح..." (متى23:5-24) وذلك ليس سببه فقراء الزمن وبؤساء الحياة وعميان المسيرة بل كبار القانون والسلطان والكراسي كما المناصب والتي سُرقت وبيعت والمصالح شاهدة ، والرب يقول:"مَن كان فيكم كبيراً..." (متى26:20)، ومن المؤسف اننا أهملنا أنجيلنا ودستورنا المسيحي وجعلناه كتاباً لا يقرأه ولا يتعلم منه إلا صاعدو سفينة نوح ليس إلا!!!.

ذئاب مفترسة

ماذا لو عرف كبار الزمن حقيقتهم ووقفوا معلنين توبتهم ، قبل شعوبهم ،  وما هم إلا عبيد لمصالحهم، فيتنازلوا عما اشتروه بدولار أخضر، بمعانقةاستعراضية ، وبكلمة منمّقة ؟ولكن اقولها متى ندرك ذلك؟، ولكن مهما بقينا على ما نحن فيه لا يمكن أن نصعد مركب نوح أبداً أبداً. ومن المؤسف فيما يغلق كبار الزمان والمعابد آذانهم كي لا يسمعوا إلا كلماتهم وتبرئتهم من دنسهم وخطيئتهم، إنهم صغار الذئاب. لذلك أوصيكم يا أحبائي أن تعيشوا حقيقة مسيحيتكم في لقاء الألم، وقولوا الحقيقة في وجه كبار الدنيا والزمن وإنْ كلّفكم ذلك حياتكم،فالمسيح الحي ربنا يقول " قولوا الحق والحق يحرركم " (    ) وغاندي يقول " اقول الحق في وجه الأقوياء "  فثعالب التزييف وشهود الزور وحيتان الفساد وبائعو الإرهاب وحاملو الحقد وتجّار الكراهية لا زالوا يراقبونكم لكي يُميتوا إرادتكم وشجاعتكم وهم يعبثون في الأرض فساداً. فقد وصفهم ربنا بقوله:"امضوا وقولوا لهذا الثعلب" (لو32:3)، وما أكثرهم اليوم ونحن في زمن دواعش الكذب والنفاق والمراءات والمصالح. نعم، قولوا الحقيقة فلا يمكن أن تموت يوماً بل عودوا إلى دياركم فهي ملك لكم  وعمّروها ولا تخافوا من مسيرة الأبالسة الأشرار، فلا يمكن أن يموت الخير إذا ما كنتم أقوياء بالمسيح الحي....

ابناء شعبنا

مرة أخرى أقولها وبألم كبير وبآهات ساخنة وتمنيات غير مستجابة: وجدتُهم أصلاء ولكن مختلفين، والخلاف يسود انظاره كل طرف بعيداً عن الآخر، ينشدون الغرباء ولا يمدّون أياديهم لأبناء جلدتهم من عظمهم ولحمهم حسب قول آدم:"هذا عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تك23:2). وانتهى الاحتفال وكل طرف ينظر إلى الآخر باشمئزاز وبزاوية من عينيه مظهراً أنه لا يرى أحداً فيزيّف حقيقته رافعاً شعاراً "أبناء شعبنا"، ويا للأسف!. إن الواجب يدعونا في هذا الزمن أن نطرق أبواب أبنائنا لنظهر لهم إننا خدّامهم لأننا أوائلهم. علينا توحيد كلمتنا من أجل مسيرتنا الحياتية وليس تفريق مكوناتنا فنكون أحزاباً وحركات وممثلين، ناسين أن في ذلك لا نكون إلا صيداً سهلاً ومكوَّناً مهمَّشاً، وسيبقى صراخنا لا يسمعه إلا القادر على كل شيء  ، اما الراؤون الفاسدون، يعملون كل شيء كي نبقى بلا حقيقة من أجل حقوقنا، بل نحن كنا ولا زلنا وسنبقى كما نحن كنا ولا زلنا وسنبقى وما تلك إلا حالة الأعراب ، وأدركنا جيداً في ذلك إننا لا نعرف معنى المحبة (يو34:13) ولا نميزها عن معنى النفاق وتوابعه  (    ) ولا معنى الخدمة والتواضع، فتضيع الإرادة وتُدفن الحقوق ونموت نحن ويموت الوطن برحيلنا إلى الآخرة أو إلى المحيطات والبحار حيث الدنيا والضياع ليس إلا!.

اهلها ولها

لقد تعلّمنا فن الرحيل وعبور المحيطات بتأشيرة مزوَّرة، وبالوقوف أمام أبواب الإقامة لتكون يوماً من حصتنا لكوننا أضعنا بوصلة الإله والحياة والتراب، وغيّرنا اتجاهنا حسب إرادتنا وغايتنا وإنْ كانتا مزيَّفَتين ولكن لأن الحقيقة هكذا يجب أن تكون لأننا نحن نشاء، فنحن لسنا إلا إله الدنيا والمصالح والغايات، وكما يقول ربنا " ألم يقل الكتاب أنكم الهة " (     ) .  أن نكون في هكذا مسيرة ونحن ندّعي إننا أهلها وآلها، وإن الأرض أرضنا والهواء هواءنا، ولا ينقصنا شيء إلا مدحاً وتبجيلاً لمكانة مركزنا ولضخامة منصبنا ولعظمة وجودنا، بل أكثر من ذلك ما نحتاجه خنوعاً وركوعاً سجَّداً لننال بركتهم وحصتنا من الميراث الدنيوي الزائل... إنها كبرياء بأَمّ عينها، وأنانية بحقيقتها، ومصلحية بمركزها،وعشائرية بفحواها  ويبقى المسكين لعازر منطرحاً على تحت المائدة  (لو21:16) ينتظر الفُتات وإنْ كان يستحق أن يكون على المائدة، ولكن المصالح أروته كذلك ، والمراد هو السامي المتعالي شئنا أم أبينا... يا بئس هذا الزمان!!!.

احبائي : لا يجوز أن نبيع ضمائرنا الحية إلى إبليس الكراهية والأنانية وإلى ذوي المصلحة ومن أجلها، والذين يجعلون من البشر آلهة وينسون أن الله هو إله الحق والخير وإله السماء، وإنه خلقَ بشراً كفوئين، متواضعين، أذكياء من مواهب الروح، وليس أشرار يجالسون الكبار من أجل الدنيا ورؤسائها وزمانهم ومناصبه وكراسيه.

الارشاد الرسولي

انه الإرشاد الرسولي لكنائسنا الشرقية والمشرقية، ثمرة إجتماعات ودراسات وأخذ وعطاء بين الفاتيكان وكنائس الشرق من أجل المسار والمصائر، فقد ضاع صوته وسط طبول الحرب التي عادت إلى الشرق الأوسط لتُقرَع وسط أصوات الترنيم والصلاة للبابا فرنسيس من أجل إسكات تلك الطبول. فالشرق الذي هو جوهر الإرشاد لم يمنح سكانه هدوءاً وسكينةً لكي يفكر بطرق النزول بالإرشاد إلى الشارع وإلى حيّز التطبيق إلى جانب الحثّ على قراءته، فضاع صوت الإرشاد وسط ضجيج أصوات اللاجئين والمهجَّرين وأنين الطائرات التي نقلت عشرات الألوف من أبناء الشرق ومن بينهم ألوف مؤلَّفة من المسيحيين الذين يحثّهم على "البقاء" في الشرق وعلى الاستمرار بإغنائه بالفكر والعلم والتواضع. فوسط هذا الضجيج المكثَّف ماذا ترانا نعمل بالإرشاد. فبواسطته يجب الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية، ولكن لا زال اسم الله يُستَخدم لتبرير المصالح والسياسات، وتبرير لجوئنا إلى العنف، إن ذلك لفي غاية الخطورة. ولكن مهما كان سيبقى الإرشاد علامةَ انتصارٍ ورجاءٍ وأملٍ في حياة المسيحيين تماماً كما شاهد قسطنطين رؤية الصليب وسمع صوتاً يقول له "بهذه العلامة ستنتصر".

الخاتمة

أخيراً ، لنعلم إن مستقبلنا لن يتحقق في ظل انقساماتنا وما أكبرها، وما أكثر أطرافها، وما أعمق طائفيتها وقوميتها، ومن حق شعبنا أن يفتش عن مهرب أو ملجأ وسط تنامي الأحقاد والحركات المتطرفة وما أقساها إذا كانت منا وفينا.ولنعلم إن آلام القديسين وآلام شعبنا  هي ذات قيمة خلاصية إذا أُشركت بآلام الجلجلة وكوبدت باستسلام إلى مشيئة الله، بل بفرح، لأن الله تنازل وقبل إشراكنا في تدبيره الخلاصي الذي هو فرح الإرادة البشرية ولذّتها.فالله جعل الإنسان سيداً على الخليقة ليجمّلها بالفضائل لا ليشوّهها بالنقائص.نعم وجودنا صليب دائم وحمله لا يكون بالهزيمة والرحيل بل نزرعه بالرجاء والثبات ، ولا يمكن للرجاء إلا أن يكون في عمق الواقع هدفاً واحداً هو الوصول إلى الحقيقة والشهادة لها ومهما قالوا عنا وارادونا كفارا واهل ذمة فما نحن إلا اصلاء ، فليدركوا أنّ صليبنا ما هو إلا رسالتنا ولا يمكن أن ننكر حبنا للذي حمل الصليب من أجلنا فمنه تعلمنا أنّ وجودنا وحقيقتنا ما هي إلا صليب دائم وسنشهد لهذه الحقيقة ما دمنا في مسيرة الحياة ،وسنبقى اوفياء وأمناء لهذا الحب مهما شوِهَت الحقيقة وبيعت الدنيا والكراسي وليفهموا هولاء  اننا ابناء الحقيقة والشهادة  في رسالة المسيح الحي ومن له اذنان سامعتان فليفهم " (    ) ،  نعم وامين  .